الجزاء بجنس العمل في الدنيا ..
مختارات من كتاب "الإيمان بالقدر"
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة الواحدة والأربعون
1 ـ الاستهزاء بالمنافقين والسخرية منهم في الحياة الدنيا:
ـ قال تعالى: "وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ** اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" (البقرة : 14 ـ 15) . قال تعالى: "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (التوبة: 67). وقال تعالى: "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ" (التوبة: 79).
هذا من باب المقابلة على سوء ضيعهم واستهزائهم بالمؤمنين، لأن الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة من يسخر منهم انتصاراً للمؤمنين في الدنيا، وأعد للمنافقين في الآخرة عذاباً أليماً، لأن الجزاء من جنس العمل (1).
2 ـ تسليط الظالم على مثله:
قال تعالى: "وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (الأنعام : 129). وقال تعالى: "وَلاَتَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ" (هود: 13). وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (المائدة : 51) . وفي قوله: "وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا": تدل الآية على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم (2).
3 ـ استئصال الله لمن أراد إيذاء رسله وأوليائه:
قال تعالى: "كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ" (غافر: 5).
وقال تعالى عن ظلم فرعون لبني إسرائيل ومحاولته إخراجهم من أرضهم: "فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا" (الإسراء : 103 ـ 104).
ويقرر القرآن الكريم هذه السنة في آيات أخر قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ" (إبراهيم : 13 ـ 14). وقال تعالى: " لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا" (الأحزاب: 60 ـ 62).
4 ـ نصر الله منوط بنصرته للدين والحق:
قال تعالى: "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي" (المجادلة : 21). وقال تعالى: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر : 51). وقال تعالى: "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (الروم : 47) .
وهذا النصر الإلهي مشروط بالإيمان ونصرة دين الله، وفي ذلك يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد: 7) ، وقال تعالى: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ" (الحج: 40) .
5 ـ سلب النعمة عمن منعها مستحقها:
يبين القرآن الكريم أن عقاب الله بالمرصاد لمن منع أحداً شيئاً يستحقه وأن سنة الله في هذا أن ينقلب مقصود المانع عليه ويعامله الله بنقيض مقصوده، فيأخذ الله ما بين يديه من نعمة ويسلبه ما كان سبباً في التجني على خلقه ويتركه في رماد، والشاهد على ذلك جلياً في قصة أصحاب الجنة التي قصّها علينا القرآن للاعتبار والعظة، قال تعالى: "إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَ اقَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ" (القلم، 17 ـ 27).
فأصحاب الجنة لما عزموا على منع الفقير حقه الذي كفله الله له عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال والربح والصدقة، فلم يبق لهم شئ ثم بين الله أن حكمه هذا سنة جارية، في خلقه وقضاء عام لمن وقع في مثله "كَذَلِكَ الْعَذَابُ" (القلم : 33) أي: هكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ومنع حق المسكين والفقير وذوي الحاجات (3).
وبالمقابل فإن الله قد ضمن لمن تعدى بخيره على غيره أن يرزقه من جنس ما أنفقه ويزيده فيه سواء في الدنيا أو في الآخرة، فقال: "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ: 39) . وقال تعالى: "وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" (البقرة: 272) . وفي الحديث القدسي: أنفق أنفق عليك (4).
6 ـ تيسير الله لمن يسَّر على عباده:
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة: 11) .
وفي قوله "يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ" مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة .
وأعلم أن هذه الآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة. وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس، بل المراد منه أيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه (5).
ويؤكد هذا الموضع من الشاهد قول النبي صلى الله عليه وسلم: من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (6).
وفي قوله تعالى: "وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" أي: إذا قيل: ارتفعوا وإنما يراد بذلك وإذا قيل قوموا إلى قتال عدو أو صلاة أو عمل خير أو تفرقوا عن رسول الله فقوموا (7)، فقد جعل جزاء امتثال أمره في تلك الآية أن رفع درجة أصحابها بالنصر وحسن الذكر في الدنيا وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة خاصة العلماء منهم الذين جمعوا بين العلم والعمل فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة (.
7ـ الجزاء بجنس العمل على مستوى الوسائل:
إن أي تدبير أو فعل من العبد مهما بلغ في اتقانه ونسجه فإن الله هو القاهر فوق عباده لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء، وفي هذه الغاية القصوى في استشعار العبد بالمراقبة، ومن ثم الامتثال بالعبودية.
ومن الآيات الدالة على هذه المسألة: قوله تعالى: "أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ" (الطور: 42) . وقال تعالى: "إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا" (الطارق: 15 ـ 16) . وقال تعالى عن صالح ـ عليه السلام ـ وقومه ثمود: "وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِمَ ما شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ" (النمل: 48 ـ 51) .
وقال تعالى: "وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (آل عمران : 54 ـ 55). وقال تعالى: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْيَقْتُلُوكَ أَوْيُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال: 30). وسمي جزاء المكر مكراً، وجزاء الكيد كيداً، تنبيهاً على أن الجزاء من جنس العمل (9).
---------------------------------------------
مراجع الحلقة الواحدة والأربعون:
(1) السنن الإلهية د.مجدي عاشور ص 229.
(2) المصدر نفسه ص 234.
(3) السنن الإلهية د. مجدي عاشور ص 241.
(4) مسلم (2 / 690) .
(5) السنن الإلهية مجدي عاشور ص 243.
(6) صحيح مسلم (4/ 2074) ، السنن الإلهية ص 244.
(7) جامع البيان للطبري (28/ 259) .
(8) أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي (2/ 221) .
(9) مفتاح دار السعادة لابن القيم (2 / 233) .
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: