عهد عمر بن الخطاب أنهينا في المقال السابق الحديث عن المنهج الشوري الذي اتبعه المسلمون بقيادة أبي بكر رضى الله عنه في اختيار عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاحظنا مدى تمسك الصحابة رضوان الله عليهم بمبدأ الشورى في اختيار الحاكم وكذلك في ممارسة مهام الحكم بالتزام الشورى. ثم تطرقنا سريعا لبعض أصول واوليات الحكم في عهد الفاروق رضي الله عنه. في هذا المقال نختم الحديث عن عهد عمر بن الخطاب بتناول بعض المبادئ الدستورية في عهده وسنركز على الشورى والعدل والمساواة والحريات ومؤسسة القضاء، وسيتم كل ذلك بإيجاز لا يقصد الاستقصاء وإنما لرسم ملامح هذه المبادئ في عهد الفاروق كما تم ذلك في العهد النبوي وعهد الصديق رضى الله عنه. ونود هنا أن ننوه لمن علق من القراء الكرام على أننا نقدم ما هو معروف وبعضهم اعتبره مكررا ونحن نتفق بأن بعضنا يعرف ما نكتبه وسيبقى البعض يعرف كل ما سنكتب ولكننا على يقين من أن بعضنا الآخر لا يعرف تفاصيل مما نكتب وربما لهؤلاء قصدنا الكتابة ولمن يعرف فتحنا بابا واسعا للتعليق والإضافة والنقد والنقاش، وبهذا تكتمل أدوارنا فمن لا يعرف ستكون أمامه الفرصة ليتعلم ومن لديه الثقافة ال
عهد عمر بن الخطاب أنهينا في المقال السابق الحديث عن المنهج الشوري الذي اتبعه المسلمون بقيادة أبي بكر رضى الله عنه في اختيار عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاحظنا مدى تمسك الصحابة رضوان الله عليهم بمبدأ الشورى في اختيار الحاكم وكذلك في ممارسة مهام الحكم بالتزام الشورى. ثم تطرقنا سريعا لبعض أصول واوليات الحكم في عهد الفاروق رضي الله عنه. في هذا المقال نختم الحديث عن عهد عمر بن الخطاب بتناول بعض المبادئ الدستورية في عهده وسنركز على الشورى والعدل والمساواة والحريات ومؤسسة القضاء، وسيتم كل ذلك بإيجاز لا يقصد الاستقصاء وإنما لرسم ملامح هذه المبادئ في عهد الفاروق كما تم ذلك في العهد النبوي وعهد الصديق رضى الله عنه. ونود هنا أن ننوه لمن علق من القراء الكرام على أننا نقدم ما هو معروف وبعضهم اعتبره مكررا ونحن نتفق بأن بعضنا يعرف ما نكتبه وسيبقى البعض يعرف كل ما سنكتب ولكننا على يقين من أن بعضنا الآخر لا يعرف تفاصيل مما نكتب وربما لهؤلاء قصدنا الكتابة ولمن يعرف فتحنا بابا واسعا للتعليق والإضافة والنقد والنقاش، وبهذا تكتمل أدوارنا فمن لا يعرف ستكون أمامه الفرصة ليتعلم ومن لديه الثقافة الكافية فنحن وأكيد الكثير من القراء سنكون سعداء بقراءة ما لديه من آراء وأفكار.
رابعا: من معالم الحكم الرشيد في عهد عمر
1- الشورى: أثر عن الفاروق رضى الله عنه التزاما بمبدأ الشورى وله في ذلك أقوال وأفعال عديدة منها: 1- "لا خير في أمر أبرم من غير شورى 2- "الرأي الفرد كالخيط السحيل والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض 3- "شاور في أمرك من يخاف الله عز وجل" 4- "الرجال ثلاثة: رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي ورجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً ولا يقطع مرشداً. 5- "يحق على المسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم، فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعاً لهم، ومن أقام بهذا الأمر تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبعاً لهم. وكان يحث قادة حربه على الشورى، فعندما بعث أبا عبيد الثقفي لمحاربة الفرس بالعراق قال له: "أسمع وأطع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر وخاصة من كان منهم من أهل بدر." 6- عند وقوع الطاعون بأرض الشام متوجهاً إليها، وبلغ عمر خبره فوافاه الأمراء بسرغ موضع قرب الشام وكان مع عمر المهاجرون والأنصار، فجمعهم مستشيراً، أيمضي لوجهه، أم يرجع؟ فاختلفوا عليه: فمن قائل: خرجت لوجه الله فلا يصدنك عنه هذا. ومن قائل: إنه بلاء وفناء، فلا نرى أن تقدم عليه. ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش، فلم يختلفوا عليه، بل أشاروا بالعودة، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر. وكان الفاروق يعتمد عدة إجراءات في إدارة مبدأ الشورى منها: 1- يبدأ بعامة الأمة أول أمره فيسمع منهم 2- عقد جلسات مع أصحاب الرأي من المسلمين، ويلتزم بما استقر عليه رأيهم. إن مما استقر عليه المسلمون الأوائل أهمية دور الأمة والمجتمع في إدارة شؤون الدولة ولذا سعوا إلى تطوير أساليب التواصل بين الأمة والحاكم وذلك للاستماع والمشاورة وكانت صلاة الجمعة ومواسم الحج من الوسائل التي اتبعها الفاروق في إدارة الشوى بين المسلمين. ومما تشاور حوله توليه قيادة الجيوش حيث كان رأيه أن يقود بنفسه الجيوش ولكن كان رأي الأكثرية من المسلمين أن يبقى هو لإدارة الدولة ويقود الجيوش غيره من المسلمين. وكذلك كان الفاروق رضى الله عنه يشاور في اختيار ولاة الأقاليم الإسلامية كما حدث في تولية الربيع بن زياد الحارثي نزولا عند رأي من شاورهم في الأمر. وكان للفاروق اهتماما خاصا برأي الشباب وكان يوفر لهم أماكن في مجلسه يشاركون فيها بآرائهم. كذلك كان الفاروق يوصي قادة الجيوش الإسلامية وولاة الأقاليم بأن يلتزموا مشاورة المسلمين معهم وكان يحدد لهم بعض أصحاب الرأي معهم ويحثهم على التشاور معهم والأخذ بما يقولون ومنذ ذلك ما قاله في كتابه لسعد بن أبي وقاص وهو يستعد لمعركة القادسية بعد أن أرسل إليه عمرو بن معد يكرب وطليحة بن خويلد فكتب له: "قد وجهت إليك وأمددتك بألفي رجل؛ عمرو بن معد يكرب وطليحة بن خويلد فشاورهما في الحرب" 2- العدل والمساواة عند الفاروق: فتح الفاروق الأبواب لوصول الرعية إلى حقوقها بغض عن نظر عما يميز هذه الرعية الدين أو العرق أو اللون أو المنصب، وتفقد بنفسه أحوالها، فمنعها من الظلم المتوقع عليها، وأقام العدل بين الولاة والرعية، وقد التزم قوله تعالى: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{ (المائدة، آية:8). 1- عمومية العدل أخرج الإمام مالك رحمه الله من طريق سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق. وكان يكتب لولاته فيقول لهم: "إني لم استعملكم على أمة محمد صلى الله عليه و سلم على أشعارهم و لا على أبشارهم، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا الصلاة وتقضوا بينهم بالحق وتقسموا بينهم بالعدل". 2- عمومية المساواة كان الفاروق يأمر ولاة الأقاليم أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم. وقد وجاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلاً: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم، قال عذت معاذا قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو رضي الله عنهما يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه: فقدم عمر فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين؟ قال أنس: فضرب، فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني. ومر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه سنة (جدب) بالمدينة وما حولها، فكانت تسقي إذا ريحت( ) تراباً كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى (حلف) عمر ألا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحي الناس من أول الحياء..." وقال: "كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم. 3- حماية الحريات الدينية في عهد عمر حرص الفاروق على حماية الحرية الدينية فأقرّ أهل الكتاب على دينهم؛ وأخذ منهم الجزية لعدم مشاركتهم في مهمة القتال، وعقد معهم المعاهدات، وحفظت معابدهم ولم تهدم وتركت على حالها وذلك لقول الله تعالى: } وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا { (الحج،آية:40). يروى أن الفاروق نفسه جاءته ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجة عنده فقال لها: أسلمي تسلمي؛ إن الله بعث محمداً بالحق، فقالت: أنا عجوز كبيرة، والموت إليَّ أقرب، فقضى حاجتها، ولكنه خشي أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام، فاستغفر الله مما فعل وقال: اللهم إني أرشدت ولم أكره. وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم وطقوس عبادتهم في معابدهم وبيوتهم، ولم يمنعهم أحد من ذلك لأن الشريعة الإسلامية حفظت لهم حق الحرية في الاعتقاد، وقد أورد الطبري في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيليا (القدس) ونص فيه على إعطاء الأمان لأهل إيلياء على أنفسهم وأموالهم وصلبانهم وكنائسهم( ). ومبدأ الحرية مهم ليضطلع المجتمع المسلم بدوره المطلوب منه فحرية التعبير عن الرأي سبب لنجاح الشورى في المجتمع وكذلك صيانة الحريات العامة تمكن المجتمع أفرادا ومجموعات من رقابة السلطة والعمل على تقويمها ويعزز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وربما نجد في حث الفاروق المسلمين على مخالفته والاعتراض عليه ما يؤكد إيمانه بضرورة تعدد الآراء في الأمة لضمان سلامة أداء السلطة ومن ذلك ما جاء في حوار عمر رضي الله عنه مع المسلمين فقد روي عنه أنه رضي الله عنه خطب ذات يوم فقال: "يا معشر المسلمين، ماذا تقولون لو ملت برأسي كذا ومال برأسه، فقام إليه رجل فقال: "كنا نقول بالسيف كذا، وأشار إلى القطع"، فقال الفاروق رضي الله عنه: "الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا اعوججت قومني" . إن الحرية مؤطرة بتوجهات المجتمع وقيمه التي يتم النص عليها في دستوره ومرجعيته الأخلاقية والقانونية ولذا لن نلحظ مجتمعا يقبل الفوضى تحت عنوان الحرية، ولا هدم القيم بحجة حرية التعبير. ولكن من المهم أن نؤكد على أن نقد السلطة وتقويمها والكشف عن فسادها واستغلال الوظيفة العامة لا تدخل في باب الفوضى بل هي من باب تأدية المجتمع لدوره في الحفاظ على هدف وجود السلطة؛ وهو خدمة المجتمع وتحقيق الغاية من وجوده. 4- القضاء يحمي العدل والحرية إن العدل والحرية يحتاجان لضامن يحميهما تعسف السلطة وكذلك ينظم وجودهما داخل المجتمع، وربما من المؤسسات التي ترعى هذين المبدأين هي مؤسسة القضاء، وقد اعتنى الفاروق رضي الله عنه بالقضاء ومن مظاهر هذه العناية: أ- تعيين قضاة مستقلين عن الولاة في الأقاليم الكبيرة ب- تحديد مستحقاتهم المالية بشكل يحقق لهم الكفاية التامة ج- وضع المبادئ والإجراءات التي يستعين بها القضاة لممارسة أعمالهم. واشتهرت من بين العديد من الوثائق التي وضعها عمر رضي الله عنه لتنظيم القضاء ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري وجاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله؛ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، بين الناس في وجهك وعَدْلِكَ ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرّم حلالاً، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه عَقْلَكَ، وهُدِيتَ فيه لرشدك: أن ترجع إلى الحقِّ، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التّمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعْرِف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك واعْمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحقِّ واجعل لمن ادّعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بيِّنته أخذت له بحقه وإلا استحْللت،عليه القضيّة، فإنه أنفى للشك، وأجْلى للعَمَى، المسلمون عدول، بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حدِّ، أو مُجرّباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السَّرائر، ودرأ بالبينات والأيمان، وإياك والغلق، والضجر والتأذي للخصوم، والتنكر عند الخصومات فإن القضاء في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذُّخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه: شانه الله فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام.
الكاتب: د. علي الصلابي
أ. إسماعيل كريتلي
المصدر: حركة التوحيد والإصلاح