في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
حقيقة الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين
الحلقة: التاسعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
تحدَّث المؤرخون عن علاقة نور الدين بصلاح الدين ، فقد روى ابن الأثير ، وذكر أبو شامة نقلاً عن ابن أبي طي أسباب الوحشة بين نور الدين ، وصلاح الدين؛ التي ابتدأت سنة سبع وستين وخمسمئة. وذلك عندما اتفقا على حصار الكرك ، ورجع صلاح الدين إلى مصر ، قبل أن يلتقي بنور الدين ، وأخذ عن ابن الأثير ، وابن أبي طي عدد من المؤرخين ، وتبعهم بعض المؤلفين المعاصرين دون تمحيص ، وغالوا في تعليلاتهم ، وتفسيراتهم لأسباب الوحشة ، ونتائجها ، فوصفوا العلاقة بين نور الدين ، وصلاح الدين وكأنها علاقة عدائية ، ومن ذلك: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يخاف صاحبه، وأنَّ صلاح الدين أصبح يسعى للتخلُّص من سيادة نور الدين ، ويحبذ أن تظلُّ منطقة الكرك فاصلاً بينه وبين نور الدين ، ونور الدين فكر في أنه أخطأ في إنفاذ أسد الدين ، وصلاح إلى مصر ، ووُصِف نور الدين بأنَّه خصمٌ خطيرٌ لصلاح الدين إلى ما و ذلك وهذه التصورات الباطلة لا أصل لها إلا عند ابن أبي طي، وابن الأثير:
فأمَّا ابن أبي طيٍّ: فقد حاول بما أتقنه من الدسِّ ، والكذب أن يطعن في العلاقة بين الرجلين ، وهو متَّهم فيما ينسبه إلى نور الدين مما لا يليق به ، فإنَّ نور الدين كان قد أذلَّ الشِّيعة بحلب ، وأبطل شعارهم ، وقوَّى أهل السنة، وكان والد ابن أبي طيٍّ من رؤوس الشيعة ، فنفاه من حلب ، ولذلك نجد أنَّ ابن أبي طيٍّ كثير التحامل على نور الدين ، ويحاول أن يلطِّخ العلاقة بين الرجلين العظيمين بأكاذيبه النتنة.
فأمَّا ابن الأثير:
فهو متهم فيما يكتبه عن صلاح الدين ، فهو يلتمس المناسبات أحياناً لنقد صلاح الدين ، وتجريحه؛ وخاصَّةً عند المقارنة بينه وبين نور الدين ، فمؤرخ البيت الزنكي في كتابيه الكامل في التاريخ ، والباهر في تاريخ الدولة الأتابكية قد ذكر الاراء في كتابيه ، والتي نقلها عنه عددٌ من المؤرخين، وفحواها: أنَّ صلاح الدين لم يكن وفياً لأستاذه نور الدين، بل كان يجتهد منذ استقرار نفوذه في مصر إلى الاستقلال عنه، ومزاحمته السيادة السياسية ببلاد الشام. فكلُّ هذه الآراء، كتبها ابن الأثير بعد وفاة صلاح الدين، واضطرار صلاح الدين إلى الخروج على رأس عساكره إلى بلاد الشام، وضمَّ ممتلكات أستاذه نور الدين بها إلى ممتلكاته بمصر؛ إذ إنَّ خروج صلاح الدين إلى الشَّام كان من أحل إعادة الجبهة الإسلامية الموحَّدة، التي كان عماد الدين زنكي، ثم ابنه نور الدين قد أجهدا نفسيهما طويلاً في تكوينها، وكانت بعد وفاة نور الدين على وشك أن تنفصم، وترجع الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً من سوء ، وتشرذم ، وضعف بعد انقسام البيت الزنكي :حزب في دمشق ، وحزب في حلب ، ولم يستطع ابنه الطفل الصَّالح إسماعيل إعادة توحيد مملكة والده.
ولقد كتب صلاح الدين إلى الخليفة العباسي، وإلى ابن نور الدين يخبره: أنَّ خروجه للشام، هو لتوحيد كلمة المسلمين ضدَّ الفرنج. وأغلب الظن: أنَّ هذه الأقوال التي ردَّدها ابن الأثير، ونقلها عنه بعض المؤرخين بخصوص عدم ولاء صلاح الدين للبيت الزنكي، والروايات التي قيلت حول هذا الموضوع قد صاغها المؤرخون ـ وعلى رأسهم ابن الأثير ـ لتعليل مسلك صلاح الدين؛ بعد وفاة نور الدين، وكان وراءها ولاء ابن الأثير للبيت الزنكي، ثم عدم تعاطفه مع صلاح الدين، الذي قضى على هذا البيت، وممتلكاته من ناحيةٍ أخرى؛ خاصَّة وقد لاحظ المؤرِّخون المحدثون: أنَّ ابن الأثير قد تحامل على صلاح الدين في تاريخه الكامل، والباهر، وتلمَّس له مواضع الزلل، وأسباب الخطأ. وفي الحقيقة: أنَّ صلاح الدين كان نعم الجندي في السَّمع، والطاعة لقائده نور الدين زنكي. وإليك الأدلة على ذلك.
1 ـ قال العماد الأصفهاني:
إنَّ صلاح الدين كان لا يخرج عن أمر نور الدين ، ويعمل له عمل القوي الأمين ، ويرجع في جميع مصالحه إلى رأيه المتين.
2 ـ وأمَّا أبو شامة:
فقد عمد إلى تفنيد اتهامات ابن الأثير لصلاح الدين بخصوص خُروجه عن طاعة نور الدين. وفي رأي أبي شامة: أنَّ نور الدين لم ينتقد على صلاح الدين إسرافه في تفريق الأموال ، وصرفها ، واستبداده بذلك من غير مشاورته ، ويؤكد أبو شامة رأيه بوثيقة وقف عليها بنفسه بخطِّ نور الدين ، يقرِّر فيها للقاضي شرف الدين بن أبي عصرون؛ الذي تولى القضاء له بالشام ، ثمَّ لصلاح الدين بمصر ، وإعجابه الشديد بما قام به صلاح الدين من نصرة المذهب السني بمصر ، والقضاء على الدولة الفاطمية ، والمذهب الشيعي ، ويطلب من أبي عصرون مساندة صلاح الدين في هذا الأمر الجلل.
3 ـ والواقع أن جميع الخطوات الحاسمة:
التي اتخذها صلاح الدين لإسقاط الدولة الفاطمية بمصر ، والقضاء على الدعوة الإسماعيلية بها جاءت بأمرٍ مباشر من نور الدين ، ولم تتمَّ إلا بعد أن وصل نجم الدين أيوب والد صلاح الدين من طرف نور الدين إلى مصر ، ليشرف بنفسه ، ويساعد ابنه للقضاء على الدَّعوة الشيعية الإسماعيلية.
4 ـ وليس أدل على التبعية الكاملة لصلاح الدين تجاه نور الدين ، وكونه نائباً عنه في حكم مصر من كونه كان يخطب له على المنابر في أرجاء الدولة الفاطمية ، إبَّان وزارته للخليفة الفاطمي العاضد ، وإثر نقل الخطبة للعباسيين ، كان الخطيب بمصر ، وأعمالها يدعو لنور الدين بعد الخليفة ، وقُرِّرت السكة باسم المستضيء بأمر الله، وباسم الملك العادل نور الدين ، فنُقش اسم كلٍّ منهم في وجه.
5 ـ وكان مجيء ابن القيسراني وزير نور الدين إلى مصر سنة 568هـ 569هـ لكشف البلاد ، وارتفاعها ، ومراجعة حساباتها لتقرير القطيعة ، أو الوظيفة السنوية؛ التي يدفعها صلاح الدين لنور الدين أمراً طبيعياً يؤكِّد تبعية مصر لنور الدين.
6 ـ لقد أدركت الخلافة العباسية هذه الحقيقة الجوهرية ، فميَّزت بوضوح بين الخِلَع الخليفية لنور الدين ، وبين الخِلَع الخليفية لصلاح الدين ، وجَعلت خِلِع صلاح الدين أقلَّ من خلع نور الدين في حين قلَّدت نور الدين بالسَّيفين إشارة إلى تقليده لقطري الشام ، و مصر ، وفي نفس الوقت أرسل نور الدين من قبله خِلَعاً سيَّرها من بلاد الشام إلى صلاح الدين ، وأهله ، وأمرائه بمصر تأكيداً لتبعيتهم المباشرة له.
7 ـ كان صلاح الدين يراعي التأدُّب في رسوم الملك ، فلا يساوي نفسه بسيده نور الدين، فقد أرسل الرُّسل من القاهرة إلى نور الدين لتخبره بلبس صلاح الدين للخِلع، وياستجابة صلاح الدين على مداومة إرسال ما قُرِّر عليه من مال إلى نور الدين في كلِّ سنة.
8 ـ وإذا كانت جميع الإجراءات التي اتخذها صلاح الدين لإسقاط الخلافة الفاطمية ، والخطبة لبني العباس ، والقضاء على الدعوة الإسماعيلية بمصر تَمَّت بتوجيه مباشر من نور الدين ، وبعد إرساله لنجم الدين والد صلاح الدين؛ فإن ضمَّ صلاح الدين لليمن تمَّ بإذن نور الدين للقضاء على الدَّعوة الشيعية الإسماعيلية هناك ـ وضم اليمن لجبهة المقاومة بحيث أرسل نور الدين هذه البشارة بنفسه للخليفة العباسي ، وكذلك في ضم المغرب الأدنى ، وغزو مملكة النوبة ، وبشر الخليفة العباسي بقرب فتح القسطنطينية ، وبيت المقدس. فقد كتب نور الدين إلى الخليفة العباسي:... قسطنطينية ، والقدس يجريان إلى أمَد الفتوح في مضمار المنافسة ، والله تعالى بكرمه يدني قطاف الفاتحين لأهل الإسلام ، ويوفق الخادم لحيازة مراضي الإمام ، ومن جملة حسنات هذه الأيام الزاهرة ، ما تيسَّر في هذه النَوْبَة من افتتاح بعض بلاد النُوبَة ، والوصول إلى مواضع منها لم تَطْرُقْها سنابكُ الخيل الإسلامية في العصور الحالية ، وكذلك استولى عساكر مصر أيضاً على بُرقة ، وحصونها؛ حتى بلغوا إلى حدود المغرب.
9 ـ ومنذ استقرار صلاح الدين بمصر؛ وحتى وفاة نور الدين داوم صلاح الدين على إرسال تحف القصر الفاطمي إلى سيده نور الدين رمزاً للولاء ، والتبعيَّة ، وداوم صلاح الدين على إطلاع نور الدين على كلِّ صغيرةٍ ، وكبيرة داخل مصر ، فنجده مثلاً يرسل إليه كتاباً يتضمَّن ذكر ثورة بقايا الفاطميين ، والتي كان من ضمنها عمارة اليمني. وليس أدلَّ على تعاون كلٍّ من صلاح الدين ، ونور الدين من تفاهمهما الاستراتيجي في قتال الفرنج ، فيذكر أبو شامة: أنه في سنة 568هـ/172م: تولَّى السلطانان نور الدين في الشام ، وصلاح الدين في مصر في هذه السنة جهاد الصليبيين. ولقد وصف العماد هذا الحدث بـ «جهاد السُّلطانين للفرنج». وهذا ما أكَّده صلاح الدين في كتاب له للخليفة العباسي بقوله: إنه كان انعقد بينه وبين نور الدين ـ رحمه الله ـ في أن يتجاذبا طرفي الغزاة من مصر ، والشام ، والمملوك (أي: صلاح الدين) بعسكره ، وبرِّه ، وبحره ، ونور الدين من جانب سهل الشام ، ووعره.
10 ـ ولقد أبدى صلاح الدين تَبَعَيَّتَهُ لبيت نور الدين؛ حتى بعد وفاته سنة 569هـ/1173م ، بحيث خطب صلاح الدين لابنه الصالح إسماعيل ، وضرب السكَّة باسمه، ووافى إرسال الرسائل في العزاء بنور الدين. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إنَّه حتى وفاة نور الدين كانت مصر ، والشام قد توحَّدتا تحت زعامة نور الدين، وما كان صلاح الدين إلا عاملاً له على مصر ، وهذا ما عبَّر عنه العماد الأصفهاني حين امتدج نور الدين ، فقال:
بملك مصرَ اهْنَأ مالك الأمم
بفملك مصر وملك الشام قد نُظِمَا
فَثِقْ وأبشر بنصرِ الله عن أمم
في عقد عزٍّ من الإسلام منتظم
وفي كل الأحوال لم تصل علاقة نور الدين بصلاح الدين إلى درجة العداء ، ولا مسوِّغ لاعتبار الاختلاف في الرأي وحشةً ، ونفرةً كما يقرِّر ذلك عددٌ من المؤرخين ، والكتَّاب ، وكل ما هنالك أنَّ نور الدين كان يتطلَّع إلى مصر على أنها مصدر للواردات ، ويسدُّ بها نفقات الجهاد ضدَّ الصليبيين في الشام ، وأنها مصدر للطاقة البشرية المجاهدة ، وكان صلاح الدين أكثر معرفةً من نور الدين لما يجري في مصر من أخطار ناجمة عن استعداد أنصار الفاطميين للانضمام إلى الفرنج ، فوجَّه اهتمامه إلى بناء جيشٍ قويٍّ ، بحيث يستطيع السيطرة على مصر ، ورأى: أنَّ تثبيت كيان الدولة الجديدة في مصر أولى من الانشغال بمسائل الشام. وهذا يتَّفق مع ما قاله نور الدين للرَّسول الذي بعثه صلاح الدين يعتذر عن موقفه من حصار الكرك ، حيث قال: حفظ مصر أهمُّ عندنا من غيرها.
إنَّ صلاح الدين سار على نهج نور الدين في التمكين للمشروع السُّني ، والقيادة في الإسلام ليست حكراً على الأسرة الزنكيَّة ، ولا الأيوبية ، أو عائلة معينة مهما علا شأنها ، ولكنْ من تُقَدِّمه أعماله بعد توفيق الله له ـ ويلقى من المسلمين المحبة ، والتقدير ، والدَّعم ، والتأييد فهو المقدَّم ، فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ قدَّمته الأمة بعد نبيها ، وبايعته ، وكذلك عمر ، فأكمل المسيرة ، وسار عثمان من بعده ، وعليٌّ ، رضي الله عنهم. فخدمة الدِّين ، والمسلمين مقدَّمةٌ على كلِّ شيءٍ في ثقافة صلاح الدين.
وفاة نور الدين محمود:
قال العماد الأصفهاني:
وأمر نور الدين ـ رحمه الله تعالى ـ بتطهير (ختان) ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر ، واحتفلنا لهذا الأمر ، وغُلِّقت محالُّ دمشق أياماً. قال: ونظمتُ للهناء بالعيد ، والطُّهر قصيدةً ، منها:
عيدان فطرٌ وطُهرُ
كلاهما لك فيه
وفيهما بالتَّهاني
طهارة طاب منها
فتحٌ قريبٌ ونصرُ
حقَّاً هناءٌ وأجرُ
رسمٌ لنا مستمرُ
أصلٌ وفرعٌ وذكرُ
قال: وفي يوم العيد يوم الأحد ركب نور الدين على الرَّسم المعتاد محفوفاً من الله بالإسعاد ، مكنوفاً من السماء ، والأرض بالأجناد ، والقدر يقول له: هذا اخر الأعياد ، ووقف في الميدان الأخصْر الشمالي لطعن الحلق ، ورمي القبق ، وكان قد ضرب خيمته في الميدان القبلي الأخضر ، وأمر بوضع المنبر. وخطب له القاضي شمس الدين ابن الفرَّاشي قاضي العسكر ، بعد أن صلَّى به ، وذكَّر ، وعاد إلى القلعة طالع البهجة بهيج الطَّلعة ، وأنهب سِماطه العام على رَسْم الأتراك ، وأكابر الأملاك ، ثم حضرنا على خوانه الخَاص ، وله عقد كمال مصون من الانتقاض ، والانتقاص. ..وفي يوم الإثنين والعظماء يسايرونه ، والفهماء يحاورونه ، وفيهم همام الدِّين مودود ، وهو في الأكابر معدود ، وكان قديماً في أوَّل دولته والي حلب ، وقد جرَّب الدهر بحنكته... فقال لنور الدين و في كلامه عظة لمن يغترُّ بأيامه: هل نكون هاهنا في مثل هذا اليوم في العام القابل؟ فقال نور الدين: قل هل نكون بعد شهر ، فإنَّ السنة بعيدة. فجرى على منطقهما ما جرى به القضاء السَّابق ، فإنَّ نور الدين لم يصل إلى الشهر ، والهمام لم يصل إلى العام.
ثم شرع نور الدين في اللَّعب بالكُّرة مع خَواصِّه ، فاعترضه في حاله أميرٌ اخر اسمه يَرَنْقُش ، وقال له: باش ، فأحدث الغيظ ، والاستيحاش ، واغتاظ على خلاف مذهبه ، وخلقه الحليم ، فزجره ، وزبره ، ونهاه ، ونهره ، وساق ، ودخل القلعة ، ونزل ، واحتجب ، واعتزل ، فبقي أسبوعاً في منزله ، مشغولاً بنازله ، مغلوباً عن عاجله بحديث اجله ، والنَّاس من الختان لاهون بأوطارهم في الأوطان ، فهذا يروح بجوده ، وذاك يجود بروحه ، فما انتهت تلك الأفراح إلاَّ بالأتراح ، وما صلح الملك بعده إلا بالملك الصالح. قال: واتصل مرض نور الدين ، وأشار عليه الأطباء بالفصد ، فامتنع ، وكان مهيباً فما روجع ، وانتقل حادي عشر شوال يوم الأربعاء من مربع الفناء إلى مرتع البقاء ، ولقد كان من أولياء الله المؤمنين ، وعباده الصالحين. وكانت وفاة نور الدين رحمه الله تعالى بسبب خوانيق اعترته ، عجز الأطباء عن علاجها«وقد توفي يوم الأربعاء الحادي عشر من شوَّال سنة تسع وستين وخمسمئة» ودفن بقلعة دمشق ، ثم نقل إلى تربة تجاور مدرسته التي بناها لأصحاب أبي حنيفة رحمه الله جوار الخوَّاصين في الشارع الغربي ، رحمه الله تعالى. وكان رحمه الله حريصاً على الشهادة ، وكان يقول: طالما تعرَّضت للشهادة ، فلم أُدْرِكْها. وقال الذهبي: قد أدركها على فراشه ، وعلى ألسنة الناس: نور الدين الشهيد، وقد رثاه الشُّعراء بقصائد رائعةٍ من أحسنها ما قاله العماد الأصفهاني:
الدِّين في ظُلمٍ لغيبة نوره
فليندُبِ الإسلامُ حاميَ أهله
فليندُبِ الإسلامُ حاميَ أهله
ما أعظمَ المِقدار في أخطاره
ما أكَثر المتأسِّفين لفقد مَنْ
ما أغوصَ الإنسانَ في نسيانه
مَنْ للمساجد والمدارس بانياً
مَنْ ينصر الإسلام في غزواته
مَنْ للفرنج ومَنْ لأسر ملوكها
مَنْ للخطوب مُذلِّلاً لجماحها
مَنْ كاشفٌ لِلْمُعْضِلات برأيه
مَنْ للكريم ومَنْ لنعش عِثارِه
مَنْ للبلاد ومن لنصر جيوشها
والدَّهرُ في غُممٍ لفقد أميره
والشَّامُ حافظَ مُلكه وثغوره
والشَّامُ حافظَ مُلكه وثغوره
إذ كان هذا الخطبُ في مقدوره
قرَّتْ نواظرُهُم بفقد نظيره
أَوَما كفاه الموت في تذكيره
للهطوعاً عن خُلُوصِ ضَمِيره
فلقد أصيب برُكنه وظهيره
مَنْ للهُدى يبغي فكاك أسيره
مَنْ للزَّمان مُسهِّلاً لوعُوره
من مُشرقٌ في الدَّاجيات بنوره
مَنْ لليتيم ومَنْ لجبر كسيره
من للجهاد ومن لحفظ أُموره
مَنْ للفتوح محاولاً إبكارها
مَنْ للعُلا وعهُودها من للنَّدَى
ما كنت أحسب نورَ دينِ محمَّدٍ
أَعْزِزْ عليَّ بليثٍ غاب للهُدى
أَعْزِز عليَّ بأن أراه مُغَيَّبا
لهفي على تلك الأنامل إنَّها
ولقد أتى مَنْ كنت تجري رسمه
ولقد أتى مَنْ كنت تكشف كُرْبَه
ولقد أتى مَنْ كنت تؤمن سِرْبَهُ
ولقد أتى مَنْ كنت تُؤثر قُرْبَه
والجيش قد ركب الغَدَاة لعَرْضِهِ
أنت الذي أحييت شرع محمَّدٍ
كم قد أقمت من الشَّريعة مَعْلماً
كم قد أمرت بحفر خندق مَعْقِل
كم قيصرٍ للروم رُمْتَ بقسره
أُوتيت فتح حصونه وملكت
أَزَهِدْتَ في دار الفناء وأهلها
أومَا وعدت القُدْسَ أنَّك مُنجزٌ
فمتى تجير القُدْسَ من دَنسِ العِدَى
يا حاملين سريره مهلاً فَمِنْ
يا عابرين بنعشه أنشقتُمُ
نزلت ملائكة السَّماء لدفنه
ومِنَ الجفاءَ له مقامي بعده
حَيَّاك مُعْتلُّ الصَّبا بنسيمه
ولبسْنَ رضوان المهيمن ساحِباً
وسكنت عِلِّيِّينَ في فِرْدَوْسِهِ
برواحه في غزوه وبكوره
ووفوده من للحِجا ووفوره
يخبو وليلُ الشِّرك في دَيْجوره
يخلو الشَّرى من زوره وزئيره
عن محفل متشرِّفٍ بحضوره
مُذْ غُيِّبت غاض النَّدَى ببحوره
فضع العلامة منك في منشوره
فارفع ظلامته بنصر عشيره
وقِّع له بالأمن من محذُوره
فأَدِم له التَّقْرِيبَ في تقريره
فأركب لتُبصِرَهُ أوان عبوره
وقضيت بعد وفاته بنشوره
هو مُنْذِ غِبْتَ مُعَّرَضٌ لِدُثوره
حتى سكَنت اللِّحْدَ في محفوره
إرواء بيض الهند من تاموره
عَقَر بلاده وسبيتَ أهل قصوره
ورَغبت في الخُلْدِ المقيم وحُوره
ميعاده في فتحه وظهوره
وتقدِّس الرَّحمن في تطهيره
عَجَبٍ نهوضُكم بحمل ثبيره
مِنْ صالح الأعمال نشَر عبيره
مستجمعين على شفير حفيره
هلاَّ وفيتُ وسرتُ عند مسيره
وسقاك مُنْهَلُ الحيا بدروره
أذيالَ سُندس خزِّه وحريره
حِلفَ المسَرَّة ظافراً بأجوره
وبعد وفاة نور الدين حمل راية الجهاد تلميذه الذَّكي ، وجندَّيه المخلص صلاح الدين الأيوبي؛ الذي بنى جهاده على ما أسَّسه نور الدين من جهاد المشركين ، وقام بذلك على أكمل الوجوه ، وأتمِّها.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf