في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
من أسباب الانتصار في معركة حطين:
الحلقة: الثمانون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ أغسطس 2020
1 ـ الإعداد وسنة الأخذ بالأسباب: لقد استطاع صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله ـ أن يوحِّد الأمَّة ، ويجمعها على كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيل الله ، وتحرير البلاد الإسلامية ، فأصبحت الشام ، ومصر ، والحجاز ، واليمن ، والعراق تحت إمرته ، وقيادته ، وحشد لهـذه المهمة العلماء، والفقهاء، والجيوش ، والألوف من المجاهدين ، وفي مقدِّمتهم العلماء ، والفقهاء يحرِّضون المقاتلين على القتال ، وكوَّن جيشاً برياً قوياً ، وأنشأ أسطولاً بحرياً مصرياً ، وأنفق عليه أموالاً طائلةً.
قال ابن شدَّاد: إن السلطان رأى: أنَّ نعمة الله عليه باستقرار قدمه في الملك ، وتمكين الله إيَّاه في البلاد ، وانقياد الناس لطاعته ، ولزومهم قانون خدمته ليس لها شكر سوى الاشتغال ببذل الجهاد ، والاجتهاد في إقامة قانون الجهاد، فسيَّر إلى سائر العساكر ، واستحضرها ، واجتمعوا إليه بعشترا في التاريخ المذكور 24 ربيع الثاني 583 هـ ورتَّبهم ، واندفع بهم قاصداً نحو بلاد العدو المخذول في وسط نهار الجمعة... وكان أبداً يقصد بوقعاته الجمع لا سيما أوقات صلاة الجمعة تبرُّكاً بدعاء الخطباء على المنابر ، فربَّما كانت أقرب إلى الإجابة.
لقد كان الإعداد والاستعداد ، فقد اختار الرُّماة ، وزوَّدهم بالنبال الكافية الكثيرة ، فملأ كنائنهم بها ، وقد بلغ ما فرَّقه على الرُّماة من نبال أربعمئة جمل ، ورصد حمولة سبعين ناقة في ساحة القتال ، وميدان المعركة ، وجعل هـذه النوق المحمَّلة بالسهام لمن تنفذ سهامه أن يأخذ منها ما يحتاج ضماناً لاستمرار القتال ، والرَّمي وعدم التوقف فيه حتى يتنزل النصر بإذن الله ، سبحانه وتعالى. وقد خاض صلاح الدين المعركة بجيشٍ قويٍّ ، ومهارة حربية منقطعة النَّظير؛ فضلاً عن اختياره لمكان المعركة ، وزمن وقوعها؛ حيث عسكر بجيشه على طبرية حائلاً بين العدو وبين الماء ، كما أعلن جهاده في شهر يوليه الذي يعدُّ أشد شهور السنة حرارةً، وأقلَّها ماءً في الصهاريج ، والغدران ، حتى أصبح العطش من أقوى الأسلحة بين يديه. لقد مارس صلاح الدين قول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ﴾ (الأنفال:60) فقد جمع الجيوش الإسلامية ، واستدرج الجيوش الصَّليبية ، واختار المكان المناسب للمعركة.
2 ـ سنَّة التدرُّج ووحدة الأمَّة: فقد قدَّم أمراء السَّلاجقة الكثير من أجل دحر الصَّليبيين ، وقد حقَّق عماد الدين زنكي إنجازاً عظيماً بوضعه لمشروع رائدٍ ، ربما رأى الكثيرون ـ في ذلك الوقت ـ استحالة تحقيقه على بساطته، وهو مشروعه الوحدوي التحرُّري ، والذي حقَّق ابنه نور الدين جُزْأَهُ الأوَّل ، وحقَّق صلاح الدين قسماً مُهمَّاً من جُزئه الثاني ، ولذلك نرى انتصار صلاح الدين في حطِّين تتويجاً لمشروع عماد الدين الوحدوي التحرُّري ، فلولا متابعة نور الدين لِخُطى والده في توحيد الشَّام، ثم توحيد مصر مع الشَّام؛ لما تحقَّق هـذا النَّصر؛ الذي تمَّ بفضل الله ، وجهود التوحيد؛ التي قامت على عقيدة الإسلام الصَّحيحة؛ التي تدعو للوحدة الإسلاميَّة؛ التي لا تفرِّق بين جنس ، أو لونٍ، أو طائفةٍ ، وإنما جمعتهم الأخوَّة في الله؛ التي لم تفرِّق بين الأتراك ، والأكراد ، والعرب ، والفرس، ولا غيرها من الأمم التي انضوت تحت راية الإسلام. قال الشاعر:
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً
وأينما ذكر اسمُ الله في بلدٍ
الشَّام فيه ووادي النِّيل سيَّان
عددتُ أرجاءه مِنْ لُبِّ أوطاني
ولقد تفاعلت العوامل التي ساعدت على الوحدة في عهد صلاح الدين مع الزَّمن ، والوقت، وخضعت لسنَّة التدرُّج، وأعطت ثمارها في معركة حطِّين ، وتُوِّجت بفتح بيت المقدس، وأصبح المؤمنون في توادِّهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ؛ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر ، والحمَّى.
وعلى الرَّغم من الجهود الكبيرة التي بذلها المستعمرون من أجل تمزيق أرجاء العالم الإسلامي؛ فقد نجحوا في تقطيع أراضي المسلمين؛ لكنَّهم لم ينجحوا في تمزيق قلوبهم ، وظلَّ المسلم محباً لأخيه المسلم ، ولسان حال كلٍّ منهم يقول:
لو اشتكى مسلمٌ في الصِّين أرَّقني
فمصرُ ريحانتي والشَّام نرجستي
وفي العراق أكفُّ المجد ترفعني
ويسكن المسجدُ الأقصى وقبَّتُه
أرى بخارى بلادي وهي نائيةٌ
شريعةُ الله لَمَّتْ شملَنا وبَنَتْ
أو اشتكى مسلمٌ في الهند أبكاني
وفي الجزيرة تاريخي وعنواني
عن كلِّ باغٍ ومأفونٍ وخَوَّان
في القلب لا شكَّ أرعاه ويرعاني
وأستريح إلى ذكرى خُراسان
لنا مقاماً بإحسانٍ وإيمان
فلم تأت انتصارات صلاح الدِّين من فراغ، ولم تكن النتائج إلا ولها مقدِّمات.
3 ـ بعد نظر صلاح الدين وحنكته السياسة: من الملاحظ: أنَّ صلاح الدين الأيوبي كان يدرك أهمية العمل المزدوج: توحيدا الجبهة الإسلامية ، وجهاد الصليبيين؛ نظراً لما بينهما من اتصالٍ وثيق ، وممَّا يذكر هنا: أنَّ عام 1186 م/582 هـ شهد الاتفاق مع عز الدين مسعود صاحب الموصل على أن يكون تابعاً له ، ولذلك استطاع أن يُخضع الأربع مدن الإسلامية الرئيسية الَّتي تحكَّمت في الظهير البري ، وهي: القاهرة ، ودمشق ، وحلب ، والموصل ، وجميعها سيكون لها شأنها البارز في مشروع الجهاد ، ومن زاويةٍ أخرى لا تُغفل: أنَّ الصليبيين وعلى رأسهم ريموند الثالث كونت طرابلس اتجهوا إلى عقد هدنة مع صلاح الدين ، وذلك عام 1185 م/581 هـ مدتها أربع سنوات ، ومن الملاحظ: أنَّ كلاًّ من الجانبين احتاج إليها من أجل تنظيم قوَّاته ، والتقاط الأنفاس.
ومما يدلُّ على بعد نظر صلاح الدين ، وحنكته السياسية مهادنته لبعض القوى الصليبية من أجل المحافظة على قوَّاته، وعدم تبديد فعالياتها في عمليات حربية كبيرة مستمرة؛ لا سيما مع الصَّليبيين ، ولذا نجده يتجنَّب طوال تلك الأعوام الدخول في معركةٍ حاسمة معهم ، ولا يتعجَّل الأمر ، بل يترك عوامل الانقسام ، والفرقة تلعب دورها في صفوفهم. وكان من أخطر قراراته السياسية قرار «السَّلام» المؤقَّت مع الصَّليبيين. ومن المهمِّ إدراك: أنَّ تلك المعاهدات عندما سيتمُّ خرقها ستعطيه المبرر لشنِّ حرب التحرير الشاملة؛ التي من ثمارها معركة حطِّين ، وكانت شرارة الصِّدام بين صلاح الدين الأيوبي ، والصليبيين أتت من الفارس الصَّليبي رينو دي شاتيون، أو أرناط ، وهو الفارس الذي أدخلته رعونته التاريخ من أوسع أبوابه ، فقد خرق أرناط الهدنة ، واعتبرها صلاح الدين إعلان حربٍ صليبي ، وكان الردُّ الأيوبي سريعاً ، أو حاسماً ، كما حدث في معركة حطِّين 583 هـ/1187 م. ومن بعد نظر صلاح الدين ، وحنكته السِّياسية: أنَّه قبل الدخول في معركة حطين قام بهـذه الأمور:
أ ـ تنظيم دولته وإقطاعات أمرائه: كان صلاح الدِّين بارعاً في تسوياته الرِّضائية ، وحفظ التوازنات لإرضاء الجميع ، وكان يفوِّض غيره في أمر الإدارة ، وينشغل كلياً بالمهمَّات الحربيَّة ، وكان يسند الأمور إلى أهلها ، ويشترط على نوَّابه، وحكَّامه في إدارة الأقاليم ، والإقطاعات معاملة الرَّعيَّة بالمساواة ، والإسهام في نفقات الجهاد، والاحتفاظ بجيوشهم جاهزةً دوماً للقتال ، وكان يهتمُّ بالولاء المخلص من أتباعه ، وقال مَرَّةً للقاضي ابن شدَّاد: إنَّني لو حدث لي حادث الموت ما تكاد تجتمع هـذه العساكر. وقد كتب منشوراً في الرقَّة ذات مرَّةٍ ، قال فيه: إنَّ أشقى الأمراء من سَمَّن كيسه ، وأهزل الخلق ، وأبعدهم عن الحقِّ مَنْ أخذ الباطل من النَّاس ، وسمَّاه الحقَّ ، ومن ترك لله شيئاً؛ عوَّضه الله ، ومَن أقرض الله قرضاً حسناً؛ وفَّاه ما أقرضه. وقد تمَّ ترتيب الدولة ، وإقطاعات أمرائه بعد حركة التوحيد التي استغرقت أكثر من عقدٍ من الزَّمن.
ب ـ تنظيم أطماع أسرته وإرضاؤها: وكانت الأسرة الأيوبية هي سنده ، وشاغله في وقت معاً ، وكانت مطامع أفرادها متَّفقةً مع مفاهيم عصره؛ لكنَّها لا تتَّفق مع طموحات صلاح الدين ، ومفهومه للدولة ، كانوا جديدين على عمليات الحكم ، يفهمونه على أنَّه امتلاكٌ لأراضي الناس ، ورقابهم؛ لا على أنه إدارةٌ لشؤونهم ، وتسيير لرعية هم مسؤولون عنها ، ومفهومه أتاه مِنْ تتلمذه على يدي نور الدين محمود الشهيد ، أمّا أسرته؛ فكان مفهومها مستقىً من واقع ما يجري في العصر ، وقد عانى صلاح الدين من تباين الحالين ، وعبَّر عن هـذا التباين يوم قال لأخيه العادل ـ وهو يطلب عقد تملُّكٍ لحلب مقابل 150 ألف دينار اقترضها صلاح الدين منه: أظننت: أنَّ البلاد تباع ، وتشترى ، أوَمَا علمت: أن البلاد لأهلها المرابطين بها ، ونحن خزنةٌ للمسلمين ، ورعاةٌ للدِّين ، وحُرَّاس لأموالهم؟! وقد انتهى الأمر بعد عدد من التغيرات ، والمبادلات في سنة 582 هـ كما يلي:
ـ أُعيد تعيين أخيه الملك العادل في مصر لا في ملكية قلعة ، ولا إقطاع كامل؛ ولكن بصفة وصيٍّ على العزيز عثمان بن صلاح الدين.
ـ عيَّن ابن أخيه تقي الدين عمر لإقطاع ميافارقين ، وديار بكر بعد أن تمرَّد في مصر ، أو كاد يخرج عن الطاعة وعن مصر ، وقد أقنعه القاضي الفاضل بعدم التهوُّر.
ـ وتمَّ إعادة ابن صلاح الدين الظَّاهر غازي لولاية حلب.
ـ بقي شيركوه بن ناصر الدِّين محمد في إقطاعه بحمص لم يتغيَّر.
ج ـ العمل الدبلوماسي الخارجي:
فقد أدرك صلاح الدين من خلال تجاربه ، ومسؤولياته خلال عشرين سنة ونيِّفٍ: أنَّ الإطار الخارجي للأحداث له أثره فيها ، وقد يمارس عليها تأثيراً خطيراً ، وأن القوى المادية التي بنى منها دولته قطعةً قطعةً لا تكفي لضمان الاطمئنان إلى مسيرة الأمور كما يشتهي ، ولا بدَّ من صداقات ، وهدنات ، وعلاقات سلام تقوم على القوى الخارجية ، بل والمعادية أحياناً ، فقد أقام في عام 577 هـ علاقات حسنة مع القسطنطينية ، وتمَّ فتح الجامع الإسلامي فيها ، وإطلاق حوالي مئتي أسير مسلم عندها ، وكان من نجاح هـذه العلاقة أن زاد العداء بين بيزنطة، وفرنجة الشَّام ، ممَّا زاد في اطمئنان صلاح الدين إلى بيزنطة ، وإلى قبرص.
ومن جهةٍ أخرى فإنَّ الأساطيل الإيطالية ـ أساطيل جنوا ، وبيزا ، والبندقية ، وأمالقا ـ كانت متصلة الورود، والتكاشف على السَّواحل الشَّامية، ولها امتيازاتها في المرافأى كلها، وهي تحمل الرِّجال ، والسلاح ، والمال إليهم دون انقطاع ، وترجع ببضائع الشرق ، والتوابل إلى الغرب ، ودورها الفعَّال هو الذي ساند الإمارات الفرنجية في المشرق على مدى قرابة قرن؛ ولولا أشرعتها ما بقيت هـذه الإمارات ، ولا قويت ، فكان على صلاح الدين أن يكبح من قوَّتها ما استطاع ، لا يجريها في البحر ، فلم يكن لديه الأسطول الكافي لذلك ، وإنما بفتح بعض مرافئه لمصالحها ، وهو يعرف أنَّ مصلحة هؤلاء التُّجَّار تغلب تديُّنهم ، وتجعلهم ينسون الحرمان الذي يمكن أن يرميهم به البابا؛ كما أنَّهم متنافسون فيما بينهم ، فاستغلَّ منافساتهم فيما بينهم ، وبذل كثيراً من الجهود لاجتذاب تجّارهم إلى مرافأى مصر، ممَّا لا يؤدي إلى تأمين منافعهم ، ولكن إلى تأمين منافع الدولة ، وزيادة مواردها ، ومنافع التجَّار المصريين من وراء الفرنج ، وقد أقام مع البيازنه ، والبياشنة (تجار بيزا) معاهدة سنة 569 هـ ، وثمَّ فقرةٌ في كتابٍ أرسله صلاح الدِّين إلى الخليفة في بغداد تؤكِّد وجود اتفاق مماثل مع جنوا ، والبندقية. تقول الفقرة: ما منهم إلاَّ مَنْ هو الان يجلب إلى بلدنا الة قتاله، وجهاده ـ أسلحة ـ يتقرَّب إلينا بإهداء طرائف أعماله ، وتلاده ، وكلُّهم قدتقرَّرت معهم المواصلة ، وانتظمت معهم المسالمة.
د ـ قضية الجهاد: وهي القضية المركزية التي شغلته؛ حتى وهو في صيده ، أو في خلواته مع أولاده ، وكانت الأشهر الأخيرة من سنة 582 هـ هي أشهر المكاتبات ، والرسائل لنوَّابه ، وعمَّاله ، والتابعين له في مصر ، والشام ، والجزيرة ، والاستعداد للحرب ، وكان لا يجهل بالطَّبع ما يجري في مملكة بين المقدس من منازعات ، ويعرف معنى الهدنة التي منحها لريموند أمير طرابلس الغاضب على ملك القدس. وعلى أيَّة حالٍ كانت جميع الخيوط في يد صلاح الدين في مطلع سنة 583 هـ ، وساق الله له قانون الفرصة عندما نقض أرناط عهده ، ومواثيقه ، فتعامل معه بسنَّة الأخذ بالأسباب ، والتوكُّل على الله ، عزَّ وجل.
4 ـ لا تقاتلوا عنِّي ، وقاتلوا في سبيل الله. وإخلاصه العظيم لله عز وجل: حين سمع صلاح الدين في غزوة حطين مسير الجيش الصَّليبي إليه؛ قال: جاءنا ما كنَّا نريد ، واجتمع أصحابه ، وأشاروا بالقيام بالغارات ، فرفض ، وقال: الرأي عندي أن نلقى بجميع المسلمين جمع الكفار ، فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان ، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا ، ولا ينبغي أن نفرِّق هـذا الجمع إلا بعد الجدِّ ، والجهاد ، وقال للجند: لا تقاتلوا عني ، ولكن قاتلوا في سبيل الله. وهـذا تطبيق عملي من صلاح الدين لقول الله تعالى:﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ﴾[النساء:76] . فقدخاض صلاح الدين حروبه مع الصَّليبيين انطلاقاً من مبدأ القتال في سبيل الله ، وقد كان يحرص كلَّ الحرص أن يكون القتال في سبيل الله ، وفي رفع راية الإسلام خفاقةً ، وتنكيس راية الشرك ، والمشركين من الصَّليبيين؛ الذين عبدوا الصَّليب ، وقدَّسوه ، فقد كان صلاح الدين مخلصاً في جهاده ، ومخلصاً في طلب الشهادة ، وكان يذكِّر قواده ، وأمراءه بضرورة الإخلاص لله ، وإرادة وجه الله في قتال الأعداء؛ حتى يثيبهم الله ثواب المجاهدين ، ويبلغهم منازل الشهداء الغرِّ الميامين من أمة سيدالمرسلين صلى الله عليه وسلم ولقد وفَّقه الله في معاركه ، وفتوحاته لكثرة إخلاصه ، كيف لا وهو إذا فتح بلداً من البلاد؛ لم ينسب النصر له، بل نسبه إلى الله عز وجل ، فهو واهب النصر ، وناصر المؤمنين الموحِّدين ، وهازم الكافرين المشركين ، فما أن ينتصر المسلمون بقيادته؛ إلا وخَرَّ ساجداً لله تبارك وتعالى شاكراً له على نصره. وهكذا حصل منه في حطِّين ، وغير حطين.
5 ـ تطبيق الشريعة وبركاتها في دولة صلاح الدين: يخبرنا التاريخ: أنَّ صلاح الدين ـ رحمه الله ـ حينما تولى الإمارة ، والسَّلطنة قد تاب إلى الله توبةً نصوحاً ، وهجر أسباب المعاصي ، ووسائل اللَّهو المحرَّم ، وندم على كل ما وقع منه في مراهقته ، فأقبل على الله تعالى بتوبةٍ صادقة ، واشتغل بالطَّاعات ، فأكثرمن العبادة ، وقد علَّم جنوده ، وغيرهم ، وربَّاهم على حسن الصِّلة بالله تبارك وتعالى ، والوقوف عند حدوده ، وهجر معاصيه ، والإقبال على طاعته ، وكان يهتمُّ بالشريعة ، وعلمائها ، ويطبِّق الأحكام الشرعية على الرعيَّة ، ويسوسها بالعدل، والسَّوية ، ويقمع أهل الضلالة، والفساد ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويتواضع للناس ، ولا يحابي محباً ، ولا يظلم مبغضاً ، بل كان يتجاوز عن المبطل إذا خاصمه بالباطل ، ويحيطه بكرمه ، وحسن أخلاقه ، وكان يأمر أهله ، وقواده بتوثيق الصلة بالله ، وبكتابه تلاوةً ، وحفظاً ، وتدبُّراً ، وعملاً ، وكان يوصي أبناءه بتقوى الله ، وطاعته ، ويذكِّرهم بالموت ، وما بعده.
وتأمَّل معي هـذه الوصية لولد من أولاده ـ الذين بلغوا سبعة عشرة ذكراً ـ وهو الملك الظاهر: أوصيك بتقوى الله تعالى، فإنَّها رأس كلِّ خير ، وامرك بما أمرك الله به ، فإنَّه سبب نجاتك ، وأحذِّرك من الدِّماء ، والدخول فيها، والتقلُّد لها ، فإنَّ الدَّم لا ينام. أوصيك بحفظ قلوب الرَّعية، والنظر في الدَّولة ، وأكابرها ، فما بلغتُ ما بلغتُ إلا بمداراة الناس. ولا تحقد على أحدٍ، فإن الموت لا يبقي أحداً. واحذر ما بينك وبين الناس ، فإنَّه لا يغفر إلا برضاهم وما بينك ، وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه ، فإنَّه كريم.
إنَّ للحكم بما أنزل الله اثار دنيوية ، وأخرى أخروية ، أما الاثار الدُّنيوية التي ظهرت في دولة صلاح الدين؛ فهي:
أ ـ الاستخلاف والتمكين: حيث نجد نور الدين ، وصلاح الدين من بعده حرصوا على إقامة شرع الله في أنفسهم ، وأخلصوا لله تحاكمهم في سرِّهم ، وعلانيتهم ، فالله سبحانه وتعالى قوَّاهم ، وشدَّ أزرهم حتى استخلفهم في الأرض ، وأقام صلاح الدين شريعة الله في دولته ، فمكَّن له الله ـ عز وجل ـ ووطَّأ له سلطانه ، وهـذه سنَّةٌ ربَّانيَّةٌ نافذةٌ ، لا تتبدل في الشعوب ، والأمم؛ التي تسعى جاهدةً لإقامة شرع الله ، وقد خاطب الله تعالى المؤمنين من هـذه الأمَّة واعداً إيَّاهم بما وعد به المؤمنين قبلهم ، فقال سبحانه في سورة النور: من بني إسرائيل. فإذا حقق الناس ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ أي: بدلاً عن الكفار ﴿كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ﴾من بني إسرائيل. فإذا حقق الناس الإيمان ، وتحاكموا إلى شريعة الرحمن؛ فستأتيهم ثمرة ذلك ، وأثره الباقي: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ ﴾[النور:55] فتحقيق التحاكم إلى الدِّين يتحقَّق به الاستخلاف ، وتحقيق الحكم به يوصل إلى الدين ، وهـذا ما رأيته في دولة نور الدين ، وصلاح الدين.
ب ـ الأمن والاستقرار: بعد أن أكرم الله صلاح الدين بإزالة الدولة الفاطمية ، وفتح مصر ، وضمِّ حلب ، ودمشق، والاتفاق مع الموصل في جبهةٍ إسلامية عريضةٍ؛ تيسَّر لدولته الأمن ، والاستقرار في تلك الربوع؛ التي حكم فيها بشرع الله؛ حيث نجد: أنَّ دولة صلاح الدين بعد أن استخلفت ، ومكَّن الله لها أعطاها دواعي الأمن ، وأسباب الاستقرار؛ حتى تُحافظ على مكانتها. وهـذه سنَّةٌ جاريةٌ ماضية، ضمن الله لأهل الإيمان ، والعمل بشرعه ، وحكمه أن بيسر لهم الأمن الذي ينشدون في أنفسهم، وواقعهم ، فبيده سبحانه مقاليد الأمور ، وتصريف الأقدار ، وهو مقلِّب القلوب ، والله يهب الأمن المطلق لمن استقام على التوحيد ، وتطهَّر من الشرك بأنواعه. قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ ٨٢﴾ [الأنعام:82] فنفوسهم في أمن من المخاوف ، ومن العذاب ، والشَّقاء؛ إذا خلصت لله من الشرك: صغيره ، وكبيره. إنَّ تحكيم شرع الله فيه راحة للنفوس؛ لكونها تمسُّ عدل الله ، ورحمته ، وحكمته.
إن الله تعالى بعد أن وعد المؤمنين بالاستخلاف ، ثم التمكين لم يحرمهم بعد ذلك من الأمن، والطمأنينة ، والبعد عن الخوف ، والفزع ، قال تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗاۚ﴾ [النور:55] . وإنَّ تحقيق العبودية لله ، ونبذ الشرك بأنواعه يحقِّق الأمن في النفوس على مستوى الأفراد ، والشعوب ، وهـذا ما حدث لصلاح الدين ، ودولته ، والمسلمين في عهده لمَّا انقادوا إلى منهج ربِّ العالمين.
ج ـ العز والشرف: إنَّ عزَّ صلاح الدين ، والأيوبيين ، وشرفهم العظيم؛ الذي سُطِّر في كتب التاريخ يرجع إلى تمسكهم بكتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم . إنَّ من يعتز بالانتساب لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم به تشرف الأمة ، وبه يعلو ذكرها؛ وقد وضع رجله على الطريق الصحيح ، وأصاب سنة الله في الجارية في إعزاز ، وتشريف من يتمسَّك بكتابه ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ﴿لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٠﴾ [الأنبياء:10]. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير هـذه الاية: فيه شرفكم، فهـذه الأمة لا تستمدُّ الشرف ، والعزَّة إلا مِن استمساكها بأحكام الإسلام ، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «إنا كنا أذل قوم ، فأعزنا الله بالإسلام ، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله؛ أذلنا الله» فعمر رضي الله عنه كشف لنا بكلماته عن حقيقة الارتباط بين حال الأمَّة عزاً ، وذُلاً مع موقفها من الشريعة إقبالاً ، وإدباراً ، فما عزَّت في يوم بغير دين الله ، ولا ذلَّت في يومٍ إلا بالإنحراف عنه. قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ ﴾[فاطر:10]يعني: من طلب العزَّة؛ فليعتز بطاعة الله ، عز وجل. وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ٨﴾[المنافقون:8] لقدا نتصر صلاح الدين ، والمسلمون في حطِّين بفضل الله ـ عز وجل ـ الذي طبَّقوا شرعه.
د ـ النصر والفتح: لقد حرص صلاح الدين والمسلمون على نصرة دين الله بكلِّ ما يملكون ، وتحققت فيهم سنة الله في نصرته لمن ينصره؛ لأن الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزَّته ، وقوَّته ، قال تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ﴾٤١ [الحج40 ـ 41] .
6 ـ العدل: إنَّ العدل أساس الملك ، ولهـذا أمر الله رسوله القيام به ، فقال:﴿وَأُمِرۡتُ لِأَعۡدِلَ بَيۡنَكُمُۖ ﴾ [الشورى:15] كما قال تعالى: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ﴾[النساء: 135] . وقال تعالى: ﴿كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ ﴾[المائدة: 8] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾ [النساء: 58] والعدل في الرعية ، وإيصال الحقوق إلى أهلها ، وإنصاف المظلوم يبعث في الأمة العزَّة ، والكرامة ، ويولِّد جيلاً محارباً ، وأمَّةً تحرَّرت إرادتها بدفع الظلم عنها ، رعية تحبُّ حكَّامها ، وتطيعهم؛ لأنهم أقاموا العدل على أنفسهم ، وأقاموا العدل على غيرهم ، وأما الظلم؛ فهو ظلماتٌ في الدنيا ، والاخرة ، وهو يؤذن بزوال الدُّول ، ولهـذا حرمه الله على نفسه ، وجعله محرماً بين خلقه ، فقال تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً ، فلا تظالموا». وقال تعالى: ﴿۞ٱحۡشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْوَأَزۡوَٰجَهُمۡ ﴾[الصافات: 22] وقال تعالى: ﴿فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ﴾[النمل: 52] .
ومن الحقِّ أن نسجِّل: أنَّ الدولة النورية في عهد نور الدين زنكي ، والدولة الأيوبية في عهد صلاح الدين الأيوبي قد ساد فيهما العدل في الرَّعية ، وتمَّ إيصال حقوق الناس إليهم ، فنشطوا إلى الجهاد ، والدفاع عن دولتهم .قال القاضي ابن شداد عن صلاح الدين: لقد كان يجلس للعدل في كلِّ يومِ اثنين ، وخميس في مجلس عامٍّ يحضره الفقهاء، والقضاة ، والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين؛ حتى يصل إليه إليه كلُّ أحد ، من كبير ، وصغير ، وعجوزٍ ، وهرمة، وشيخ كبير ، وكان يفعل ذلك سفراً ، وحضراً على أنَّه كان في جميع أزمانه قابلاً لجميع ما يعرض عليه من القصص ، كاشفاً لما ينتهي إليه من المظالم ، وكان يجمع القصص في كلِّ يوم ، ويفتح باب العدل، ولم يردَّ قاصداً للحوادث ، والحكومات ، وكان يجلس مع الكاتب ساعةً إما في الليل ، أو في النهار ، ويوقِّع على كلِّ قصة بما يطلق الله على قلبه، ولم يردَّ قاصداً أبداً ، ولا منتحلاً ، ولا طالب حاجة ، وما استغاث إليه أحد إلا وقف ، وسمع قضيته ، وكشف ظلامته ، وأخذ بقصَّته.
لقد قام صلاح الدين بالعدل في دولته ، وترك لنا وقائع ملموسةً ، وتطبيقاتٍ عمليةً مع الأمراء ، والرعية في المحافظة على حقوق الأفراد ، وحقوق الدولة ، وقامت هـذه التطبيقات على العدل ، والإنصاف ، وأرست هـذه القاعدة: «العدل أساس الملك، والظلم يؤذن بزوال الدولة». كما أنَّ العدل الذي أقامه صلاح الدِّين في دولته كان من أسباب انتصاره في حطِّين.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: