الجمعة

1446-12-10

|

2025-6-6

صور "التمكين" في قصة أصحاب الأخدود

مختارات من كتاب (فقه النصر والتمكين)

الحلقة: الخامسة

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

إن قصة أصحاب الأخدود وما حدث للغلام مع الملك الكافر من أوضح القصص في تمكين الله تعالى للدعاة في تبليغ رسالتهم وأداء أمانتهم، وفيه دلالة على عدم وجوب أن يكون النصر والتمكين الإلهي لعباده كما هو متصور ومتوقع من قبل العباد بمنظورهم الدنيوي، بحيث يأتي النصر والتمكين ظاهراً للعيان بصورته الملموسة السريعة، ولذلك سرد لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذه القصة، والتي فيها من العبر والدروس الكثير في فهم معاني الصبر والثبات على الحق كصور من أهم صور التمكين الإلهي.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إلىَّ غلامًا لأعلمه السحر، فدفع إليه غلامًا كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، قال: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بنى أنت أفضل مني، ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علىَّ؛ فكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم بإذن الله، وكان للملك جليس فعمى، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني، فقال: ما أنا أشفى أحدًا، إنما يشفى الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أو لك رب غيري؟ قال: نعم، ربي الله وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بنى، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفى أحدًا، إنما يشفى الله عَزَّ وَجَلَّ، قال: أنا؟ قال: لا، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضًا بالعذاب لم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى الراهب، فقال: ارجع عن دينك، فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوا، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا، أجمعون، وجاء الغلام يلتمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله - تعالى -, فبعث به مع نفر في قرقور في البحر، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرّقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال: الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهمًا من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل، وضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.

فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدَّد فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنما تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبرى يا أمّاه فإنك على الحق» (1).

لقد انتصر الغلام بعقيدته على الملك الكافر، وتمكن منهجه الرباني في نفوس رعايا الملك المشرك الغادر، وثبتوا على عقيدتهم وضحوا بأنفسهم من أجل إيمانهم وعلموا البشرية معنى من معاني الانتصار.

قال سيد قطب رحمه الله: (في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان، وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية في نفوس الفئة الخيرية الكريمة الثابتة المستعلية، لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان).

في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة.

ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئًا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.

إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام، ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.

إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون - جميعًا - هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون كثير من الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس - أيضًا - إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال، لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم يخسرون أنفسهم، وكم كانت البشرية كلها تخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرّية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح، بعد سيطرتهم على الأجساد.

(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج: 8]. حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله، في كل أرض، وفي كل جيل.

إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئًا آخر على الإطلاق، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة (2).

-----------------------------------------

مراجع الحلقة الخامسة:

(1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب أصحاب الأخدود (3/2299) رقم 3005.

(2) انظر: معالم في الطريق: فصل: هذا هو الطريق، ص173.

يمكنكم تحميل فقه النصر والتمكين

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/655


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022