الأحد

1446-10-29

|

2025-4-27

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
الحملات النورية العسكرية على مصر

الحلقة: الثانية والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1441 ه/ يونيو 2020

قام الوزير الفاطمي ابن السلار السني المذهب بمحاولة الاتصال بنور الدين من أجل شنِّ عملياتٍ حربيةٍ مشتركةٍ على أساس أن يتقدَّم نور الدين بقواته من الشمال ، ويقوم الأسطول الفاطمي بمهاجمة المدن الساحلية الشامية الصليبية. وتوسط أسامة بن منقذ بين الجانبين ، وعرض عليه ابن السلار أن يأخذ الأموال ، والهدايا لسلطان حلب عارضاً عليه القيام بمنازلة طبرية ، في نفس الحين يقوم الأسطول الفاطمي بمهاجمة غزة ، وفي حالة موافقة نور الدين على ذلك يقدم له ابن منقذ الأموال لمساعدته ، فإن رفض؛ فعلى الأخير أن يجند بالأموال عدداً من الفرسان لقتال الصليبيين عند عسقلان ، غير أنَّه عندما بلغ بصرى ، وقابل نور الدين؛ أوضح له مدى انشغاله بأمر دمشق ، وأنها تقف سدَّاً منيعاً دون التعاون المشترك مع الفواطم؛ إذ إنها لم تكن حينذاك قد سقطت بعد في قبضته. ويلاحظ: أنَّ ابن السلار استمرَّ في صراعه مع الصليبيين ، فجهَّز في عام 546هـ/1151م أسطولاً أنفق مالاً وفيراً، وهاجم به المدن الساحلية الصليبية. وقد تحدَّث الذهبي عن ابن السلار ، فقال: وكان بطلاً شجاعاً، مقداماً، مهيباً، شافعياً، سنيّاً، ليس على دين العُبيدية، احتفل بالسِّلَفي، وبنى له المدرسة، لكنَّه فيه ظلم ، وعسف، وجبروت.
وتجددت المحاولات السابقة في عهد وزارة طلائع ابن رُزيك؛ الذي اتصل بنور الدين محمود عن طريق أسامة بن منقذ؛ غير أنَّ نور الدين لم يتعجَّل ، وكان يرى أنَّ الفرصة المناسبة لم تأت بعد ، وكانت بين أسامة بن منقذ ، والملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رُزيك مساجلات شعرية ، منها ما قاله طلائع بن رُزيك:
فقولوا لنور الدين لا فُلَّ حدُّه
تجهَّز إلى أرض العدوِّ ولا تَهِن
ولا حَكَمت فيه اللَّيالي الغواشُم
وتُظهر فتوراً إن مضت منك حارم

ومنها مما كتبه إلى أسامة بن منقذ:
يا سَيِّداً يسمو بهمتَّه
فينال منها حين يُحرم
أنت الصديق وإن بعدت
إلى الرُّتب العَليَّة
غيره أوفى مَزِيَّة
وصاحب الشِّيم الرَّضيَّة

نُنْبيك أنَّ جيوشنا
سارت إلى الأعداء من
فتُغيُر هذي بُكرةً
فالويل منها للفرنج
جاءت رؤوسهم تلوح
وقلائع قد قُسِّمَتْ
وخلائقٌ كثرت من
فانهض فقد أنبيت مجد
والْمُمْ بنور الدِّين وأعلمه
فهو الذي ما زال يخلص
ويُبيُد جمع الكفر بالبيض
فعساه ينهض نهضةً
إمَّا لنُصرة دينه
فعلت فِعال الجاهليَّة
أبطالها مئتا سَرِيَّة
وتُعاوِدُ الأخرى عَشِيَّه
فقد لقوا جهد البلية
على رؤوس السَّهمرِيَّة
بين الجنود على السَّوِيَّة
الأسرى تقادُ إلى المنيَّة
الدِّين بالحال الجَلِيَّة
بهاتين القَضِيَّة
منه أفعالاً وَنِيَّه
الرِّقَاق المشرفيَّة
يفني بها تلك البقيَّة
أو ملكه أو للحميَّة

وكتب إلى أسامة بن منقذ أيضاً ، فقال:
قل لابن منقذٍ الذي
فلذلك قد أضحى الأنامُ
كم قد بعثنا نحوَك
وصددت عنها حين رامَتْ
هلاَّ بَذَلْتَ لنا مقالاً
مع أنَّنا نُوليك صبراً
ونبثُّك الأخبار إن
سارت سَراياه لقصد
تُزجي إلى الأعداء
قد حاز في الفضل الكمالا
على مكارمه عيالا
الأشعارَ مسرعةً عجالا
من محاسنك الوِصَالا
حين لم تبذُلِ فِعَالا
في المودة واحتمالا
أضحت قصاراً أو طِوالا
الشَّام تعتسف الرِّمالا
جُرد الخيل أتباعاً تَوَالى

لرأيت للإفرنج طُرَّا
وتجهَّزوا للسَّير نحو
وإذا أبى إلاَّ اطِّراحاً
عُدنا بتسليم الأمور
في معاقلها اعتقالا
الغرب أو قصدوا الشَّمالا
للنَّصيحة واعتزالا
لحكم خالقنا تعالى

إلى أن قال:
فلو أنَّ نور الدِّين
وَيُسَيِّرَ الأجناد جهراً
ووفى لنا ولأهل دولته
يجعل فعلنا فيهم مثالا
كي يُنازِلَهم نِزالا
بما قد كان قالا

فأجابه بن منقذ بقصيدةٍ منها:
يا أشرف الوزراء أخلاقاً
نَبَّهْتَ عبداً طالما
وعَتَبْتَه فَأَنَلْتَهُ
لكنَّ ذاك العَتْبُ يَشْعَلُ
وأكرمهم فِعالا
نَبَّهته قدراً وحالا
فخراً ومجداً لن يُنالا
في جوانحه اشتعالا

إلى أن قال:
واشدْد يديك بودِّ
فهو المحامي عن بلاد
ومُبيدُ أملاكِ الفرنج
مَلِكٌ يتيه الدَّهرُ
جمعَ الخِلال الصَّالحات
فإذا بدا للنَّاظرين
فبقيتما للمُسلمين
نور الدين والقَ به الرِّجالا
الشام جمعاً أن تُذَالا
وجمعهم حالاً فحالا
والدُّنيا بدولته اختيالا
فلم يَدَعْ منها خِلالا
رأتْ عيونهمُ الكمالا
حِمىً وللدُّنيا جمالا

ولم يدخل نور الدين في تحالف عسكري مع طلائع بن رُزيك إلا أنَّه اهتمَّ بالاتصالات الدبلوماسية وقد وصلت في 552هـ/1157م سفارة من جانب نور الدين ، وتكرَّر ذات الأمر في العام التالي أي 553هـ/1158م وردت الدولة الفاطمية على تلك السفارة بأنَّه تم إعادة السفير النوري إلى بلاده ، ومعه هدايا ، وأسلحة تقدر بثلاثين ألفاً من الدَّنانير ، وعينيات تقدر بسبعين ألفاً من أجل دعم صراع نور الدين مع الصليبيين. ونجد سفارة أخرى من نور الدين في عام 554هـ/1159م. ومن جهة أخرى أظهرت الدولة الفاطمية ودَّها له ، فأرسل العاضد في عام 555هـ/1160م بالخلع إليه ، والواقع أنَّ التعليل المنطقي لذلك: أنَّ الفاطميين بعد أن فقدوا عسقلان عام 548هـ/1153م أدركوا أكثر من ذي قبل خطورة الصليبيين عليهم ، وضرورة الاستفادة من قوة الدَّولة النورية ، وثقلها السياسي ، والعسكري.
1 ـ دوافع فتح مصر عند نور الدين:
كان فتح مصر من أعظم منجزات نور الدين ، رحمه الله ، فقد تمكَّن من إسقاط الدولة الفاطمية العبيدية ، التي استمرَّت أكثر من قرنين تنشر الفساد السياسي ، والخلل العقدي في أنحاء العالم الإسلامي ، فهي التي أعانت الصليبيين في احتلال بلاد الشام بتحالفها ، وتامرها ، وهي التي تبنَّت المذهب الباطني ، ونشرته في ديار المسلمين ، وعندما سادت الفوضى إدارة الحكم فيها ، وتحكم الوزراء بالأمر دون الخلفاء؛ طمع الصليبيون بغزو مصر ، فهاجموها المرَّة تلو المرَّة ، وعندها جرد نور الدين محمود حملاته العسكرية لتخليص مصر من مطامعهم ، ولإعادة أرض الكنانة إلى منهج أهل السنَّة والجماعة ، وجمع كلمة المسلمين.
ويمكن تلخيص أبرز الدوافع التي أدت إلى غزو مصر بما يأتي:
الدافع الأول:
حالة الفوضة التي سادت مصر اخر أيامها ، فقد أصبحت الدولة تعاني كثيراً من مظاهر الإنحلال ، والفساد ، حتى صار من الأمور الشائعة أن يصبح الخليفة ، أو الوزير مقتولاً خلال الصراع الدائر بين الوزراء أنفسهم ، أو بين الوزراء ، والخلفاء ، فقد قتل الظافر على يد وزيره ، وتحكم الوزراء فيمن جاء بعده في اختيار من يشاؤون ، وقتل الوزراء بعضهم بعضاً ، فقد تولى الوزارة في عام واحدٍ ثلاثة وزراء: العادل بن رُزيك ، وشاور ، وضرغام ، فضعفت الدولة ، وسادت الفوضى في البلاد. ومن أواخر هذا الصراع خروج شاور من مصر ، بعد أن طرده «ضرغام» ومن ثمَّ استنجاده بنور الدين محمود ، الذي وجد الفرصة مواتيةً لتوحيد الوحدة الإسلامية في بلاد الشام، ومصر.
الدافع الثاني: إنَّ مطامع الصليبيين شجَّعت القائد المجاهد نور الدين على التفكير جدياً بضم مصر إلى الجبهة الإسلامية ، كما أن تلقيه العهد من الخليفة العباسي بإطلاق يده في بلاد الشام ، ومصر عام 549هـ شدَّ من عزيمته لإنجاز هذا الأمر.
الدافع الثالث:
من أقوى الأسباب التي أدَّت إلى القضاء على الخلافة الفاطمية العبيدية العامل العقدي ، فقد كانت دولة باطنية المعتقد ، إسماعيلية المذهب ، فرَّقت وحدة المسلمين ، وتامرت مراراً مع أعدائهم. فكان لا بدَّ من إقامة وحدة قوية في عقيدتها ، شرعية في توجهها ، تضمُّ إلى الخلافة العباسية أرض الكنانة مع بلاد الشام.
وفي هذه الظروف التي كان نور الدين الشهيد يتطلَّع فيها إلى غزو مصر؛ وصل إلى دمشق عام 559هـ الوزير الفاطمي شاور بن مجير السَّعدي طالباً النجدة منه ضدَّ من سلب منه منصبه قهراً ، كما وعد شاور مقابل مساعدة نور الدين له بثلث دخل البلاد المصرية سنوياً ، بعد دفع رواتب الجند ، وأن يكون نائباً عن نور الدين بمصر؛ إذا ساعده في التغلب على ضرغام عدوه ، ويكون أسد الدين شيركوه مقيماً بعسكره بمصر ، ويتصرَّف مع شاور في شؤون البلاد بأمر نور الدين. لكن نور الدين كان متردِّداً متريِّثاً ، يقدِّم إلى هذا الغرض رجلاً ، ويؤخِّر أخرى؛ حتى استخار الله في الأمر على ما هنالك من أخطار جسيمه ممثلة في الصليبيين بالسَّاحل وبيت المقدس ، إضافة إلى شكِّه في إخلاص شاور السَّعدي. ثم جهز نور الدين الحملات المتوالية ، ووجَّهها نحو مصر منذ عام 559هـ حتَّى 564هـ بقيادة أسد الدِّين شيركوه.
2 ـ الحملة النوريَّة الأولى: 559هـ:
قرَّر نور الدين محمود إرسال حملة عسكرية إلى مصر بقيادة أسد الدين شيركوه لتحقيق هدفين مبدئيين:
ـ الوقوف عن كثب على أوضاع مصر الداخلية تمهيداً لضمِّها ، وبخاصةٍ أنَّ شاور وعده إنْ هو عاد إلى منصبه ، سيتحمَّل نفقات الحملة ، ويؤمن أسد الدين شيروه ، وجنده في مصر.
ـ إعادة شاور الوزير الفاطمي المخلوع إلى منصبه.
وعلم ضرغام بالاستعدادات التي تجري في دمشق لتجهيز حملة لمساعدة شاور ، فاحتاط للأمر ، واستنجد بعموري الأول في محاولة منه للدخول في لعبة توازن القوة ، وعقد معه اتفاقاً لمساعدته ضدَّ نور الدين محمود ، وتعهد له بالمقابل أن يدفع جزية سنوية يقررها الملك ، كما وافق على أن تدخل مصر في تبعية الصليبيين ، وأجبر الخليفة الفاطمي العاضد على توقيع هذا الاتفاق. وكان طبيعياً أن يقبل عموري الأول هذا العرض الذي سيتيح له فرصة لا تُعوَّض لدخول مصر ، وهو الأمل الذي سعى إليه الصليبيون منذ أكثر من نصف قرن ، فأعدَّ على الفور حملةً عسكريةً من أجل الزَّحف على مصر ، وخرج أسد الدين شيركوه على رأس حملته الأولى إلى مصر في شهر جمادى الاخرة 559هـ/شهر نيسان 1164م يصحبه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب الذي كان يناهز السابعة والعشرين من عمره ، وسار على الطريق المحدَّد للحملة ، والذي يمرُّ عبر أراضي يسيطر عليها الصَّليبيون. وحتى يصرف أنظارهم على التعرض للحملة ، وتأميناً على حياة أفرادها تصرَّف نور الدين محمود على محورين:
الأول: أنه رافق الحملة بجيشه إلى ما يلي دمشق للحيلولة دون التعرض لأفرادها.
الثاني: راح يهاجم الأطراف الشمالية لمملكة بيت المقدس المجاورة لدمشق لتحويل أنظار الصليبيين عن مصر.
وسار أسد الدين شيركوه على رأس جيشه الكثيف عبر الصحراء ، بصحبة شاور ، فعبر الكرك ، ومرَّ بالشوبك ، ثم أيلة ، فالسويس ، ومنها إلى القاهرة ، وقد بلغ من السرعة في سيره: أنَّه اجتاز برزخ السويس قبل أن يستعدَّ الصليبيون للتدخل ، فأرسل ضرغام قوةً عسكرية بقيادة أخ له يدعى ناصر الدين للتصدِّي لزحفه ، وأسفر لقاء الطرفين في بلبيس عن انتصار واضح لأسد الدِّين شيركوه ، وتراجع ناصر الدين مهزوماً إلى القاهرة ، فطارده أسد الدين شيركوه ، ووصل في أواخر جمادى الاخرة إلى العاصمة المصرية ، فخرج إليه ضرغام بكلِّ ما يملك من قوةٍ؛ لإدراكه بأن هذه المعركة هي معركته الأخيرة ، وجرى اللقاء تحت أسوار القاهرة: اتَّسمت المعركة بالعنف ، وانتهت بانتصار أسد الدين شيركوه بعد أن تخلَّى الجيش ، والناس ، والخليفة عن ضرغام، وقُتِل أثناء محاولته الفرار قرب مشهد السيدة نفيسة ـ المزعوم ـ في شهر رجب 559هـ/شهر حزيران 1164م كما قتل أخوه ناصر الدين ، ودخل أسد الدين شيركوه القاهرة منتصراً ، وأعاد شاور إلى منصبه في الوزارة ، ثم أقام معسكره خارجها.
وبعد أن ضمن شاور عودته إلى منصب الوزارة عاد إلى طبيعته؛ التي اتَّصف بها ـ من المكر ، والخداع ـ ليدخل في صراع جديد مع أسد الدين شيركوه ، فأساء معاملة الناس ، وتناسى وعوده لنور الدين محمود ، بل سرعان ما ظهرت عليه إمارات الغدر ، فنقض اتفاقيته معه ، وطلب من شيركوه الخروج من مصر ، وأن يعود فوراً مع قواته إلى بلاد الشام ، ولكن هذا الأخير رفض الاستجابة لطلبه ، وردَّ على موقفه المتقلب ، فسارع إلى الاستيلاء على بلبيس ، وحكم البلاد الشرقية ، ولم يَسَعْ شاور إلا أن يستنجد بالملك عموري الأول؛ الذي كان يتأهَّب للزَّحف على مصر ، وأخذ يخوِّفه من نور الدين محمود ، وعرض عليه أن:
ـ يؤدي له مبلغ ألف دينار عن كلِّ مرحلةٍ من مراحل الرحلة من بيت المقدس إلى نهر النيل ، البالغ عددها سبعاً وعشرين مرحلة.
ـ يمنح هدية لكل من يصحبه من فرسان الأسبتارية الذين كانوا يشكِّلون عماد جيش مملكة بيت المقدس ، في محاولة منه لإغراء فرسانها بالاشتراك بالحملة.
ـ يتكفَّل بنفقات علف أفراسهم مقابل مساعدته لإخراج أسد الدين شيركوه من مصر. وهكذا انغمس شاور في اللُّعبة السياسية بين الأعداء الكبار ، ومحاولاً بذلك إثارتهم لمصلحته الخاصة. ولا شكَّ بأن عموري الأوَّل كان انذاك يراقب تطورات الموقف السياسي ، والعسكري في مصر ، فلمَّا علم بزحف أسد الدين شيركوه؛ ازدادت مخاوفه ، ولمَّا وصلت إليه دعوة شاور؛ رحَّب بها ، وبذلك لم تَضِعْ الفرصة عليه لدخول مصر ، وإن اختلف الحليف؛ الأمر الذي لا يهمُّه في شيءٍ ، فكل ما يعنيه هو دخول مصر.
3 ـ حملة عمُّوري الثانية على مصر:
فشلت حملت عموري الأوَّل على مصر ، واضطر إلى الانسحاب ، والعودة إلى بيت المقدس ، وكانت في عام 558هـ/1163م وعندما أتيحت له الفرصة مّرَّةً أخرى لدخول مصر؛ بادر عمُّوري الأول فور تلقيه دعوة شاور إلى عقد مجلس في بيت المقدس حضره بارونات المملكة ، وتقرَّر فيه تلبية دعوة شاور بعد أن أوضح للمجلس أنَّ في قدرته تجهيز حملة لغزو مصر دون أن يضعف من دفاعات المملكة ، وبخاصة: أنه وصل وقتئذ من أوروبا عددٌ من الحجَّاج لزيارة بيت المقدس ، ويمكن الاستفادة منهم في المجهود الحربي ، وأمَّلَ في أن يتمَّكن من احتلال مصر لحساب الصليبيين ، وقرَّر بأن يتولى بوهمند الثالث أمير أنطاكية ، إدارة شؤون المملكة خلال غيابه، وأسرع ملك بيت المقدس بالزَّحف إلى مصر على رأس قواته للمرة الثانية في شهر رمضان عام 559هـ/شهر اب عام 1164م واتَّصل ، فور وصوله إلى فاقوس بشاور ، واتفقا على حصار أسد الدين شيركوه في بلبيس ، وصمد هذا الحصن للحصار مدَّة ثلاثة اشهر دافع أسد الدين شيركوه خلالها عن مواقعه.
وفجأةً قرَّر عموري الأول الدخول في مفاوضات معه للجلاء المزدوج عن مصر ، فما الذي حدث في الأفق السياسي حتى أقدم على هذه الخطوة؟! ـ وهنا تبرز عبقرية نور الدين العسكرية وقيادته الفذَّة ، فقد ـ تلقَّى عموري الأول أنباء مزعجة من بلاد الشام بتعرُّض ممتلكاته لضغط من نور الدين محمود ، ففضَّل العودة للدِّفاع عنها ، وأدرك في الوقت نفسه: أنَّ حملته مقضيٌّ عليها بالفشل في ظل امتناع أسد الدين شيركوه في بلبيس. وكان موقف أسد الدين شيركوه صعباً أيضاً ، فالمؤن بدأت بالنفاذ فضلاً عن تفوُّق القوات الصليبية الفاطمية المشتركة في العدد ، وأن الوضع العسكري ليس في صالحه ، لذلك قبل الدخول في مفاوضات من أجل الجلاء عن مصر. وفعلاً تَمَّ الاتفاق بين الرجلين على الخروج من مصر في شهر ذي الحجة ، شهر تشرين الأول ، وسار الجيشان: الإسلامي ، والصَّليبي في طريقين متوازيين عبر شبه جزيرة سيناء بعد أن تركا شاور يسيطر على مقاليد الحكم ، وكان شيركوه اخر من غادر البلاد للحاق بجيشه. وكان شاور الفائز الحقيقي في هذا الصِّراع الذي انتهى لمصلحته ، فتخلَّص من الجيوش الإسلامية الشامية ، والصَّليبية على السواء ، كما تخلَّص من ضرغام ، وأضحى طوال العامين التاليين صاحب الأمر ، والنهي ، والمتحكمِّ في مقاليد البلاد.
ووضع أسد الدين شيركوه نفسه بعد عودته من مصر ، تحت تصرف نور الدين محمود ، وأصبحت مصر محور تفكير أسد الدين شيركوه ، وحديثه في مجالسه ، ومحور أفكاره ، ولم ينقطع عن تبادل الاراء مع أصدقائه فيها؛ الذين كانوا يزوِّدونه بأخبارها ، وأرسله نور الدين محمود في تلك الأثناء بمهمةٍ إلى بغداد ، فاستغلَّ وجوده في عاصمة الخلافة ليثير حماس الخليفة المستنجد بالله؛ حيث راح يقصُّ عليه أخبار مصر، وأحوالها ، وما شاهده ، وخبره بنفسه ، فتأثر الخليفة لما سمعه ، وشجَّعه على العودة إليها.
وعلى الرغم من أنَّ حملة أسد الدين شيركوه لم تحقِّق أهدافها في مصر؛ إلا أن النتيجة النهائية هي أن أملاك نور الدين محمود قد تدعَّمت في بلاد الشام ، وارتفع شأنه في العالم الإسلامي ، وأصبح من القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة ، بينما تراجعت أملاك الصليبيين إلى السَّاحل ، واستبدَّ اليأس بهم. ومهما يكن من أمرٍ؛ فقد غادر كلٌّ من شيركوه ، وعموري الأول أرض مصر ، وقد وقف كلٌّ منهما على أوضاعها السياسية المتردية ، وسوء أحوالها الاقتصادية ، بالإضافة إلى ما تتمتَّع به من ثروة وفيرة ، وموارد بشرية هائلة ، ترجِّح كفة من يضع يده عليها. وانتهز شاور فرصة خروجهما ، فعاد إلى سيرته الأولى ، يظلم ، ويقتل ، ويصادر أموال الناس ، بحيث لم يبق للخليفة الفاطمي العاضد معه أمر ، ولا نهي ، ولمَّا ثقلت وطأته عليه؛ كتب إلى نور الدين محمود يستنجد به؛ ليخلِّصه منه.
4 ـ الحملة النورية الثانية:
أعَدَّ نور الدين محمود القوات اللازمة وأرسلها إلى مصر في شهر ربيع الأول من عام 562هـ/شهر كانون الثاني عام 1167م بقيادة أسد الدين شيركوه ، وصحبه ابن أخيه صلاح الدين ، وسيَّر معه جماعةً من الأمراء، وبلغ تعداد هذه القوات ألفي فارس، ورافقه نور الدين حتى أطراف البلاد خوفاً من تعرُّض الصليبيين له، وسار أفراد الحملة في طريق محفوفة بالأخطار: فالصليبيون الذين كانوا على طريقهم رابضين في الكرك ، والشوبك قد ينقضُّون عليهم ، وينكِّلون بهم ، وهم بعيدون عن مناطقهم ، والبدو يلاحقونهم ، وينقلون أخبارهم إلى الصَّليبيين، وكان عليهم أن يغيِّروا طريق سيرهم أحياناً للتخَفِّي ، كما عرقلت الطبيعة زحفهم؛ إذ إنَّ عاصفةً رمليَّةً عنيفةً هبَّت عليهم ، وقضت على عدد من الرجال ، وبعض الزاد ، وعلى الرغم من ذلك واصلوا رحلتهم إلى مصر ، وتوافر لشاور من الوقت ما جعله يستنجد مجدَّداً بعموري الأول؛ إذ ايقن من استقراء الأحداث: أنَّ أسد الدين شيركوه إذا قدم إلى مصر هذه المرة ، فإنه سوف يبقى فيها ، ولا يغادرها ، لذلك ، فإنَّه لم يتوان عن الاتصال بملك بيت المقدس ، والتفاوض معه موضحاً له الخطر ، الذي يمثله نور الدين محمود على مملكة بيت المقدس لو نجح في امتلاك مصر. رحَّب عموري الأول بدعوة شاور طمعاً في امتلاك مصر ، وإبعاد نور الدين محمود ، وجيوشه عنها ، حتى لا يتمكَّن من تطويق مملكته؛ التي ستصبح في وسط ممتلكات نور الدين محمود. وقبل أن تستكمل الاستعدادات ، وردت الأنباء بأنَّ أسد الدين شيركوه يجتاز صحراء سينـاء ، فلم يسع عموري الأول إلا أن يرسل ما تيسَّر الحصول عليه من الجند لعرقلة تقدُّمه ، غير أن هذا التدبير جاء متأخِّراً. وعلى الرغم من أن جيش أسد الدين شيركوه تعرَّض لعاصفـة رمليَّةٍ عرقلت تقدُّمه ، وكادت تقضي على أفراده ، فإنَّه وصل سالماً إلى برزخ السويس (في شهر ربيع الاخر/أوائل شهر شباط) وعلم أسد الدين شيركوه بأن جيشاً صليبيـاً شرع في الزَّحف باتجـاه مصر ، عندئذ اجتـاز الصحراء باتجاه الجنوب الغربي ليتفادى مواجهةً مبكرةً مع الصليبيين ، حتى بلغ نهر النيل عند إطفيح على مسافة أربعين ميلاً جنوبي القاهرة، ثم عبر إلى الضفة الغربية ، والتزمها في سيره؛ حتى وصل إلى الجيزة ، وعسكر بمواجهة الفسطاط ، وتصرَّف في البلاد الغربية ، وحكمها نيفاً وخمسين يوماً.
5 ـ حملة عموري الثالثة على مصر والمفاوضات الصليبية الفاطمية:
خرج عمُّوري الأول من بيت المقدس في شهر ربيع الأول عام 562هـ/شهر كانون الثاني عام 1167م متوجهاً إلى مصر في حملته الثالثة على هذا البلد ، واجتاز الطريق المألوف من غزَّة إلى العريش ، ثم اخترق الصحراء إلى بلبيس ، وارتاع شاور من ظهوره المفاجىء ، وساوره القلق لعدمَ التنسيق معه ، ويبدو: أنه لم يكن على علمٍ بوصول شيركوه إلى إطفيح ، ولم يطمئن إلا عندما أرسل كشافته إلى الصحراء للوقوف على حقيقة الوضع ، عندئذٍ خرج لاستقبال الملك الصليبي ، والتقى به ، وأنزله عموري الأوَّل في معسكره على الضفة الشرقية لنهر النيل على مسافة ميل واحد من أسوار القاهرة ، وأجرى مع شاور مباحثات ، تعهَّد شاور خلالها بأن يدفع أربعمئة ألف دينار مقابل طرد أسد الدين شيركوه من مصر ، على أن يجري دفع نصف هذا المبلغ على الفور ، ثم يبذل النصف الاخر فيما بعد ، واشترط أن يُقسم عموري الأوَّل على ذلك. ولدعم هذه الاتفاقية ، وإعطائها صفة رسمية ، أرسل عمُّوري الأول كُلاًّ من هيو ، سيد قيسارية ، وجفري مقدم فرسان الداوية إلى الخليفة الفاطمي للحصول منه على الموافقة الرسمية عليها ، فاستُقبل الرسولان استقبالاً حافلاً في القصر الفاطمي ، وتمَّ التصديق على المعاهدة. وكان من الطبيعي أن يرحِّب الصليبيون بهذه الاتفاقية؛ التي تجعل منهم حماةً لمصر ، والخلافة الفاطمية ، وتُبْعد أسد الدين شيركوه بوصفه المنافس الوحيد لهم في السيطرة على هذا البلد.
أ ـ معركة البَابَيْن:
كان أسد الدين ، والعسكر النُّوري قد ساروا إلى الصَّعيد ، فبلغوا مكاناً يُعرف بالبابَيْن ، وسارت العساكر المصرية ، والفرنج وراءهم فأدركوهم به في الخامس والعشرين من جُمادى الأولى ، وكان قد أرسل إليهم جواسيس ، فعادوا ، وأخبروه بكثرة عَدَدهم ، وعُدَدِهم ، وجدِّهم في طلبه ، فعزم على لقائهم ، وقتالهم ، وأن تحكم السيوف بينه ، وبينهم ، إلا أنَّه خاف من اصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطر؛ الذي عطبُهم فيه أقربُ من السَّلامة لقلَّة عددهم ، وبُعْدهم عن بلادهم ، فاستشارهم ، فكلُّهم أشار عليه بعبور النِّيل إلى الجانب الشَّرقي والعْودة إلى الشَّام ، وقالوا له: إن نحن انهزمنا ـ وهو الذي لا شكَّ فيه ـ فأين نلتجيء ، وبمن نحتمي ، وكلُّ مَنْ في هذه الديار من جنديٍّ ، وعاميٍّ ، وفلاح عدوُّ لنا ، ويَوَدُّون لو شربوا دماءنا؟! وحُقَّ لعسكرٍ عِدَّتهم ألفا فارس قد بَعُدُوا عن ديارهم ، ونأى ناصرهم أن يرتاع من لقاء عشرات الألوف؛ مع أنَّ كل أهل البلاد عدوٌّ لهم.
فلمَّا قالوا ذلك؛ قام إنسان من المماليك النُّورية يقال له: شرف الدين بُزغُش ـ وكان من الشَّجاعة بالمكان المشهور ـ وقال: مَنْ يخاف القتل ، والجراح ، والأسر؛ فلا يخدم الملوك ، بل يكون فلاحاً ، أو مع النِّساء في بيته! والله لئن عُدْتُم إلى الملك العادل من غير غَلبةٍ ، وبلاء تُعذرون فيه؛ ليأخذنَّ إقطاعاتكم ، وليعودَنَّ عليكم بجميع ما أخذتموه إلى يومنا هذا ، ويقول لكم: أتأخذون أموال المسلمين ، وتفِرُّون عن عدوِّهم ، وتسلِّمون مثل هذه الديار المصرية يتصرَّف فيها الكُفَّار؟! قال أسد الدين: هذا رأيي ، وبه أعمل. ووافقهما صلاح الدِّين يوسف بن أيوب ، ثم كثر الموافقون لهم على القتال ، فاجتمعت الكلمة على اللقاء ، وهذا يبين هيبة نور الدِّين في قلب ، وقادة عسكره ، وجنوده ، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريُّون ، والفرنج وهو على تعبئةٍ.
وهنا برزت عقلية أسد الدين شيركوه ، وخبرته العسكرية ، فقد جعل الأثقال في القلب يستكْثِر بها ، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكانٍ اخر ، فينهبها أهل البلاد ، ثم إنَّه جعل صلاح الدين ابن أخيه في القلب ، وقال له ، ولمن معه: إنَّ الفرنج ، والمصريين يظنُّون أنني في القلب ، فهم يجعلون جَمْرتهم بإزائه ، وحملتهم عليه ، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال ، ولا تهلكوا نفوسكم ، واندفعوا بين أيديهم ، فإذا عادوا عنكم؛ فارجعوا في أعقابهم.
واختار من شجعان أصحابه جمعاً يثق بهم ، ويعرف صبرهم ، وشجاعتهم ، ووقف بهم في الميمنة ، فلمَّا تقابلت الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره أسد الدين ، وحملوا على القلب ظناً منهم أنَّه فيهم ، فقاتلهم مَنْ به قتالاً يسيراً ، ثم انهزموا بين ايديهم ، فتتبعوهم ، فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلَّفَ من الفرنج الذين حملوا على القلب ـ المسلمين، والفرنج ـ فهزمهم، ووضع السيف فيهم، فأثخن، وأكثر القتل، والأسر، وانهزم الباقون، فلمَّا عاد الفرنج من أثر المنهزمين الذين كانوا في القلب؛ رأوا مكان المعركة من أصحابهم بَلْقعاً ليس بها منهم دَّيارٌ، فانهزموا أيضاً، وكان هذا من أعجب ما يؤرَّخ: أنَّ ألفي فارس تهزم عساكر مصر، وفرنج السَّاحل.
ب ـ حصار الإسكندرية:
ثم سار أسد الدين إلى ثغر الإسكندرية ، وجبى ما في طريقها من القرى ، والسَّواد من الأموال ، ووصل إلى الإسكندرية ، فتسلَّمها من غير قتال؛ سلمَّها أهلها إليه ، فاستناب بها صلاح الدِّين ابن أخيه ، وعاد إلى الصَّعيد ، وتملَّكه ، وجبى أمواله ، واقام به حتى صام رمضان ، وأما المصريُّون ، والفرنج؛ فإنهم عادوا إلى القاهرة ، وجمعوا أصحابهم ، وأقاموا عوض من قُتل منهم ، واستكثروا ، وحشدوا ، وساروا إلى الإسكندرية ـ وبها صلاح الدين في عسكر يمنعونها منهم ، وقد أعانهم أهلُها خوفاً من الفرنج ، فاشتدَّ الحصار ، وقَلَّ الطعام بالبلد ، فصبر أهلها على ذلك ، ثم إنَّ أسد الدِّين سار من الصعيد نحوهم ، وكان شاور قد أفسد بعض مَنْ معه من التركمان ، ووصله رسل المصريين ، والفرنج يطلبون الصُّلح.
ج ـ المفاوضات النورية ـ الصليبية بشأن الجلاء عن مصر:
وبعد مفاوضات بين الطرفين تمَّ عقد صلح على الأسس التالية:
ـ رفع الحصار عن الإسكندرية.
ـ تبادل الأسرى.
ـ إطلاق سراح الجند النُّوري داخل الإسكندرية.
ـ يخرج شيركوه مع عسكره من مصر.
ـ عدم التعرض لهم في الطريق من قِبل القوات الصَّليبية.
إنَّ قراءةً متأنيةً لسير الوقائع كما جرت على الأرض ، والعروض المتبادلة بشأن عقد الصلح ، وما حدث بعد إبرام الاتفاقية يمكن رصد الملاحظات التالية: فقد وافق الجانبان النوري ، والصَّليبي الفاطمي على:
ـ خروج القوات النورية والصَّليبية من مصر.
ـ تبادل الأسرى.
ـ يتعهَّد شاور بألا يُعاقب رعاياه في الإسكندرية ، وفي غيرها من الجهات الذين ساندوا أسد الدِّين شيركوه.
ومهما يكن من أمر ، فقد دخل عموري الأول مدينة الإسكندرية في (شهر شوال/شهر اب) في حين غادرها صلاح الدين في موكبٍ عسكريٍّ حافل على الرَّغم مما اصاب السُّكان من ضيقٍ لرحيله ، والتقى الرجلان ، وأعجب كلٌّ منهما بالاخر ، حتى لقد قام ملك بيت المقدس بإمداد صلاح الدين ببعض المراكب لنقل الجرحى المسلمين إلى بلاد الشام. على أنَّ متاعب السُّكان لم تنته ، فلم يكد أتباع شاور يدخلون المدينة حتى ألقوا القبض على كل مَنْ جرى الاشتباه في أنَّه تعاون مع صلاح الدين ، وقد احتجَّ هذا الأخير لدى عموري الأوَّل الذي نصح شاور بأن يطلق سراح الأسرى. وكانت هذه هي المرَّة الثانية التي يغدر فيها شاور ، وقد علَّمت صلاح الدين درساً قاسياً ، حتى إنَّه لم يتركها تتكرَّر ، واقتصَّ بنفسه من شاور عندما عادت القوات الشَّامية إلى مصر عام 564هـ/1168م.
د ـ الحملة الصَّليبية على مصر:
غادر كلٌّ من اسد الدين شيركوه ، وصلاح الدين مصر في (شهر ذي القعدة/شهر أيلول) في حين تأخَّر عمُّوري الأول لبضعة أسابيع ، لأنَّه مَّر بالقاهرة ليثبِّت الحماية الصليبية على الدَّولة الفاطمية ، وشاور ، وكانت من أهم مظاهرها:
ـ دفع جزية سنوية قدرها مئة ألف دينار للصليبيين.
ـ بقاء قوة من فرسانهم تحمي أبواب القاهرة، لتدفع نور الدين محمود؛ إن كرَّر محاولة الهجوم.
ـ إقامة مندوب عن الملك الصليبي في القاهرة يشارك في شؤون الحكم.
والرَّاجح: أنَّ فكرة تملُّك مصر كانت لا تزال ناشطة في تفكير عموري الأول السياسي ، ولم يعد بوسعه أن يتخلى عنها ، وهو ينوي العودة بعد إقرار الأمور في بلاد الشام ، وذلك طمعاً في ثروتها، وحمايةً لكيانه في بلاد الشام. ثم عاد الملك إلى فلسطين. وبهذه الإجراءات تأكَّدت الحماية على مصر، وترتَّب على هذا استمرار التنافس بين نور الدين محمود، وعمُّوري.
5 ـ الحملة النورية الثالثة على مصر: عام 564هـ.
سبب هذه الحملة: أنَّ الفرنجة كانوا قد جعلوا لهم شحنةً في القاهرة ، وتسلَّموا أبوابها ، وحكموا المسلمين حكماً جائراً ، فلمَّا رأوا: أنَّه ليس في البلاد من يردُّهم ، أرسلوا إلى ملكهم ـ عمُّوري ـ في القدس ، يستدعونه ليملك مصر ، وهوَّنوا عليه أمرها ، فتردَّد خوفاً من سوء العاقبة ، ثم سار مع فرسانهم على كرهٍ منه حى وصلوا بلبيس مستهلَّ صفر ، ونهبوها ، وقتلوا ، وأسروا من فيها ، ثم ساروا إلى «الفسطاط» فأمر شاور بإحراقها ، وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة ، وأن ينهب البلد خوفاً من أن يملكها الإفرنج ، فنهبت المدينة ، وبقيت النار تحرقها أربعةً وخمسين يوماً ، ثم حاصر الفرنجة القاهرة ، وضيَّقوا على أهلها ، وكان شاور هو المتولِّي للعساكر ، والقتال، فضاق به الأمر ، وضعف عن ردِّهم ، فأخلد إلى الحيلة ، وراسل ملكهم عمُّوري ، ووعده بمالٍ عظيم ألف ألف دينار مصرية يعجِّل بعضها الان ، ودفع لهم منها «مئة ألف دينار» وسألهم الرحيل عنه؛ ليجمع لهم المال ، فرحلوا قريباً ، وجعل يجمع لهم المال ، فلم يستطع أن يجمع إلا خمسة الاف دينار؛ حيث إنَّ المصريين كانوا قد احترقت دورهم ، ونهبت أموالهم.
أ ـ العاضد يستنجد بنور الدين محمود:
كان حاكم مصر العاضد عقيب حريق مصر أرسل إلى نور الدين يستغيث به ، ويعرِّفه ضعف المسلمين عن الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء ، وقال له: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لِتُنقِذَهُنَّ من الفرنج ، وعرض على نور الدين مقابل إنفاذ البلاد من الصليبيين:
ـ منحه ثلث بلاد مصر.
ـ منح قادته الإقطاعات.
ـ يسمح لشيركوه بأن يقيم في مصر.
ب ـ أسد الدين شيركوه يزحف إلى مصر ويدخل القاهرة. (قانون الفرصة):
شرع نور الدين في تجهيز الجيوش، وإعدادها إعداداً قوياً، وأعطى قائد الحملة (شيركوه) مئتي ألف دينار ، سوى الثياب ، والدواب ، والأسلحة ، وحكَّمه في العسكر ، والخزائن ، يأخذ حاجته ، فاختار من العسكر ألفي فارس، وجمع من فرسان التُّركمان ستة الاف ، وسار نور الدين ، وشيركوه إلى باب دمشق ، ورحلوا إلى رأس الماء، وأعطى نور الدِّين كلَّ فارسٍ منهم عشرين ديناراً معونةً غير محسوبة ، وأضاف إلى شيركوه جماعةً أخرى من الأمراء ، منهم صلاح الدِّين الأيوبي ، وسار أسد الدين مجدَّاً ، فلمَّا قارب مصر؛ رحل الفرنجة إلى بلادهم بخفي حنين ، خائبين ممَّا أملوا ، وسمع نور الدِّين بعودتهم ، فسرَّه ذلك ، وأمر بضرب البشائر في البلاد ، ولمَّا وصل أسد الدِّين القاهرة؛ دخلها ، واجتمع بالعاضد؛ الذي خلع عليه ، وفرح أهل مصر ، وأجريت على عساكره الجرايات الكثيرة.
ج ـ مقتل شاور:
وأما شاور؛ فلم يفصح عمَّا في نفسه ، وشرع يماطل أسد الدِّين فيما وعد به من المال ، ورواتب الجند ، وعزم على الغدر أيضاً ، فقرَّر أن يقيم وليمةً لأسد الدين ، وأمرائه ، ثمَّ يغدر بهم ، ويقتلهم ، فنهاه ابنه الكامل عن ذلك، وقال له: والله لئن عزمت على هذا الأمر؛ لأُعرِّفَنَّ أسد الدين. فقال له أبوه. والله لئن أفعل؛ لنقتلنَّ جميعاً! فقال: صدقت ، ولأن نقتل ونحن مسلمون؛ والبلاد بيد المسلمين خيرٌ من أن نقتل؛ وقد ملكها الفرنج ، فليس بينك وبين عَوْد الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه ، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل فارساً واحداً ، ويملكون البلاد! فترك ما كان عزم عليه. وأخيراً اتفق صلاح الدين ، وبعض الأمراء على التخلُّص من هذا الخائن المراوغ شاور ، فأسروه ، وسمع العاضد بذلك ، فأرسل إلى شيركوه يطلب رأسه ، وأذن أسد الدين بقتله ، فقتل ، وأرسل رأسه إلى العاضد في السَّابع عشر من ربيع الاخرة ، عام 643هـ.
د ـ تولِّي أسد الدين الوزارة للعاضد:
ودخل أسد الدين القاهرة ، وقصد قصر العاضد ، فخلع عليه الوزارة ، ولقَّبه الملك المنصور ، وامير الجيوش ، واستعمل على الأعمال مَنْ يثق به من أصحابه ، وأقطع البلاد لعساكره ، وقد مدح الشعراء أسد الدين شيركوه؛ لما حقَّق من انتصاراتٍ ، فقال العماد:
بلغت بالجدِّ مالا يبلغ البشر
أصبحت بالعدل والإقدام منفرداً
افخر فإنَّ ملوك الأرض أذهلهم
سهرت إذ رقدوا بل هُجْتَ إذ سكنوا
ونلت ما عجزت عن نيله القُدَر
فقل لنا أعلِيٌّ أنت أم عمر
ما قد فعلت فكلٌّ فيكَ مفتكِرُ
وصُلْتَ إذ جنبوا ، بل طُلت إذ قصروا

هـ وفاة أسد الدين:
ولم تطل وزارة شيركوه؛ حيث توفي في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 564هـ فكانت ولايته شهرين، وخمسة أيام ، رحمه الله رحمةً واسعة! وخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين. وكان أسد الدِّين من أكبر قادة نور الدين ، وقد ادَّخره الملك العادل للخطوة الكبرى التي كان يمهِّد لها ، وهي ضمُّ مصر إلى بلاد الشام ، وكان رحمه الله كريماً على جنده ، صارماً ، يعرف كيف يقرُّ النظام في عسكره ، فهابه جنده ، وأحبُّوه ، وركبوا معه المخاطر في حملاتٍ عظيمة ، نفه الله بها الإسلام ، والمسلمين ، وساهمت في تقوية المشروع المقاوم للغزو الصليبي؛ الذي كان يقوده نور الدين ، ثم من بعده صلاح الدين ، وكان شيركوه شجاعاً ، بارعاً ، قوياً ، جلداً في ذات الله ، شديداً على الكفار ، وطاعته عظيمة ، في ذات الله صولتُه ، عفيفاً ، ديناً ، كثير الخير ، وكان يحبُّ أهل الدِّين ، والعلم ، كثير الإيثار ، حدباً على أقاربه ، وأهله ، وكان فيه إمساك ، وخلَّف مالاً كثيراً ، وخلَّف من الخيل ، والدوابِّ ، والجمال شيئاً كثيراً ، وخلف خمسمئة مملوك ، وهم الأسدية؛ الذين ساهموا في بناء الدَّولة الأيوبية.

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022