الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)

(القضاء على أنصار ابن الزبير بالشام وأهمية مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط)

الحلقة: السابعة والتسعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1442 ه/ ديسمبر 2020

بدأ مروان بن الحكم ـ بعد أن تزعم المعارضة الأموية ـ بتوحيد صفوفه والدخول في صراع ضد ابن الزبير، ولم يبدأ مروان بمواجهة ابن الزبير في الحجاز وإنما لجأ إلى انتزاع الأقاليم البعيدة، وذلك ليحسر نفوذه أولاً، ومن ثم يتيسر له القضاء عليه ، وجاء مروان بن الحكم إلى الحكم بعد عقد مؤتمر الجابية لأهل الشام، ولأهمية مؤتمر الجابية إليك تفصيل ما جرى فيه.
1 ـ مؤتمر الجابية:
ظلت الأردن موطن الكلبيين على ولائها للأسرة الأموية، وكان بعض زعماء الشام حريصاً على الاحتفاظ بالخلافة في الشام دون غيرها، ومثال ذلك: الحصين بن نمير الذي عرض على ابن الزبير مبايعته بشرط الانتقال للشام، ويبدو أن تمسك بعض زعماء أهل الشام باستمرار دمشق مركزاً للخلافة لم يكن أمراً عاطفياً غير مبرر، بل كان يستند إلى قناعة أكيدة، أثبتت الأيام صدقها، بمقدرة أهل الشام على تحقيق الحسم التاريخي، وبعمق الالتحام بين بنائها القبلي اليماني، والوجود الأموي بها، رغم ما تعرضت له الوحدة القبلية لأبناء الشام من هزات عنيفة، وتشقق مريع، حيث أفرزت الأحداث السياسية السريعة انذاك صراعاً عنيفاً بين القبائل القيسية واليمانية ظل يرسل انعكاساته على الحياة السياسية بعد ذلك، فقد بايع القيسيون في شمال الشام ابن الزبير المرشح الوحيد الظاهر القوة والقبول في هذه المرحلة، وازدادت قوة القيسيين بانضمام الضحاك بن قيس الفهري إليهم، وهو الرجل الذي أمضى تاريخه كله في الشام وفي خدمة معاوية وابنه يزيد، والذي كان يُشرف انذاك على شؤون دمشق منذ وفاة معاوية الثاني.
بينما تشبث الكلبيون، رغم الضعف الظاهري لمواقفهم في ظل هذه البيعة الجماعية لابن الزبير حتى من إخوانهم الشماليين والمصاهرة بينهم وبين الأمويين منذ تزوج معاوية منهم وتربى فيهم يزيد. ولكن الكلبيين فيما عدا ذلك يختلفون، فبينما يهوى بعضهم البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، وهو غلام صغير السن، يستنكف بعضهم من البيعة لغلام، في الوقت الذي يدعو فيه الاخرون إلى شيخ قريش عبد الله بن الزبير ـ ويفضل هذا الفريق البيعة لمروان بن الحكم.
وبعد محاولات لرأب الصدع بين القيسية واليمنية اتفق الطرفان على الالتقاء في الجابية ، للتشاور والاتفاق، فسار الكلبيون والأمويون إلى هناك، على حين غلب بعض أنصار ابن الزبير الضحاك بن قيس على رأيه فأطاعهم ومال نحو مرج راهط .
أ ـ الممارسة الشورية في مؤتمر الجابية:
في الجابية عقد الكلبيون مؤتمرهم وتشاوروا في أمر البيعة والخلافة، وكان مؤتمر الجابية مؤتمراً تاريخياً يمكن أن يوصف بلغة السياسة بأنه كان مؤتمراً دستورياً، وقد حضره أصحاب الشوكة والقوة والرأي من أهل الشام، وتمت الدعوة إليه بالرضا من عناصر أهل الشام المؤثرة في القرار المصيري، ونستطيع أن نلاحظ صورة لهذه التجربة الشورية النادرة حين نتصور أن أسماء المرشحين الاخرين للخلافة غير بني أمية قد عرضت للبحث، ولكن رجحت كفة مروان لعوامل كما يصور ذلك روح بن زنباع الجذامي أحد زعماء الشام؛ حيث قال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وصحبته من رسول الله ﷺ، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف، وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير، ويدعون إليه من أمره، فهو والله كما يذكرون، إنه لابن الزبير،، حواري رسول الله وابن أسماء بنت أبي بكر الصديق، ذات النطاقين، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله، ولكن ابن الزبير منافق قد خلع خليفتين، يزيد وابنه معاوية بن يزيد، وسفك الدماء وشق عصا المسلمين، وليس بصاحب أمر أمة محمد منافق، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان بن الحكم ممن يرأب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويستشبّوا الصغير، يعني بالكبير مروان بن الحكم وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية.
فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان ومن بعده لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص بعد خالد ، فكانت تلك المعادلة هي التي جمعت بين مختلف الاراء وأرضت جميع الاتجاهات ، وقد دارت نقاشات كثيرة، وكان العديد من زعماء القبائل وقادة بني أمية قد حضروا؛ ومن هؤلاء الزعماء: حسان بن مالك بن بحدل الكلبي، والحصين بن نمير السكوني، وروح بن زنباع الجذامي ، ومالك بن هبيرة السكوني، وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وعبد الله بن عضاة الأشعري، وغيرهم من الشخصيات المؤثرة والمعارضة لابن الزبير، وقد قلبت آراء عديدة وكثيرة حتى استقر الرأي على مروان، ولم يمتنع مروان عن تقديم امتيازات لقبائل كلب وكندة لكي يستميلهم، وكانت له اتفاقات سرية وخاصة مع بعض الزعماء، مما كان له الأثر الكبير في كسب المؤيدين له، فمروان خطط واستطاع بشتى الطرق الوصول إلى الحكم في بلاد الشام رغم الظروف الصعبة آنذاك .
ب ـ أهم قرارات مؤتمر الجابية:
كانت أهم قرارات مؤتمر الجابية: عدم مبايعة ابن الزبير.
استبعاد خالد بن يزيد من الخلافة لأنه غلام، والعرب لا تحب مبايعة الأطفال من ناحية، ومن الناحية الأخرى هم الآن في أزمة وهم أحوج إلى الرجل المجرب الخبير علّه يقودهم إلى النصر وينقذهم من وضعهم المتدهور.
مبايعة مروان بن الحكم وهو الشيخ المحنك، أن يتولى الخلافة بعد مروان على هذا الشرط شفوياً: الاستعداد لمجابهة وقتال المخالفين أتباع ابن الزبير في الشام بادأى الأمر .
جـ زعامة مروان لمعارضي أهل الشام قامت على الشورى:
قامت زعامة مروان لمعارضي ابن الزبير على أساس الشورى، إذ انتخب بالاختيار الحر من الذين شهدوا المؤتمر وهم أهل الحل والعقد والشوكة والقوة في الشام، وبويع بإجماع الحاضرين، فكانت طريقة توليته شورية دستورية، اتخذتها المعارضة لتقوية صفها، وبذلك صار في العالم الإسلامي إذ ذاك خليفتان عبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي
والمنتخب من قبل الأغلبية الساحقة للأمة، والزعيم المعارض لابن الزبير والمنتخب من أهل الشوكة والقوة في عاصمة الخلافة، ولما كان لا بد من توحيد الدولة الإسلامية فقد كان على أحدهما أن يتغلب على الاخر ويتم التوحيد ويجمع كلمة الأمة، فكانت الحروب والمعارك الطاحنة فيما بعد، حتى استقر الأمر لعبد الملك بن مروان بعد مقتل الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
ويبدو أن أهل الشام الذين عارضوا ابن الزبير واجتمعوا بالجابية قد ذهبوا إلى أن بيعة أهل الشوكة والقوة من عاصمة الخلافة ملزم لبقية الأقطار والأمصار كلها، وعلى الاخرين أن يسلموا لمن بايعوه لئلا ينتشر الأمر باختلاف الآراء وتباين الأهواء ، وقد نسب ابن حزم هذا الرأي لأهل الشام قائلاً: كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم، حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك، واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام .
والصحيح بالنسبة لعهد ابن الزبير هو الأخذ بمبدأ الأكثرية أو الأغلبية، وإن كان حجية إقرار بيعة أهل عاصمة الخلافة أخذ به في بيعة الصديق والفاروق وذي النورين والحسن بن علي، إلا أن الأمور قد تغيرت كثيراً؛ فالأخذ بمبدأ الأكثرية للترجيح في تنازع قد قرره الإمام الغزالي؛ حيث قال: يتم الترجيح بينهم بتقديم من انعقدت له البيعة من الأكثر، والمخالف للأكثر باغٍ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق . وذلك هو الرأي الذي نؤيده، لأن حسم النزاع بترجيح أكثرهم حوزاً لرضا المسلمين هو ما يقضي به مبدأ حق الأمة الإسلامية في اختيار الخليفة ، فضلاً عن الأدلة الشرعية المؤكدة لترجيح رأي الأكثرية أو الأغلبية؛ نذكر منها: أن الرسول ﷺ قد أخذ بما انعقد عليه رأي أغلبية المسلمين وإن بدا مخالفاً لرأيه وذلك حين علم بتحرُّك قوات المشركين في اتجاه المدينة لحربهم، فاستشار المسلمين فرأى فريق منهم وكان أكثرهم الخروج إليهم، وفريق اخر رأى ما راه الرسول نفسه وهو أن يظلوا بالمدينة، فلما رأى الرسول أن رأي الأغلبية مع الخروج أخذ برأيهم ووافق على الخروج للمشركين في أحد ، وغير ذلك من الأدلة.
وقد أخذ مشروع الدستور الإسلامي الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية والأزهر بفكرة الإلزام برأي الأغلبية؛ حيث نصت المادة (46) منه على أن تكون البيعة بالأغلبية المطلوبة لأصوات المشتركين في البيعة .
2 ـ معركة مرج راهط:
تمخض مؤتمر الجابية عن انتقال الخلافة الأموية من البيت السفياني إلى البيت المرواني، وانعقدت البيعة لمروان، وحل مؤتمر الجابية مشكلة الخلافة بين بني أمية؛ وكانت هذه خطوة حاسمة، ولكن لم يكن تثبيت هذا الأمر سهلاً، فلا زالت تعترضه صعوبات كبيرة، فالضحاك بن قيس، زعيم القيسيين المناصر لابن الزبير قد ذهب إلى مرج راهط وانضم إليه النعمان بن بشير الأنصاري والي حمص، وزفر بن الحارث الكلابي أمير قنسرين، وكان واضحاً أنهم يستعدون لمواجهة الأمويين، فكان على مروان أن يثبت أنه أهل للمسؤولية وحمل أعباء الخلافة، والدفاع عنها، وقد حقق أنصار مروان أول نجاح لهم بالاستيلاء على دمشق وطرد عامل الضحاك عنها، وكان أول فتح على بني أمية على حد تعبير ابن الأثير ، ولم يضيع مروان وقتاً، فقد عبأ أنصاره من قبائل اليمن في الشام كلب وغسان والسكاسك والسكون، وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، واتجه إلى مرج راهط، فدارت المعركة الشهيرة التي حسمت الموقف في الشام لبني أمية ومروان؛ حيث هزم القيسيون، أنصار ابن الزبير، وقتل الضحاك بن قيس، وعدد كبير من أشراف قيس في الشام، واستمرت المعركة حوالي عشرين يوماً، وكانت في نهاية سنة 64 هـ، وقيل: في المحرم سنة 65 هـ .
أ ـ نتائج مرج راهط:
ـ أعادت هذه المعركة الملك لبني أمية بعد أن كان مهدداً بالزوال، وحوّلت السلطة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني.
ـ تخلص الأمويين من الضحاك بن قيس الذي كان يعتبر معارضاً قوياً للأمويين، وتابعاً مخلصاً لابن الزبير.
ـ سقطت قنسرين في يد الأمويين وهرب واليها زفر بن الحارث فتوجه إلى قرقيسية، وكان عليها عياض الحارثي حسب قول ابن الأثير.
ـ سقطت فلسطين وهرب ناتل بن قيس الجذامي إلى ابن الزبير.
ـ سقطت حمص وقتل واليها النعمان بن بشير .
ـ اندلع الصراع بين اليمنية والقيسية، ودخلت العصبية القبلية مسرح السياسة العليا للدولة، وإذا كان يوم مرج راهط قد انتصر فيه الكلبيُّون فقد كان نصراً مؤقتاً، وكان الصراع بين العصبتين القيسية واليمنية من أسباب انهيار الدولة الأموية .
ب ـ أسباب هزيمة القيسيين:
ـ لم يرمِ ابن الزبير بثقله في تلك المعركة، وكان عليه أن يجيش الجيوش ويمد أتباعه بالرجال والأموال والسلاح ليقضي على المعارضين بالشام عندما كانت المعارضة لم توحد صفوفها بعد.
ـ اعتماد مروان على رجال دهاة خبراء في الحرب من أمثال: حصين بن نمير، وعمرو بن سعيد.
ـ عدم اشتراك أتباع ابن الزبير في الشام كلهم، فقد شارك ولاة الشام التابعين لابن الزبير بأعداد من الجنود فقط.
ـ ترك الضحاك مدينة دمشق بدون قوة تستطيع المحافظة عليها رغم أهميتها، وهذا سهل للأمويين الاستيلاء عليها وعلى ما فيها من أموال مكنت الأمويين من الاستفادة من هذا الخطأ .
جـ. بكاء مروان بن الحكم في مرج راهط:
وروي أن مروان بن الحكم لما جيء برأس الضحاك إليه ساءه ذلك، وقال: الان حين كبرت سني ودق عظمي، وصرت في مثل ظمء الحمار ، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض ! وروي: أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط وقال: أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك ؟! وفي رواية عن مالك، قال: قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة، ثم أصبحت فيما أنا فيه من إهراق الدماء، وهذا الشأن .
إن ندم مروان في مثل هذا الموقف وبعد أن تحقق له، وتأكدت له طرق الحكم، وتمهدت له سبل الوصول إلى غايته لدليل قاطع على ما كان يجيش به قلب مروان من عامل الخير، لقد كان هذا النصر جديراً أن ينسيه كل منغصات الحياة، وكان فوزه بالخلافة حقيقاً بأن ينفي عنه كل ما يسبب له الندم، ويعكر له الصفو، فما بال مروان يندم وهو في هذه الظروف التي تزيل الهم عن النفس وتبعد الندم لطالبي الملك والزعامة والسلطان ؟! وأغلب الظن أنه تورط في طلبه للخلافة، ودفعه إلى هذا المستنقع الاسن أناس لهم مصالح دنيوية لا تخفى، فشعر بوخز الضمير وخاف على نفسه من سوء الخاتمة بعد أن ولغت يده في دماء المسلمين من أجل الحطام الزائل.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022