تسخير الريح لسليمان (عليه السلام)
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (73)
قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾:
أ- ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ﴾:
ومعنى ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ﴾ أي: وسخرنا لسليمان الريح.
- ﴿عَاصِفَةً﴾؛ شديدة الهبوب قوية، سريعة في مرورها.
- ﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾؛ الأرض هي الشام، وهي مسكنه، وهي في حالة الإياب بعد خروجه.
- ﴿بَارَكْنَا فِيهَا﴾ أي بركة حسية، بما فيها من الزروع والثمار والخصب والخيرات، وبركة معنوية، حيث جعل فيها مهابط الوحي والنبوات وآثار الأنبياء.
الريح مخلوق من مخلوقات الله وجندي من جنوده يأمرها فتأتمر، وينهاها فتنزجر، تارة يرسلها بالخير والرخاء، وتارة يرسلها بالهلاك والدمار والشقاء. وقد سخر الله تعالى هذه الريح لعبده المكرم ونبيه المبجّل سليمان (عليه السلام). ومن لطائف التعبير القرآني: أنه لما ذكر تسخير الريح لسليمان جاء بحرف اللام (لسليمان) ومع ذكر تسخير الجبال لداوود جاء بلفظ (مع) الدالة على الاستصحاب، ولما كانت الريح مسخرة لسليمان أضيفت إليه بلام التمليك لأنها في طاعته وتحت أمره. وقد وصفت الريح المسخرة لسليمان تارة بالرخاء، وتارة بالعصف، وبين الوصفين تغاير في ظاهر الأمر.
ففي قوله تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾، يكون معنى الآية فذللنا الريح تسير بأمره ليّنة طيبة حيث قصد وأراد من الأماكن والبلاد. قال الشعراوي -رحمه الله- في الريح المسخرة لسليمان (عليه السلام): فكأن الله تعالى جمع لهذه الريح صفة السرعة في (عاصفة)، وصفة الراحة في (رخاء)، وهاتان صفتان لا يقدر على الجمع بينهما إلا الله، فنحن حين تُسْرِع بنا السيارة مثلاً لا تتوفر لنا صِفَة الراحة والاطمئنان، بل يفزع الناس ويطلبون تهدئة السرعة.
أما ريح سليمان فكانت تُسرع به إلى مراده، وهي في الوقت نفسه مريحة ناعمة هادئة لا تُؤثِّر في تكوينات جسمه، ولا تُحدث له رجَّة أو قوة اندفاع يحتاج مثلاً إلى حزام أمان، فمَنْ يقدر على الجمع بين هذه الصفات إلا الله القابض الباسط، الذي يقبض الزمن في حق قوم ويبسطه في حق آخرين.
وقال الزمخشري: فإن قلت: وصفت هذه الرياح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى، فما التوفيق بينهما؟ قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة، على ما قال غدوها شهر ورواحها شهر؛ فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان، وهبوبها على حسب ما يريد ويتحكم.
ومن أوجه الجمع: أنها كانت عاصفة في بعض الأوقات وليّنة ورخاء في بعضها بحسب الحاجة.
وقيل كان الرخاء في البداية، والعصف بعد ذلك، وذلك على عادة المسافر، يبدأ مبطئاً، ثم يأخذ في الإسراع.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 332-335.
- تفسير الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن أحمد الزمخشري جار الله (ت: 538ه)، بيروت، دار الكتاب العربي، ط3، 1407م، (3/158).
- أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، دار عطاءات العلم، ط5، 1441ه، (3/158).
- التفسير الشامل للقرآن، أمير عبد العزيز، دار أرشيف العلم، ط1، 2010م، (4/2225).
- تفسير السعدي، ص693.
- أضواء البيان، (4/675 - 678).
- تفسير الشعراوي، (15/337).
- سليمان (عليه السلام) في القرآن الكريم، همام حسن سلوم، ص 106-109.
- البحر المحيط (6/227)
- تفسير الشعراوي (15/9613).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: