قرأت في كتب الشافعية أنه لا يجوز لغير المتطهر مس كتب المنطق الخالية عن الفلسفة باعتبارها من كتب العلم المحترم أو المباحة، أما كتب المنطق المشتملة على الفلسفة فهي غير محترمة لاشتمالها على الفلسفة، وبالتالي يجوز مسها للمحدث، فما المقصود بكتب الفلسفة التي ندرسها حالياً سواء اليونانية أو الإسلامية القديمة والحديثة؟ وهل حكم المس هذا ينطبق على واقعنا اليوم كفتوى؟
الحمد لله وحده، وبعد:
فأرى السائل قد وهم فيما قرأ في كتب الشافعية، فالذي ورد في كتبهم هو الخلاف في مدى جواز الاستنجاء (الاستجمار) بكتب المنطق، لا في حكم مسها لغير المطهر، خلافاً لما فهمه السائل، علماً بأن مس المحدث لكتب المنطق وغيرها من كتب العلم – سوى التفسير – جائز بلا خلاف بين أهل العلم.
ومسألة الاستنجاء بكتب المنطق محل خلاف بين الشافعية، فأفتى الإمام ابن الصلاح والإمام النووي بجواز الاستنجاء بها؛ لما فيها من العلم المحرم، وأفتى آخرون بالمنع من ذلك؛ لأنها من العلوم المحترمة، وحملوا فتوى الجواز الواردة من الشيخين (ابن الصلاح والنووي) على كتب المنطق التي كانت في زمنهما، حيث كان فيها خلط كثير من القوانين الفلسفية المنابذة للشرائع، كما أفاده الشيخ عبد الحميد في حواشيه (حواشي الشرواني 1/178).
ويوضح هذا، أن الإمام ابن الصلاح الشهرزوري الشافعي (ت 643هـ) سئل عن حكم الاشتغال بعلم المنطق والفلسفة فأجاب في فتاواه (1/209 – 210): "الفلسفة رأس السفه والانحلال"، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة، والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليماً وتعلماً قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأي فن أخزى من فن يعمي صاحبه، وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين ...".
ومن هذا يعلم أن المقصود بكتب المنطق في كلام من أفتى بجواز الاستنجاء بها: تلك الكتب المشحونة بالضلال والزندقة من زبالة علم الكلام المصادم للكتاب والسنة، وفهم سلف الأمة.
هذا وقد عرف علم المنطق والفلسفة أحد علماء الشافعية المتأخرين وهو الشيخ زكريا الأنصاري (ت 925هـ) في كتابه اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم (ص: 137 ، 170)، فقال: "علم المنطق: علم بأصول تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، وفائدته: الاحتراز عن الخطأ في الفكر، وعلم الفلسفة – ويسمى عند بعضهم علم الأخلاق وتدبير المنـزل: علم بأصول تعرف بها حقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح، وفائدته: العمل بما اقتضاه العقل من حسن وقبح" أهـ.
هذا وقد عني كثير من المؤلفين في علم أصول الفقه بذكر بعض مباحث علم المنطق في كتبهم، وذلك ببيان أنواع الحجج، وكيفية وجه التحرز من الغلط في التصورات ... ومعرفة التعريفات بالحدود والرسم ... وكذا عنيت كثير من كتب الفلسفة ولا سيما في عصرنا الحاضر بمعرفة أهم الاتجاهات والمذاهب المعاصرة كالمذهب (المادي العالمي ، والعلمانية، والظنية، والقومية ، والرأسمالية، وغيرها، بالإضافة إلى معرفة مبادئ كل منها، وقصورها وانحرافها، وبيان وجهة النظر الإسلامية حولها.
ولذا فإنه لا يمكن القطع بتحريم علم معين إلا بعد النظر بما اشتمل عليه من علم من حيث موافقته للشرع أو مصادمته له؛ ولذا قال الحافظ ابن حجر الشافعي (ت : 852هـ): "ومن آلات الشرع من تفسير، وحديث، وفقه ، المنطق الذي بأيدي الناس اليوم، فإنه علم مفيد لا محذور فيه، إنما المحذور في المنطق: المخلوط بالفلسفة المنابذة للشريعة ... وقول ابن الصلاح وغيره بتحريمه، محمول على المنطق المخلوط بالفلسفة المنابذة للشريعة" أ.هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة كتابه (الرد على المنطقيين) "فإني كنت دائماً أعلم أن (المنطق اليوناني) لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد، ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأيت من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه" على هذا، فيقبل من تلك الكتب ما كان موافقاً للنقل، ويرد منها ما كان مصادماً له.
وبناء عليه فلا ينبغي إطلاق القول بجواز الاستنجاء بأوراق كتب المنطق والفلسفة لما قد تشتمل عليه من علم محترم؛ ولذا قال الموفق ابن قدامة في المغنى (1/104) "ولا يجوز الاستنجاء بما له حرمة كشيء كتب فيه فقه أو حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ لما فيه من هتك الشريعة، والاستخفاف، بحرمتها، فهو في الحرمة أعظم من الروث والرمة ، يعني فهما محرمان "أ هـ.
والله تعالى أعلم، وأحيل السائل الكريم إلى كتاب خزانة العلوم للدكتور عبد الله نذير (ص: 137 – 139، 170 – 171).