الإثنين

1446-03-13

|

2024-9-16

الحلقة الثامنة والتسعون (98)

زواج النَّبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها

مع استمرار حركة السَّرايا، وبناء الدَّولة، وبسط هيبتها في الجزيرة العربيَّة، كانت حركة البناء التَّشريعيِّ، والاجتماعيِّ للأمَّة الإسلاميَّة تتكامل، فنظام التَّبنِّي يُهدَم، والحجاب يُفرض، وأدب الولائم يقرَّر، وضرورة الالتزام بطاعة الله ورسوله يُؤكَّد على وجوبها، وتُحارَب الأعراف الَّتي تعارض شرع الله تعالى، ففي زواج رسول الله (ﷺ) بالسَّيدة زينب بنت جحش حكمٌ، ودروسٌ، وعبرٌ بقيت خالدةً على مرِّ العصور، وكرِّ الدُّهور، وتوالي الأزمان، وهذه قصَّة أمِّ المؤمنين زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها:

أولاً: اسمها، ونسبها:

هي زينت بنت جحش بن رئاب بن يعمر الأسديَّة، أخت عبد الله بن جحش، وحمنة بنت جحش رضي الله عنهم.

أمُّها: أميمةُ بنت عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيٍّ عمَّة رسول الله (ﷺ) ، وأخت حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.

يقال: كان اسمها: برَّة، فسمَّاها النَّبيُّ (ﷺ) زينب، وكانت تكنى أمَّ الحكم.

وكانت زينب رضي الله عنها من المهاجرات الأول، ورعةً صوَّامة قوَّامة، كثيرة الخير والصَّدقة، فعن عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله (ﷺ) : «أسرعكنَّ لحاقاً بي أطولكنَّ يداً». قالت: فكنَّ يتطاولن أيتهنَّ أطول يداً، قالت: فكانت أطولنا يداً زينب لأنَّها كانت تعمل بيدها، وتصدَّق». [البخاري (1420) ومسلم (2452)].

وقد مدحتها السَّيدة عائشة رضي الله عنها كثيراً، وقالت في حقِّها: لم أر امرأةً قطُّ خيراً في الدِّين من زينب، وأتقى للهِ، وأصدق حديثاً، وأوصل للرَّحم، وأعظم صدقةً، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الَّذي تَصَدَّقُ به، وتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى، ما عدا سَوْرةً من حِدَّةٍ كانت فيها تُسْرِعُ منها الفيئةَ. [مسلم (2442)، والنسائي (7/64 - 66)].

ثانياً: زواجها من زيد بن حارثة رضي الله عنه:

أراد الرَّسول (ﷺ) أن يحطِّم تلك الفوارق الطَّبقيَّة الموروثة في الأمَّة المسلمة من عادات الجاهليَّة؛ ليكون النَّاس سواسيةً كأسنان المشط، لا فضل لأحدٍ على أحد إلا بالتَّقوى، وكان الموالي - وهم الذين جرى عليهم الرِّقُّ، ثمَّ تحرَّروا - طبقةً أدنى من طبقة السَّادة، ومن الموالي كان زيد بن حارثة مولى رسول الله (ﷺ) الَّذي أعتقه، ثمَّ تبناه، فرأى رسول الله (ﷺ) أن يزوِّج زيداً من شريفةٍ من بني أسد، وهي ابنة عمَّته زينب بنت جحش رضي الله عنها؛ ليبطل تلك الفوارق الطبقيَّة بنفسه في أسرته، وكانت هذه الفوارق من العمق، والعنف بحيث لا يحطِّمها إلا فعلٌ واقعيٌّ من رسول الله (ﷺ) ؛ لتتَّخذ منه الأمَّةُ المسلمة أسوةً، وقدوةً، وتسير البشرية على هداه في هذا الطَّريق، وأيضاً لعلَّ من الحكمة في هذا الزَّواج: أنَّه كان مقدمةً لتشريعٍ آخر، لا يقلُّ أهمِّيَّةً في حفظ توازن المجتمع، وحماية الأسرة عن الأوَّل، وإن لم تظهر هذه الحكمة في بداية الأمر(1).

انطلق رسول الله (ﷺ) ليخطب على فتاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، فدخل على زينب بنت جحش الأسديَّة رضي الله عنها، فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله (ﷺ): «بلى! فانكحيه»، قالت: يا رسول الله ! أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحادثان أنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً﴾ [الأحزاب: 36].

فقالت: يا رسول الله! قد رضيتَه لي زوجاً؟ قال: «نعم» قالت: لا أعصي رسول الله (ﷺ)، وقد زوَّجتُه نفسي. [الطبري في تفسيره (22/11)، والدر المنثور (5/609)].

وكان زيد بن حارثة إذ ذاك لا يزال يُدعى زيد بن محمَّد، فتزوَّجها زيد، وأصدقها في هذا الزَّواج عشرة دنانير، وستين درهماً، وخماراً، وملحفةً، ودرعاً، وخمسين مدَّاً من طعامٍ، وعشرة أمدادٍ من تمرٍ.

ثالثاً: طلاق زيد لزينب رضي الله عنها:

شاءت حكمة الله تعالى ألا يتوافق زيدٌ، وزينب في زواجهما، وأصبحت حياة الزَّوجين لا تطاق، وصمَّم زيدٌ على فراق زوجه زينب، وكان قبل ذلك يشتكي لرسول الله (ﷺ) من عدم استطاعته البقاء مع زينب، ورسول الله (ﷺ) يأمره بإمساك زوجه مع تقوى الله في شأنها، حتَّى أذن الله بالطَّلاق، فطلَّقها زيدٌ، وانفصمت العلاقة بينهما بعد أن قضى زيد وطره، وبعد أن مكث معها ما يقرب من سنةٍ، قال ابن كثير: فمكثت عنده قريباً من سنةٍ، أو فوقها، ثمَّ وقع بينهما (يعني: الخلاف) فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله (ﷺ) ، فجعل رسول الله (ﷺ) يقول له: «أمسك عليك زوجك، واتَّق الله». [أحمد (3/150)، والترمذي (3212)].

لم يبقَ لزيد رغبةٌ في إبقاء العلاقة الزَّوجيَّة معها؛ لأنَّه كان كريم النَّفس، لا يريد أن يبني سعادته، وراحته على شقاء الآخرين، وتعاستهم، والإضرار بهم، ولهذا صمَّم على الفراق، وعدم الإضرار بها؛ لأنَّها كانت تعيش في قلقٍ، واضطرابٍ، وانتهى زواج زيد بن حارثة رضي الله عنه بزينب بنت جحش على هذا الوضع دون أيِّ تدخُّلٍ خارجيٍّ بينهما، ووقع ذلك الطَّلاق بمحض اختياره، وإرادته، وقد كان رسول الله (ﷺ) ينهاه عن ذلك، ويأمره بتقوى الله، وإمساك زوجته، قال ابن كثير بعد أن ذكر هذا السبب: «ذكر ابن أبي حاتم، وابن جريرٍ آثاراً عن بعض السَّلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحَّتها، فلا نوردها».

رابعاً: الحكمة من زواج رسول الله (ﷺ) من زينب رضي الله عنها:

كانت عادة التَّبنِّي متغلغلةً في نفوس النَّاس، ومشاعرهم، وليس من السَّهل التغلُّب عليها، وإلغاء الآثار المترتِّبة عليها، كانت هذه العادة في صدر الإسلام في مكَّة، وفي أوَّل الهجرة إلى المدينة، ثمَّ شاء الله تعالى، فنزلت الآيات في نفي أن يكون الأدعياء أبناء لمن ادَّعاهم في الحقيقة، وإنَّما ذلك حسب دعوى المدَّعي فقط، وذلك لا يغيِّر من الواقع شيئاً، فقال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: 4].

ثمَّ أمر - تبارك وتعالى - بردِّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، فهذا من العدل، والقسط، والبرِّ، فقال تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 5].

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إنَّ زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله (ﷺ) ما كنَّا ندعوه إلا زيد بن محمَّد، حتَّى نزل القرآن: ﴿ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ (4782)].

ولم يجعل الله تعالى عدم معرفتهم لابائهم الحقيقيين مبرراً لإبقاء تبنِّيهم لهم، بل حرم التَّبني في هذه الحالة، وأخبر أنَّهم حينئذٍ إخوانهم، ومواليهم، فقال تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 5].

أي: فإن لم تعرفوا اباءهم، فليس بينكم وبينهم إلا الأخوَّة في الدِّين، والموالاة، وذلك عوضاً عمَّا فاتهم من النَّسب، فيقال: فلانٌ مولى فلان، أو مولى بني فلان.

وهذه الأخوَّة في الدِّين، والموالاة لها أهمِّيَّة كبرى، فهي ثابتةٌ حتَّى للذين عُرِف اباؤهم، ولهذا قال رسول الله (ﷺ) لزيد بن حارثة رضي الله عنه: «أنت أخونا ومولانا» [أحمد (1/98 و115) عن علي، والبخاري (2699) عن البراء]، أي: أخونا في الإسلام، والولاية، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].

وجاءت نصوصٌ أخرى تعالج هذا الأمر من جهةٍ أخرى، وهي جهة الابن، فجاء تحريم الانتساب إلى غير الأب الحقيقيِّ - والمنتسب يعلم ذلك - تحريماً قاطعاً، لا شبهة فيهقال (ﷺ): «مَنِ ادَّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه؛ فعليه لعنة الله، والملائكة، والنَّاس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منه صَرْفاً ولا عَدْلاً». [البخاري (1870)، ومسلم (1370)].

وقد جعل الشَّارع لنشوء النَّسب سبباً واضحاً هو الاتِّصال بالمرأة عن طريق الزَّواج، أو ملك اليمين، وأبطل ما كان يجري عليـه أهل الجاهليَّة من إلحاق الأولاد عن طريق العُهْرِ والزِّنى، قال (ﷺ) : «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» [البخاري (6818)، ومسلم (1458)]، ومعناه: أنَّ من يجيء من الأولاد ثمرة لفراشٍ صحيحٍ قائمٍ على عقـد الزَّواج، أو ملك اليمين يلتحق نسبـه بأبيه، وأنَّ العُهْرَ والزِّنى لا يصلح أن يكون سبباً للنَّسب، وإنَّما يكون سبباً لشيءٍ آخر هو الرَّجم، والحجارة.

ثمَّ إنَّ الله - سبحانه وتعالى - بعد أن منع، وحرَّم دعوة الابن بنسبته إلى من تبنَّاه، وأمر بدعوته منسوباً إلى أبيه الحقيقيِّ إن عرف، أو إلى الأخوة في الدِّين والموالاة، بعد ذلك بيَّن حكم من أخطأ، أو تعمَّد مخالفة هذا التَّشريع الإلهي، قال الله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب 5].

فقد نفى الله - سبحانه وتعالى - الجُناح (الإثم) عمَّن أخطأ في نسبة الابن إلى غير أبيه في الحقيقة، وذلك بعد الاجتهاد، واستفراغ الوسع، أو نسي، فنسب الابن إلى غير أبيه يجريان لسانه بذلك، وأثبت الحرج، والإثم لمن تعمَّد الباطل، وهو دعوة الرَّجل لغير أبيه بعد علمه بتحريم ذلك.

كانت عادة التَّبنِّي مستحكمةً في نفوس النَّاس، وقد أخذت أبعادها مع مرور الزَّمن، فكان زواج النَّبيِّ (ﷺ) بالسَّيدة زينب إلغاءً عمليّاً، وليس إلغاء ذهنيّاً فحسب.

إنَّ الحكمة في زواج رسول الله (ﷺ) من السَّيدة زينب حكمةٌ واضحةٌ وظاهرةٌ، وقد بيَّنها الله تعالى بقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا﴾ [الأحزاب: 37].

وقد ذكر المبطلون من الكفار، وفروخُهم، ومقلِّدوهم بما يَنعِقون به، ويردُّده الجهَّال متعلِّقين برواياتٍ مكذوبةٍ، خلاصتُها كما يفترون: أنَّ النبي (ﷺ) قد هوي زينب بنت جحش، بعد أن تزوَّجت بزيد بن حارثة، فلـمَّا علم زيدٌ بذلك؛ أراد طلاقها ليتزوَّجها النَّبيُّ (ﷺ) ، فهذا قولٌ باطلٌ.

وقد نسف الإمام ابن العربيِّ هذا القول من جذوره، فقال: فأمَّا قولكم: إنَّ النَّبيَّ (ﷺ) رآها - أي: رأى زينب بنت جحشٍ - فوقعت في قلبه ؛ فباطلٌ، فإنَّه (ﷺ) كان معها في كلِّ وقتٍ، وموضعٍ، ولم يكن حينئذٍ حجابٌ، فكيف تنشأ معه، وينشأ معها، ويلحظها في كلِّ ساعةٍ، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوجٌ؟! حاشا لذلك القلب المطهَّر من هذه العلاقة الفاسدة، وقد قال تعالى: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131] والنِّساء أفتن الزَّهرات، فيخالف هذا في المطلَّقات، فكيف في المنكوحات؟ ثمَّ إنَّ قوله تعالى: يعني: من نكاحك ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾، وهو الذي أبداه لا سواه، أقول: فلو كان الَّذي أخفاه رسول اللهِ (ﷺ) هو حبُّه لها؛ لأبداه الله تعالى، وأظهره، فتيقَّنَّا: أنَّ الَّذي أخفاه رسول الله (ﷺ) من أمر زينب هو نكاحُه إيَّاها، وليس ما تخيَّله المبطلون من حبِّه لها.

إن الشرع أراد تأكيد إبطال نظام التَّبنِّي، وإبطال كلِّ نتائجه، وتعميق هذا الإبطال في النُّفوس، وتأكيده بالتَّطبيق العمليِّ، والقدوة، والتأسِّي بمن يُـقتدى به في تطبيق هذه الأحكام الجديدة النَّاسخة، وهذا ما فعله رسولُ الله (ﷺ) بزواجه بزينب بأمرٍ من الله تعالى العزيز الحكيم.

خامساً: قصَّة زواج رسول الله (ﷺ) من زينب، وما فيها من دروسٍ، وعبر:

لـمَّا انقضت عدَّة زينب؛ قال رسول الله (ﷺ) لزيد: اذهب فاذكرها عليَّ، فانطلق زيد؛ حتَّى أتاها، وهي تخمِّر عجينها، قال: فلما رأيتُها عَظُمَتْ في صَدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها: أنَّ رسول الله (ﷺ) ذكرها، فولَّيْتُها ظهري، ونكصْتُ على عَقِبي، فقلت: يا زينب أبشري!! أرسل رسول الله (ﷺ) يذكرك، قالت: ما أنا بصانعةٍ شيئاً حتى أُوَامَر ربِّي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسولُ الله (ﷺ) ، فدخل عليها بغير إذنٍ. [أحمد (3/195)، ومسلم (1428/ 87م)، والنسائي (6/79)]، وأصدقها أربعمئة درهم، وكان زواجه (ﷺ) بزينب في السَّنة الخامسة على المشهور، وقال الحافظ البيهقيُّ: تزوَّجها بعد بني قريظة.

وأولم الرَّسول (ﷺ) في عرس زينب وليمةً كبيرةً، فأولم بشاةٍ، وقد دُعِي إلى الوليمة كلُّ من لقيه أنس رضي الله عنه بناءً على أمر الرَّسول (ﷺ) ، فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله (ﷺ) أولم على امرأةٍ من نسائه ما أولم على زينب، أَوْلَمَ بشاةٍ. [البخاري (5168)، ومسلم (1428/ 90)].

وهكذا تزوَّج رسولُ الله (ﷺ) - بأمر رَبِّه - زينب بنت جحش رضي الله عنها، بعد طلاق زيدٍ لها، وانقضاء عدَّتها، وفي زواجه (ﷺ) بزينب، وما نزل فيه من القرآن وما واكبه من أحداث - عظاتٌ، وعبرٌ، وقفنا عند بعضها، ويجدر بنا أن نتأمل في بعض الدُّروس، والعبر الَّتي لم نقف عليها، منها:

1 - كان خاطب زينب للنَّبيِّ (ﷺ) هو زوجها الأوَّل زيد بن حارثة رضي الله عنه، ولعلَّ اختيار رسول الله (ﷺ) لزيدٍ مقصودٌ لذاته؛ ليقطع بذلك ألسنة المتقوِّلين، وما قد يزعمونه من أنَّ طلاقها وقع بغير اختيارٍ منه، وأنَّه قد بقي في نفسه من الرَّغبة فيها شيءٌ، وفي هذا يقول ابن حجر: «هذا من أبلغ ما وقع في ذلك، وهو أن يكون الَّذي كان زوجَها هو الخاطبُ؛ لئلا يظنَّ أحدٌ: أنَّ ذلك وقع قهراً بغير رضاه، وفيه أيضاً اختبار ما كان عنده منها: هل بقي منه شيءٌ، أم لا؟».

وفي هذا من الحكمة أيضاً: أن ما يقع بين الزَّوجين من نفرةٍ، وخلافٍ، ثمَّ طلاقٍ لا يجوز أن يكون مانعاً من نصح أحـد الزَّوجين للآخر، وأن يـراعي فيه حقوق الأخوَّة الإيمانيَّة، فهذا زيد برغم ما وقع بينه وبين زينب، ورغم: أنَّ هذا كان بسببها، فإنَّه ذهب يخطبُها لرسول الله (ﷺ) ، بـل ويقول لها: يا زينب! أبشري!.

2 - في الآية الَّتي نزلت بشأن هذا الزَّواج عتابٌ للنَّبيِّ (ﷺ) من ربِّه؛ إذ كان حين يأتيه زيدٌ يشكو زينب، ومعاملتها له، ورغبته في طلاقها يقول (ﷺ) : «أمسك عليك زوجك واتَّق الله» [سبق تخريجه]، أي: اتَّق الله، وَدَعْ طلاقها، أو: اتق الله فيما تذكره من سوء عشرتها؛ ورسول الله (ﷺ) يخفي في نفسه ما أبلغه الله به: أن زيداً سيطلِّقها، وأنَّها ستكون زوجةً له، ويخشى متى وقع هذا من كلام النَّاس في قولهم: تزوَّج مطلقة مَنْ تبنَّاه، وهو زيد بن حارثة!

روى أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل رسول الله (ﷺ) يقول: «اتَّق الله، وأمسك عليك زوجك»: قال أنس: لو كان رسول الله (ﷺ) كاتماً شيئاً من الوحي؛ لكتم هذه الآية. [البخاري (7420)].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لو كان محمَّدٌ (ﷺ) كاتماً شيئاً ممَّا أُنزل عليه؛ لكتم هذه الآية: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37]. [أحمد (6/241)، ومسلم (177/288)، والترمذي (3208)].

قال الشَّيخ عبد الرَّحمن السَّعديُّ في تفسيره للآية: : «أي: أنعم الله عليه ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾، وأنعمت عليه بالعتق، والإرشاد، والتَّعليم، حين جاءك مشاوراً في فراقها، فقلت له - ناصحاً له، ومخبراً بمصلحته، مقدماً لها على رغبتك -: أمسك عليك زوجك، ولا تفارقها، واصبر على ما جاءك منها، واتَّق الله في أمورك عامَّة، وفي أمر زوجك خاصَّة؛ فإن التَّقوى تحثُّ على الصَّبر، وتأمر به. الَّذي أخفاه: أنه لو طلقها زيد؛ ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ ».

قال سيِّد قطب: الَّذي أخفاه النَّبيُّ (ﷺ) في نفسه وهو يعلم أنَّ الله مبديه، وهو ما أعلمه الله: أنَّه سيفعله، ولم يكن أمراً صريحاً من الله، وإلا ما تردَّد فيه، ولا أخَّره، ولا حاول تأجيله، ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب؛ الَّتي يتوقَّعها من إعلانه، ولكنَّه (ﷺ) كان أمام ما أعلمه الله، يتوجَّس في الوقت ذاته من مواجهته، ومواجهة النَّاس به، حتَّى أذن الله بكونه، فطلَّق زيدٌ زوجه في النِّهاية، وهو لا يفكر، لا هو، ولا زينب فيما سيكون بعد؛ لأنَّ العرف السَّائد كان يعدُّ زينب مطلقة ابنٍ لمحمَّد، لا تحلُّ له.

3 - في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلـمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾ [الأحزاب: 37]، منقبةٌ عظيمةٌ لزيد بن حارثة رضي الله عنه، فقد انفرد بهذا؛ إذ لم يُسَمِّ القرآن أحداً من الصَّحابة غيره، قال السُّهيلي: «كان يقال: زيد بن محمَّد حتَّى نزل: ﴿ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ﴾، فقال: أنا زيد بن حارثة، وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمَّد، فلما نُزع عنه هذا الشَّرف، وهذا الفخر، وعلم الله وحشته من ذلك شرَّفه بخصيصةٍ لم يكن يَخُصُّ بها أحداً من أصحاب النَّبيِّ (ﷺ) ، وهي: أنَّه سمَّاه في القرآن، فقال تعالى: يعني: من ﴿فَلـمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا﴾، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذِّكر الحكيم؛ حتَّى صار اسمه قرآنا يُتلى في المحاريب، نوَّه به غاية التَّنويه، فكان في هذا تأنيسٌ له، وعوضٌ من الفخر بأبوَّة محمَّد (ﷺ) له، ألا ترى إلى قول أبيِّ بن كعب حين قال له النَّبيُّ (ﷺ) : «إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا» [البخاري (3809)، ومسلم (799)] فبكى، وقال: أوذكرتُ هنالك؟.

وكان بكاؤه من الفرح حين أُخبر: أنَّ الله تعالى ذكره، فكيف بمن صار اسمه قرآناً يُتلى مخلَّداً لا يبيد، يتلوه أهل الدُّنيا؛ إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنَّة أبداً، لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكوراً على الخصوص عند ربِّ العالمين؛ إذ القرآن كلام الله القويم، وهو باقٍ لا يبيد، فاسم زيد هذا في الصُّحف المكرَّمة، المرفوعة المطهَّرة، تذكره في التِّلاوة السَّفرةُ الكرامُ البررة، وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبيٍّ من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضاً من الله تعالى له بسبب ما نُزِع منه.

4 - زواج النَّبيِّ (ﷺ) بزينب بنت جحش رضي الله عنها كان بأمر ربِّه، وهو الَّذي زوَّجه إيَّاها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلـمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾ [الأحزاب: 37].

وفي هذا شرفٌ عظيمٌ، ومنقبةٌ جليلةٌ لزينب رضي الله عنها، كانت تفاخر بها - وحقَّ لها ذلك - فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النَّبيِّ (ﷺ) تقول: زوَّجَكُنَّ أهاليكنَّ، وزوَّجني الله من فوق سبع سموات، وفي روايةٍ أخرى: كانت تفخر على نساء النَّبيِّ (ﷺ)، وكانت تقول: إن الله أنكحني في السَّماء. [البخاري (7420 و7421)].

ولعلَّ هذه المنقبة، وهذا الشَّرف لزينب رضي الله عنها كان جزاءً لها حين أذعنت، وخضعت لأمر رسول الله (ﷺ) حين أمرها بالزَّواج من مولاه زيد بن حارثة، وكانت لذلك كارهةً، ثمَّ لـمَّا علمت: أنَّ رسول الله (ﷺ) يأمرها بذلك قبلت الزَّواج منه.

5 - في وليمته (ﷺ) على زينب علامةٌ من علامات نبوَّته، ودلالةٌ من دلائلها، وهي تكثير الطَّعام بدعوته، وفي هذه الوليمة أيضاً كان نزول آية حجاب نساء النَّبيِّ (ﷺ) ، وما شرع من آداب الضِّيافة.

فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: تزوَّج رسول الله (ﷺ) ، فدخل بأهله، قال: فصنعت أمِّي أمُّ سليم حيساً، فجعلته في تَوْرٍ، فقالت: يا أنس! اذهب بهذا إلى رسول الله (ﷺ) ، فقل: بعثت بهذا إليك أمِّي، وهي تقرئك السَّلام، وتقول: إنَّ هذا لك منا قليلٌ يا رسول الله! قال: فذهبتُ بها إلى رسول الله (ﷺ) ، فقلت: إنَّ أمِّي تقرئك السَّلام، وتقول: إنَّ هذا لك منا قليلٌ يا رسول الله! فقال: ضعه، ثمَّ قال: اذهب، فادْعُ لي فلاناً، وفلاناً، ومن لقيت، وسمَّى رجالاً، قال: فدعوت من سمَّى، ومن لقيت، قال: قلت لأنس: عدد كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمئة.

وقال لي رسول الله (ﷺ) : «يا أنس! هات التَّوْر، قال: فدخلوا حتَّى امتلأت الصُّفَّة، والحُجرة، فقال رسول الله (ﷺ) : ليتحلَّق عشرةٌ عشرةٌ، وليأكل كلُّ إنسان ممَّا يليه، قال: فأكلوا حتَّى شبعوا، قال: فخرجتْ طائفةٌ، ودخلت طائفةٌ، حتَّى أكلوا كلُّهم، فقال لي: يا أنس! ارفع، قال: فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت، قال: وجلس طوائف منهم يتحدَّثون في بيت رسول الله (ﷺ) ، ورسول الله (ﷺ) جالسٌ، وزوجته مولِّيةٌ وجهها إلى الحائط، فَـثَـقُلُوا على رسول الله (ﷺ) ، فخرج رسول الله (ﷺ) على نسائه، ثمَّ رجع، فلـمَّا رأوا رسول الله (ﷺ) قد رجع؛ ظنَّوا أنَّهم قد ثَقُلُوا عليه. [البخاري (5163)، ومسلم (1428/94 و95)، والنسائي (6/136)] قال: فابتدروا الباب، فخرجوا كلُّهم، وجاء رسول الله (ﷺ) حتَّى أرخى السِّتر، ودخل، وأنا جالس في الحُجرة، فلم يلبث إلا يسيراً حتَّى خرج عليَّ، وأنزلت هذه الآية، فخرج رسول الله (ﷺ) وقرأها على النَّاس: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 53].

قال الجعد: قال أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: أنا أَحْدَثُ النَّاسِ عهداً بهذه الآيات، وحُجِبْنَ نساءُ النَّبيِّ (ﷺ) . [مسلم (1428/94)، والترمذي (3218)].

وقد حَجَبَ رسول الله (ﷺ) نساءه لنزول آية الحجاب التي قال المولى - عز وجل - فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب: 53 - 54].

وقد كان نزول آية الحجاب من موافقات عمر رضي الله عنه، روى البخاريُّ في صحيحه عن أنسٍ، قال: قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله! يدخل عليك البرُّ، والفاجر، فلو أمرت أمهاتِ المؤمنين بالحجاب! فأنزل الله آية الحجاب. [البخاري (4790)].

وبنزول هذه الآية كان تشريع الحجاب في الإسلام بالنِّسبة لأزواج النَّبيِّ (ﷺ) ، والمراد عدم إبداء شيءٍ من أجسامهنَّ للأجانب عنهنَّ، وعدم محادثتهنَّ، أو طلب شيءٍ منهن إلا من وراء حجاب، أي: سِتْرٍ يكون بينهنَّ، وبين غيرهنَّ، ولـمَّا نزلت قال الآباء، والأبناء، والأقارب لرسول الله (ﷺ) : ونحن أيضاً نكلمهنَّ من وراء حجاب؟

فأنزل الله تعالى قوله: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴾ [الأحزاب: 55].

ونزل أيضاً في شأن نساء النَّبيِّ في أدب الخطاب والإقامة في البيوت قوله تعالى: ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 32 - 33].

وجمهور المفسِّرين على أنَّ هذه الآية وإن كانت خطاباً لأزواج النَّبيِّ (ﷺ) فحكمها لجميع نساء الأمَّة، وإنَّما خصَّ نساء النَّبيِّ لمنزلتهنَّ، وعظم فضلهنَّ، ومكانتهنَّ من النَّبي (ﷺ) ، وقد قال الإمام القرطبيُّ في تفسيره: «معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النَّبيِّ (ﷺ) فقد دخل غيرهنَّ فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليلٌ يخصُّ جميع النِّساء، كيف والشَّريعة طافحةٌ بلزوم النِّساء بيوتهنَّ، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورةٍ على ما تقدَّم من غير موضعٍ؟!».

وقد فصَّل - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم ما يتعلَّق بالنِّساء المسلمات: من غضِّ البصر، وحفظ الفروج، وعدم إبداء مواضع الزِّينة من عنقٍ، وساقٍ، وعضُدٍ، وساعدٍ، وشعرٍ، ونحوها من العورة الظَّاهرة إلا للمحارم، وقد جاء ذلك في سورة النُّور، وقد بينت السُّنَّة النَّبويَّة كل ما يتعلَّق بالنِّساء من احتجاب، وتصوُّنٍ، وتعفُّفٍ، وعدم السُّفور، والخلاعة، والابتذال بما لا مزيد عليه(2).

هذه بعض الدُّروس، والعبر استُخرجت من قصَّة زواج رسول الله (ﷺ) من زينب بنت جحش، وما واكب ذلك الزَّواج من نزول آيات بيِّناتٍ في أحكام الحجاب، وما شرع من اداب الضِّيافة.

هذا وقد توفِّيت زينت بنت جحش رضي الله عنها سنة عشرين من الهجرة، وعمرها ثلاث وخمسون سنة، وكانت كما أخبر النَّبيُّ (ﷺ) أوَّل نسائه لحاقاً به. [البخاري (1420)، ومسلم (2452)]، وقد بلغت مرويَّاتها عن النَّبيِّ (ﷺ) - وفق كتاب بقي بن مخلد - أحد عشر حديثاً، ولها في الكتب السِّتَّـة خمسةُ أحاديث، اتُّـفق لها في البخاريِّ، ومسلمٍ على حديثين، فـقد تركت ذكراً طيبـاً في تاريخ الأمَّـة الإسلاميَّة.

 

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022