الإثنين

1446-03-13

|

2024-9-16

الحلقة الأولى بعد المئة (101)

الفتح المبين (صلح الحديبية) تاريخه، وأسبابه، ومخرج رسول الله (ﷺ) إلى مكَّة

أولاً: تاريخه، وأسبابه:

في يوم الإثنين الأوَّل من ذي القعدة سنة (6 هـ)، خرج الرَّسول (ﷺ) من المدينة متوجهاً بأصحابـه إلى مكَّـة ؛ لأداء العمرة. وسبب هـذه الغزوة أنَّ رسول الله (ﷺ) رأى رؤيا في منامه - وهو في المدينة -، وتتلخَّص هذه الرُّؤيا في أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) رأى: أنَّه قد دخل مكَّة مع أصحابه المسلمين محرماً مؤدِّياً للعمرة، وقد ساق الهدي معظِّماً للبيت مقدِّساً له، فبشر النَّبي (ﷺ) أصحابه، ففرحوا بهافرحاً عظيماً، فقد طال عهدُهم بمكَّة، والكعبة؛ الَّتي رضعوا حبَّها، ودانوا بتعظيمها، وما زادهم الإسلام إلا ارتباطاً بها، وشوقاً إليها، وقد تاقت نفوسهم إلى الطَّواف حولها، وتطلَّعت إليه تطلُّعاً شديداً، وكان المهاجرون أشدَّهم حنيناً إلى مكَّة، فقد ولدوا، ونشؤوا فيها، وأحبُّوها حبّاً شديداً، وقد حيل بينهم وبينها، فلـمَّا أخبرهم رسول الله (ﷺ) بذلك تهيَّؤوا لتلك الزيارة العظيمة، واستنفر (ﷺ) أهل البوادي والأعراب؛ ليخرجوا معه؛ لأنَّه كان يخشى أن تصدَّه قريش عن البيت الحرام، وكانت استخبارات المدينة قد علمت بأمر التَّحالف العسكريِّ الَّذي عقد بين قريش في جنوب المدينة المنوَّرة وخيبر في شمالها، وكان هدف هذا التَّحالف جعل الدولة الإسلاميَّة بين طرفي الكماشة، ثمَّ إطباق فكَّيها عليها، وإنهاء الوجود الإسلامي فيها، فقد حان الوقت لكسر ذلك التَّحالف سياسيّاً، فقد كانت الكعبة في نظر العرب قاطبةً ليست ملكاً لقريش، بل هي تراث أبيهم إسماعيل، ولهذا فليس من حقِّ قريش أن تمنع من زيارتها مَنْ تشاء، وتجيز مَنْ تشاء، فإذاً من حقِّ محمَّد (ﷺ) وأصحابه زيارةُ الكعبة.

وانتشر خبر خروج رسول الله (ﷺ) بين قبائل العرب، وكان انتشار الخبر له أثرٌ في الرأي العامِّ، وخصوصاً بعدما أكَّد رسول الله (ﷺ) : أنَّه لا يريد حرباً، وإنَّما يريد أن يعتمر، ويعظِّم شعائر الله، وحقَّق هذا الفعل الكريم مكاسب إعلاميَّةً رفيعة المستوى، وقد كان هدف النَّبيِّ (ﷺ) معلناً: ألا وهو زيارة بيت الله الحرام؛ لأداء العمرة، فتجرَّد هو وأصحابه من المخيط، ولبسوا ثياب الإحرام، وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة بعد أن قلَّد الهدي، وأشعره.

وقد كان (ﷺ) على جانبٍ كبير من الحيطة، والحذر، فقد أرسل بشر بن سفيان الخزاعيَّ عيناً له، وقدَّم بين يديه طليعة استكشافيَّةً مكوَّنةً من عشرين رجلاً، وفي ذلك يقول الواقديُّ: «دعا رسول الله (ﷺ) عبَّاد بن بِشر فقدَّمه أمامه طليعةً في خيل المسلمين عشرين فارساً، وكان فيها رجالٌ من المهاجرين، والأنصار»، وكان هدفه (ﷺ) من ذلك الاستعداد للطوارئ الَّتي يمكن أن يفاجأ بها، - وأيضاً - فقد كانت مهمَّة هذه الطليعة استكشاف خبر العدوِّ.

وأخذ (ﷺ) بمشورة عمر في ذي الحليفة عندما قال له: يا رسول الله! تدخل على قومٍ هم لك أهل حربٍ بغير سلاحٍ، ولا كراعٍ؟ فبعث النَّبيُّ (ﷺ) إلى المدينة من يحمل له الكراع، والسِّلاحوكان قصده (ﷺ) من ذلك الاستعداد لهؤلاء الأعداء؛ الَّذين يملكون من السِّلاح، والعتاد ما يستطيعون به إلحاق الأذى بالمسلمين، والنَّيل منهم، وهذا التَّعامل مع سنَّة الأخذ بالأسباب من هديه الكريم الَّذي جعله لأمَّته لتقتدي به من بعده (ﷺ) ؛ لما في ذلك من المصالح الكثيرة، ولما فيه من درء مكايد الأعداء؛ الَّذين يتربَّصون بالمسلمين الدَّوائر(3).

ثانياً: وصول النَّبي (ﷺ) إلى عُسْفَان:

لـمَّا وصل رسول الله (ﷺ) إلى عسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبيُّ الخزاعيُّ، فقال: يا رسول الله! هذه قريش قد سمعت بمسيرك؛ ومعها العُوذُ المطَافِيلُ، قد لبسوا جلود النُّمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عَنْوَةً أبداً، فقال رسول الله (ﷺ) : «يا ويح قريش! لقد أكلتهُم الحرب، ماذا عليهم لو خلُّوا بيني وبين سائر النَّاس؟ فإن أصابوني؛ كان الَّذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام؛ وهم وافرون، وإن لم يفعلوا؛ قاتلوا وبهم قوَّة، فماذا تظن قريش؟ والله! إني لا أزال أجاهدهم على الَّذي بعثني الله له، أو تنفرد هذه السَّالفة».

وقد استشار (ﷺ) أصحابه لـمَّا بلغه خبر استعداد قريش لصدِّه عن دخول البيت الحرام، وعرض (ﷺ) على الصَّحابة رضي الله عنهم المشورة في هذا الأمر على رأيين يحملان العزم، والتَّصميم:

1 - الميل إلى عيال وذراري الأحابيش الَّذين خرجوا لمعاونة قريش على مقاتلة المسلمين وصدِّهم عن البيت.

2 - قصد البيت الحرام فمن صدَّه عنه قاتله حتَّى يتمكن من تحقيق هدفه. ولـمَّا عرض (ﷺ) المشورة في هذا الأمر على الصَّحابة؛ تقدَّم أبو بكر الصِّدِّيق برأيه الَّذي تدعمه الحجَّة الواضحة، حيث أشار على رسول الله (ﷺ) بترك قتالهم، والاستمرار على ما خرج له من أداء العمرة؛ حتَّى يكون بدء القتال منهم، فاستحسن النَّبيُّ (ﷺ) هذا الرَّأي، وأخذ به، وأمر النَّاس أن يمضوا في هذا السَّبيل، وعندما اقتربت خيل المشركين من المسلمين صلَّى النَّبيُّ (ﷺ) بأصحابه صلاة الخوف بِعُسْفَان.

ثالثاً: الرَّسول (ﷺ) يغيِّر الطَّريق، وينزل بالحديبية:

ولـمَّا بلغ رسول الله (ﷺ) : أنَّ قريشاً قد خرجت تعترض طريقه، وتنصب كميناً له ولأصحابه بقيادة خالد بن الوليد، وهو لم يقرِّر المصادمة، رأى أن يغيِّر طريق الجيش الإسلامي تفادياً للصِّدام مع المشركين، فقال: مَنْ رجلٌ يخرج بنا على طريقٍ غير طريقهم؛ الَّتي هم بها؟ فقال رجلٌ مِنْ أسلم: أنا يا رسول الله! فسلك بهم طريقاً وعراً بين شعاب شَقَّ على المسلمين السَّير فيه، حتَّى خرجوا إلى أرضٍ سهلة عند منقطع الوادي، وعند ذلك قال رسول الله (ﷺ) للناس: «قولوا: نستغفر الله، ونتوب إليه». فقالوا ذلك. فقال: «والله إنَّها الحطَّة الَّتي عُرِضت على بني إسرائيل، فلم يقولوها».

فأمر رسول الله (ﷺ) النَّاس أن يسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحَمْشِ في طريق تخرجه إلى ثنية المرار، فهبط الحديبية من أسفل مكَّة، فسلك الجيش ذلك الطريق بخفَّة دون أن يشعر به أحد، فما نظر خالدٌ إلا وقَـتَرَةُ (غبرة) جيش المسلمين قد ثارت، فعاد مسرعاً هو ومن معه إلى مكَّة يُحذِّر أهلها، ويأمرهم بالاستعداد لهذا الحدث المفاجئ وقد أصاب الذُّعر المشركين وفوجئوا بنزول الجيش الإسلامي بالحديبية، حيث تعرَّضت مكَّة للخطر وأصبحت مهدَّدة من المسلمين تهديداً مباشراً.

يقول اللواء محمود شيت خطَّاب في هذا الدَّرس الرائع: لم تكن حركة المسلمين على هذا الطريق خوفاً من قوَّات الجيش، فالَّذي يخاف من عدوِّه لا يقترب من قاعدته(2) الأصليَّة، وهي مركز قوَّاته، بل يحاول الابتعاد عن قاعدة العدو الأصليَّة؛ حتَّى يُطيل خط مواصلات العدوِّ، وبذلك يزيد من صعوباته، ومشاكله، ويجعل فرصة النَّصر أمامه أقلَّ من حالة الاقتراب من قاعدته الأصليَّة.

وقد جاء في كتاب (اقتباس النِّظام العسكريِّ في عهد الرَّسول(ﷺ) ) ما يُبيِّن الحكمة من تغيير الطُّرق ما نصُّه: ويؤخذ من اتِّخاذ الأدلَّة والتَّحوُّل إلى الطُّرق الامنة: أنَّ القيادة الواعية البصيرة تسلك في سيرها بالجيش طرقاً بعيدةً عن المخاطر، والمهالك، وتتجنَّب الدُّروب التي تجعل الجيش خاضعاً تحت تصرُّفات العدوِّ، وهجماته.

رابعاً: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبسها حابسُ الفيل»:

وعندما اقترب الرَّسول (ﷺ) من الحديبية بركت ناقتُه القصواء، فقال الصَّحابة رضي الله عنهم: خلأتِ القصواء ، فقال النَّبيُّ (ﷺ) : «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بِخُلُقٍ، ولكن حبسها حابس الفيل». ثمَّ قال: «والَّذي نفسي بيده! لا يسألونني خطَّةً يعظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إيَّاها». ثمَّ زجرها، فوثبت، ثمَّ عدل عن دخول مكَّة، وسار حتَّى نزل بأقصى الحديبية على ثمدٍ - بئر - قليل الماء، وما لبثوا أن نزحوه، ثمَّ اشتكوا إلى رسول الله (ﷺ) العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثمَّ أمرهم أن يجعلوه فيه، فجاش لهم بالرِّيِّ، فارتووا جميعاً ، وفي روايةٍ: أنه جلس على شفة البئر، فدعا بماءٍ، فمضمض، ومجَّ في البئر. ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معاً وقعا، كما ذكر ابن حجر ويؤيِّده ما ذكره الواقديُّ، وعروة من أنَّ الرَّسول (ﷺ) تمضمض في دلوٍ، وصبَّه في البئر، ونزع سهماً من كنانته، فألقاه فيها، ودعا، ففارت.

وفي بروك ناقة رسول الله (ﷺ) ، وقَسَمِه بعد ذلك دروسٌ، وعبرٌ، منها:

1 - كلُّ شيءٍ في هذا الكون يسير بأمر الله، ومشيئته، ولا يخرج في سيره عن مشيئته، وإرادته، فتأمَّل في ناقة رسول الله (ﷺ) أين بركت، وكيف كره الصَّحابة بروكها، وحاولوا إنهاضها لتستمرَّ في سيرها، فيستمرُّوا في سيرهم إلى البيت العتيق مهما كانت النَّتائج، ولكنَّ الله - سبحانه وتعالى - أراد غير ذلك.

2 - وقد استنبط ابن حجرٍ العسقلانيُّ - رحمه الله - فائدةً جليلةً من قوله (ﷺ) : «حبسها حابس الفيل»؛ فقال: وفي هذه القصَّة جواز التشبيه من الجهة العامَّة، وإن اختلفت الجهة الخاصَّة؛ لأنَّ أصحاب الفيل كانوا على باطلٍ محضٍ، وأصحاب هذه النَّاقة كانوا على حقٍّ محضٍ، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقـاً، أمَّا مِنْ أهل الباطل ؛ فواضحٌ، وأمَّا مِنْ أهل الحقِّ فللمعنى الَّذي تقدَّم ذكره.

3 - ومن الفوائد: أن المشركين، وأهل البدع والفجور، والبُغاة، والظَّلمة إذا طلبوا أمراً يعظِّمون فيه حرمةً من حرمات الله تعالى؛ أُجيبوا إليه، وأُعْطُوه، وأُعِينوا عليه؛ وإن مُنعوا غيره، فيعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويُمنعون ممَّا سوى ذلك، فكلُّ من التمس المعاونة على محبوبٍ مُرْضٍ له أجيب إلى ذلك كائناً مَنْ كان، ما لم يترتَّب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوضٌ للهِ أعظم منه، وهذا من أدقِّ المواضيع، وأصعبها، وأشقِّها على النُّفوس.

4 - إنَّ الله - سبحانه وتعالى -، جلَّت قدرتُه، وعزَّت عظمتُه قضى ألا يكون قتالٌ بين المسلمين، والمشركين من أهل مكَّة في هذه الغزوة بالذَّات لِحكَمٍ ظهرت فيما بعدُ؛ منها:

أ - إنَّ دخول المسلمين بالقوَّة يعني: أن تحدث مذابح، وتَزْهَقَ أرواحٌ كثيرةٌ، وتُسفَك دماءٌ غزيرةٌ من الطَّرفين، وهذا أمرٌ لم يُرِدْه البارئ سبحانه، وكان لمصلحة الفريقين: المؤمنين، والمشركين.

ب - إنَّ من المحتمل أن ينال الأذى، والقتل، والتَّشريد على أيدي المؤمنين بعض المستضعفين من إخوانهم المسلمين في مكَّة؛ الَّذين يُخفون إسلامهم خوفاً من قومهم، وهذا فيه ما فيه من المعرَّة الَّتي لا يليق بمسلمٍ أن يقع فيها.

قال سبحانه: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح: 25].

ج - لقد سبق في علم الله - عزَّ وجلَّ -: أنَّ هؤلاء الَّذين يقفون اليوم صادِّين رسول الله (ﷺ)، وأصحابه رضي الله عنهم عن المسجد الحرام هم الَّذين سيفتح الله قلوبهم إلى الإسلام، وسيفتح الله على أيديهم بلاداً كثيرةً، حين يحملون هذه الرِّسالة للنَّاس، وينيرون ظلمة الطَّريق للمُدْلجين.

خامساً: السَّفارة بين الرَّسول (ﷺ) ، وقريش:

بذل رسول الله (ﷺ) ما في وُسْعِه؛ لإفهام قريش: أنَّه لا يريد حرباً معهم، وإنَّما يريد زيارة البيت الحرام، وتعظيمه، وهو حقٌّ للمسلمين، كما هو حقٌّ لغيرهم، وعندما تأكَّدت قريش من ذلك أرسلت إليه مَنْ يفاوضه، ويتعرَّف على قوَّة المسلمين، ومدى عزمهم على القتال؛ إذا أُلجئوا إليه، وطمعاً في صدِّ المسلمين عن البيت بالطُّرق السِّلميَّة من جهةٍ ثالثةٍ.

1 - رَكْـبٌ من خزاعـة بقيـادة بُـدَيْـل بن ورقـاء:

جاء بُدَيْل بن وَرْقَاء في رجالٍ من خُزاعة، وكانت خزاعة عَيْبَةَنُصْح رسول الله (ﷺ) من أهل تهامة، وبيَّنوا: أنَّ قريشاً تعتزم صدَّ المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم الرَّسول (ﷺ) سبب مجيئه، وذكر لهم الضَّرر الَّذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنةٌ إلى وقتٍ معلومٍ حتَّى يتَّضح لهم الأمر، وإن أبوا؛ فلا مناص من الحرب، ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريشٍ، وقالوا لهم: يا معشر قريش! إنَّكم تعجَلون على محمَّدٍ، إنَّ محمداً لم يأتِ لقتال، وإنَّما جاء زائراً هذا البيت. فاتَّهموهم، وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: وإن كان إنَّما جاء لذلك؛ فلا والله! لا يدخلها علينا عَنْوَةً أبداً، ولا تتحدَّث بذلك العرب. وقد ظهرت براعة النَّبيِّ (ﷺ) السِّياسيَّة في عرضه على مشركي مكَّة الهدنة، والصُّلح؛ لأنَّ في ذلك فوائدَ كثيرةً، منها:

أ - بالهدنة يضمن حياد قريش، ويعزلها عن أيِّ صراعٍ يحدث في الجزيرة العربيَّة، سواءٌ كان هذا الصِّراع مع القبائل العربية الأخرى، أم مع اليهود؛ ذلك العدوُّ اللَّئيم الغادر؛ الَّذي يتربَّص بالمسلمين الدَّوائر.

ب - حرص الرَّسول (ﷺ) على أن يبقى باب الاتِّصال مفتوحاً بينه، وبين قريشٍ، ليسمع منهم، ويسمعوا منه بواسطة الرُّسل، والسُّفراء، وفي هذا تقريبٌ للنُّفوس وتبريدٌ لجوِّ الحرب، وإضعافٌ لحماسهم نحو القتال.

ج - حرصُه (ﷺ) على أن تُدْرِك خزاعةُ بقيادة بُديلٍ، والرَّكبُ الَّذي معه: أن حليفهم قويٌّ، فتزداد ثقتُهم به، وحلفهم له، ولبني هاشم من قبل الإسلام، فقد بقي، ولم يُلْغَ، وتأكَّد في صلح الحديبية.

د - إنَّ العقلاء الَّذين يفكِّرون بعقولهم حين يسمعون كلام الرَّسول (ﷺ) ، وأنَّه جاء معظماً للبيت؛ والمشركون يردُّونه، وهو يصرُّ على تعظيمه سيقف هؤلاء بجانبه، ويتعاطفون معه، فيقوى مركزُه، ويضعُف مركز قريشٍ الإعلاميُّ، والدِّينيُّ في نفوس النَّاس.

هـ  إنَّ مشركي مكَّة لم يطمئنُّوا إلى كلام بُديلٍ الَّذي نقله إليهم؛ ذلك لأنَّهم يعلمون: أنَّ خُزاعة كانت عَيْبَةَ نُصْحٍ لرسول الله (ﷺ) ، ويشعرون بودِّ خُزاعة للرَّسول (ﷺ) ، والمسلمين.

و - ويؤخذ من جواب رسول الله (ﷺ) لبُديل بن ورقاء حسنُ التلطُّف للوصول إلى الطَّاعات، وإن كانت غير واجبةٍ ما لم يكن ذلك ممنوعاً شرعاً؛ لأنَّ النَّبيَّ (ﷺ) أجاب المشركين لـمَّا طلبوا منه، ولم يُظهر لهم ما في النُّفوس من البغض، والكراهية لهم لطفاً منه - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيما يؤمِّل مِنَ البلوغ إلى الطَّاعة؛ الَّتي خرج من أجلها.

2 - سفارة عروة بن مسعودٍ الثَّقفيِّ:

لم تقبل قريش ما نقله بُدَيْلُ بنُ ورقاءَ الخُزاعيُّ عن رسول الله (ﷺ) ؛ من أنَّه جاء زائراً للبيت، ولم يأتِ مقاتلاً، واتَّهمتهم، بل وأسمعتهم ما يكرهون، فاقترح عليهم عروةُ بن مسعودٍ الثَّقفي أن يقابل الرَّسول (ﷺ) ، ويسمع منه، ثمَّ يأتيهم بالخبر اليقين ، وقد ذكر ذلك البخاريُّ في صحيحه، فقال: ... فقام عروةُ بن مسعودٍ فقال: أيْ قومِ، ألستم بالوالدِ؟ قالوا: بلى! قال: أولستُ بالولد؟ قالوا: بلى! قال: فهل تتَّهموني؟ قالوا: لا! قال: ألستم تعلمون أنِّي استنفرت أهل عكاظ، فلما بَلَّحُوا عليَّ جئتكم بأهلي، وولدي، ومن أطاعني؟ قالوا: بلى! قال: فإنَّ هذا قد عرض عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبلوها، ودعوني اتِهِ، قالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلِّم النَّبي (ﷺ) ، فقال النَّبيُّ (ﷺ) نَحْواً من قوله لبُدَيْلٍ، فقال عُرْوَةُ عند ذلك: أيْ محمَّدُ! أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحدٍ من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإنِّي والله لا أرى وجوهاً، وإنِّي لأرى أشواباً من النَّاس خليقاً أن يفرُّوا، ويَدَعُوك. فقال أبو بكر: امْصُصْ بَظْرَ الَّلاتِ، أنحن نفرُّ عنه وندعه؟! فقال: مَنْ ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والَّذي نفسي بيده! لولا يدٌ كانت لك عندي لم أجْزِكَ بها؛ لأجبتُك.

لقد حاول عروة بن مسعود أن يشنَّ على المسلمين حرباً نفسيَّة حتَّى يهزمهم معنويَّاً، فاستخدم عنصر الإشاعة، ويظهر ذلك عندما لوَّح بقوَّة قريشٍ العسكريَّة، معتمداً على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريشٍ لا محالة، وذلك جدير بحدوث الفتنة، والإرباك في صفوف المسلمين، وذلك حينما حاول إضعاف الثِّقة بين القائد، وجنوده، عندما قال للنَّبي (ﷺ) : فإنِّي والله! لا أرى وجوهاً، وإنِّي لأرى أشواباً من النَّاس خليقاً أن يفرُّوا، ويدعوك.

حاول ذلك من أجل التأثير على نفسيَّات المسلمين ، ولخدمة أهداف قريشٍ العسكريَّة ، والإعلاميَّة ، وحاول - أيضاً - أن يفتعل أزمةً عسكريَّة كبيرةً بين النَّبيِّ (ﷺ) وجنوده من أجل التَّأثير على معنوياتهم، وتحطيم عزائمهم، وهذا من أقوى أساليب الحرب النَّفسية الَّتي استخدمت ضدَّ المسلمين أثناء تلك المفاوضات، وحاول عروة أن يثير الرُّعب، وذلك بتخويف المسلمين من قوَّة قريش الَّتي لا تقهر، وتصوير المعركة بأنَّها في غير صالحهم. لقد مارس عروةُ بن مسعودٍ في مفاوضاته عناصر الحرب النفسيَّة من إشاعةٍ، وافتعال الأزمات، وآثارة الرُّعب، إلا أنَّ تلك العناصر تحطَّمت أمام الإيمان العميق، والتَّكوين الدَّقيق، والصَّفِّ الإسلاميِّ المرصوص.

ومن المفارقات الرَّائعة الَّتي حصلت أثناء المفاوضات مع عروة بن مسعود، وهي من عجائب الأحداث الَّتي يستشفُّ منها الدَّليل القاطع على قوة الإيمان الَّتي كان يتمتَّع بها أصحاب النَّبيِّ (ﷺ) ، وعلى قدرة هذا الدِّين من تحويل الإنسان من شيطانٍ مريدٍ إلى إنسان فاضلٍ نبيلٍ، حيث كان أحد الذين يتولَّون حراسة النَّبيِّ (ﷺ) أثناء محادثاته مع عروة بن مسعود الثَّقفي في الحديبية هو المغيرة بن شُعبة، ابن أخي عروة بن مسعود نفسه، وكان المغيرة هذا قبل أن يهديه الله للإسلام شابّاً فاتكاً سكِّيراً، قاطعاً للطَّريق، غير أنَّ دخوله للإسلام حوَّله إلى إنسانٍ آخر، وقد أصبح بفضل الله تعالى من الصَّفوة المؤمنة، وقد وقع عليه الاختيار ليقوم بمهام حراسة النَّبيِّ (ﷺ) في ذلك الجو الملبَّد بغيوم الحرب، وكان من عادة الجاهليَّـة في المفاوضات، أن يمسك المفاوض بلحية الَّذي يراه ندَّاً له أثناء الحديث، وعلى هذه القاعدة كان عروة بن مسعود يمسك بلحية رسول الله (ﷺ) أثناء المناقشة، الأمر الَّذي أغضب المغيرة بن شعبة؛ الَّذي كان قائماً على رأس رسول الله (ﷺ) بالسَّيف يحرسه، وعلى وجهه المغفر، فانتهر عمَّه، وقرع يده بقائم السَّيف قائلاً له: اكفف يدك عن مسِّ لحية رسول الله (ﷺ) قبل ألا تصلَ إليك، وكان النَّبيُّ (ﷺ) يبتسم لِلَّذي يجري بين عروة المشرك وبين ابن أخيه المؤمن.

ولـمَّا كان المغيرة بن شعبة يقف بلباسه الحربيِّ متوشحاً سيفه، ودرعه، وعلى وجهه المغفر؛ فإنَّ عمَّه عروة لم يكن باستطاعته معرفته، فقال للنَّبيِّ (ﷺ) وهو في أشدِّ الغضب: ليت شعري من أنت يا محمَّد مِنْ هذا الَّذي أرى من بين أصحابك؟ فقال له رسول الله (ﷺ) : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، فقال له عمُّه: وأنت بذلك يا غُدَر؟! لقد أورثتنا العداوة من ثقيف أبد الدَّهر، والله ما غسلت غدرتك إلا بالأمس، كان المغيرة صحب قوماً في الجاهليَّة، فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثمَّ جاء، فأسلم، فقال النَّبيُّ (ﷺ) : أمَّا الإسلام فأقبل، وأمَّا المال فلست منه في شيءٍ.

لقد فشل عروة في مفاوضاته، ورجع محذِّراً قريشاً من أن تدخل في صراعٍ مسلَّحٍ مع النَّبيِّ (ﷺ) ، وأصحابه، وقال لهم:... يا قوم! إنِّي قد وفدت على الملوك؛ على كسرى وهرقل والنَّجاشي، وإنِّي والله ما رأيت ملكاً قطُّ أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمَّد، وأصحابه، والله! ما يشدُّون إليه النَّظر، وما يرفعون عنده الصَّوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمرٍ، فيفعل، وما يتنخَّمُ، وما يبصق إلا وقعت في كفِّ رجلٍ منهم يمسح بها جلده، وما يتوضَّأ إلا ازدحموا عليه أيُّهُم يظفر منه بشيءٍ.

وقد حزرت القوم، واعلموا أنَّكم إن أردتم السَّيف؛ بذلوه لكم، وقد رأيت قوماً ما يبالون ما يُصنعُ بهم؛ إذا منعوا صاحبهم. والله! لقد رأيت نسيات معه، إن كنَّ ليسلمنه أبداً على حالٍ، فَـرَوا رأيكم، وإيَّاكم وإضجاع الرَّأي، فمادُّوه يا قوم اقبلوا ما عرض، فإنِّي لكم ناصحٌ مع أنِّي أخاف ألا تُنْصَروا عليه؛ رجلٌ أتى هذا البيت معظِّماً له، معه الهدي ينحره وينصرف! فقالت قريش: لا تكلَّم بهذا يا أبا يعفور! لو غيرك تكلَّم بهذا؛ لَلُمْنَاهُ، ولكن نردُّهُ عن البيت في عامنا هذا، ويرجع قابل.

لقد انتقلت الحرب النَّفسيَّـة وتأثيرها في صفوف المسلمين لتعمل داخل جبهة قريشٍ، وفي نفوسهم، فقد كان تصوير عروة لما رآه صادقاً، حيث بيَّن لقريشٍ وضع المسلمين في الحديبية، من طاعتهم لنبيِّهم الكريم، وحبِّهم له، وتفانيهم بالدِّفاع عنه، وبما يتمتَّعون به من معنوياتٍ عاليةٍ جدّاً، واستعدادٍ عسكريٍّ، ونفسيٍّ يفوق الوصف، فكان ذلك بمثابة التَّحذير الفعليِّ لقريش بعدم التَّعجُّل، والدُّخول في حربٍ مع النَّبيِّ (ﷺ) ، وأصحابه، ممَّا قد تكون نتائج هذه المعركة لصالح المسلمين، الأمر الَّذي أُسقِطَ في أيدي زعمائها، ولم تكن قريش تتوقَّعه أبداً في تقويمها للأمور.

لقد كان وَقْعُ كلِّ كلمةٍ قالها سيَّد ثقيف كالصَّاعقة على مسامع نفوس زعماء قريش، لقد كان (ﷺ) موفقاً من قبل الله تعالى، ولذلك نجد أثره على عروة بن مسعود ممَّا جعل الانشقاق يدبُّ في معسكر قريش، وأخذت جبهة قريش تتداعى أمام قوَّة الحقِّ الصَّامدة، وكذلك فقد انهارت حُجَّة قريش في جمعها للعرب ضدَّ النَّبيِّ (ﷺ) .

لقد نجح النَّبيُّ (ﷺ) بحكمته، وذكائه نجاحاً عظيماً باستخدام الأساليب الإعلاميَّة، والدبلوماسيَّة المتعدِّدة للحصول على الغاية المنشودة، وهي تفتيت جبهة قريش الدَّاخلية، وإيقاع الهزيمة في نفوسهم، وإبعاد حلفائهم عنهم، وإنَّ هذه النتيجة لتعدُّ بحقٍّ نصراً ساحقاً حقَّقه رسول الله (ﷺ) على الجبهات السِّياسيَّة، والإعلاميَّة، والعسكريَّة.

3 - سفارة الحُلَيْسِ بن علقمة:

ثمَّ بعثوا الحُلَيْسَ بن علقمة الكِنانيَّ سيِّد الأحابيش، فلـمَّا رآه رسول الله (ﷺ) قال: «إنَّ هذا من قومٍ يتألَّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتَّى يراه»، وأمر برفع الصَّوت في التَّلبية، فلـمَّا رأى الحُلَيْسُ الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده؛ رجع إلى قريشٍ قبل أن يصل إلى رسول الله (ﷺ)، وذلك إعظاماً لما رأى، فقد كان الوادي مجدباً لا ماء فيه، ولا مرعى، وقد أكل الهدي أوباره من طول الحبس عن مَحِلِّه، ورأى المسلمين؛ وقد استقبلوه رافعين أصواتهم بالتَّلبية، وهم في زيِّ الإحرام، وقد شعِثوا من طول المكوث على إحرامهم... ولذلك استنكر تصرُّف قريشٍ بشدَّةٍ، وانصرف سيِّـد بني كنانة عائداً من حيث أتى دون أن يفاتح النَّبيَّ (ﷺ) بشيءٍ، أو أن يفاوضه، كما كان مقرَّراً من قبل، واعتبر عمل قريش عدوانيّاً ضدَّ زوَّار بيت الله الحرام، ولا يجوز لأحدٍ أن يؤيِّدها، أو أن يناصرها على ذلك، فرجع محتجّاً على قريـشٍ الَّتي أعلنت غضبها لصراحة الحُلَيْس، وحاولت أن تتـلافى هذا الموقف الَّذي يهـدِّد بانقسامٍ خطير في جبهـة قريشٍ العسكريَّة، ونسف الحلف المعقـود بين قريش، والأحابيش، وقالوا لزعيم الأحابـيش: إنَّما كلُّ ما رأيت هو مكيدةٌ من محمَّـدٍ، وأصحابـه، فاكفـف عنَّـا حتَّى نأخـذ لأنفسنا ما نرضى به.

لقد كان النَّبيُّ (ﷺ) عالماً ومستوعباً لشخصية الحُلَيْسِ، ونفسيَّته، ويظهر ذلك في قوله : «هذا من قومٍ يتألَّهون»، فالواضح من هذه المعلومة: أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) كان على معرفةٍ تامَّةٍ بهذا الرَّجل، وبحكم هذه المعرفة قد درس شخصيته دراسةً موضوعيَّةً، وذلك بما كان عنده من حبٍّ شديدٍ من التعظيم للحرمات، والمقدَّسات والعمل على الاستفادة الكاملة من هذا الجانب في كسب المعرفة، وعلى هذا الأساس فقد قام (ﷺ) بوضع خطَّةٍ مُحْكَمةٍ مناسبةٍ تقضي بوضع الحقائق كاملةً أمام هذا الرَّجل، وإظهار موقف المسلمين، أو على الأقلِّ وقوفه على الحياد في هذا الصِّراع.

والجدير بالذِّكر: أنَّ الحُلَيْسَ كان يتمتَّع بسمعةٍ طيِّبةٍ بين العرب جميعاً؛ وذلك لما يتميَّز به من رجاحة العقل، ولما يتمتَّع به من مركزٍ ممتازٍ بوصفـه زعيماً، وقائداً لقوات الأحابيش، كما كان يتمتَّع باحترامٍ وتقديرٍ من جانب النَّبيِّ (ﷺ) وقريشٍ على حدٍّ سواء، لهذا فإنَّه إذا ما تبيَّن له أنَّ الحقَّ، والعدل في جانب المسلمين؛ فإنَّه يستطيع أن يقوم بدورٍ مهمٍّ في إحلال السَّلام بين الطَّرفين المتنازعين، والعمل على كبح جماح قريش، وإقناعها بالعدول عن موقفها العدائيِّ ضدَّ المسلمين، وصدِّهم عن المسجد الحرام. ومن هنا فقد كانت الدِّراسة النَّفسيَّة التي قام بها رسول الله (ﷺ) لشخصيَّة الحُلَيْس تتناسب كلُيّاً مع المبادئ الَّتي يُؤمن بها، وعلى ذلك فقد كانت درجة التأثير والاستجابة الناتجة عن هذه العمليَّة إيجابيةً تماماً، ومرضيةً.

وهكذا استطاع (ﷺ) أن يؤثِّر على عروة بن مسعود، والحُلَيْس بن علقمة ممَّا جعل الانشقاق يدبُّ في صفوف مشركي مكَّة. يقول الأستاذ العقَّاد عن قدرة الرَّسول (ﷺ) في توظيف الطَّاقات، وإدارة الصِّراع: كان الرسول (ﷺ) خبيراً بتجنيد بعوث الحرب، وبعوث الاستطلاع، خبيراً كذلك بتجنيد كلِّ قوَّةٍ في يده متى وجب القتال، إن كانت قوَّة رأيٍ، أو قوَّة لسانٍ، أو قوَّة نفوذٍ، فما نعرف أنَّ أحداً وجَّه قوَّة الدَّعوة توجيهاً أشدَّ، ولا أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه (ﷺ). ثمَّ يضيف الكاتب قائلاً: والدَّعوة في الحرب - كما لا يخفى - لها غرضان أصيلان من بين أغراضها العديدة:

أحدهما: إقناع خصمك والنَّاس بحقِّك. وثانيهما: إضعافه عن قتالك بإضعاف عزمه، وإيقاع الشَّتات بين صفوفه. ثمَّ يقول: وربما بلغ النَّبيُّ (ﷺ) برجلٍ واحدٍ في هذا الغرض ما لم تبلغه الدُّول بالفِرَق المنظَّمة.

4 - سفارة مِكْرَز بن حَفْصٍ:

وكان من سفراء قريش يوم الحديبية مِكْرَزُ بن حفصٍ، وقد روى البخاريُّ ذلك فقال:... فقام رجلٌ منهم، يقال له: مِكْرَز بن حفصٍ، فقال النَّبيُّ (ﷺ) : هذا مكرَز، وهو رجلٌ فاجر، فجعل يُكَلِّمُ النَّبيَّ (ﷺ) ، فبينما هو يكلِّمه إذ جاء سُهَيْلُ بن عمرو، قال مَعْمَر: فأخبرني أيُّوب عن عكرمة: أنَّه لما جاء سهيل بن عمرو، قال النَّبيُّ (ﷺ) : «قد سَهُلَ لكم من أمركم» ولنا حديثٌ مع سهيلٍ بإذن الله تعالى.

سادساً: الوفود النَّبويَّة إلى قريشٍ، ووقوع بعض الأسرى في يد المسلمين:

رأى النَّبيُّ (ﷺ) أنَّ من الضَّرورة إرسال مبعوثٍ خاصٍّ من جانبه إلى قريشٍ يبلِّغهم فيها نواياه السِّلميَّة بعدم الرَّغبة في القتال، واحترام المقدَّسات، ومن ثَمَّ أداء مناسك العمرة، والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرَّسول (ﷺ) إلى قريش (خِراشَ بن أُميَّة الخُزاعيَّ)، وحمله على جملٍ يقال له: (الثَّعلب)، فلـمَّا دخل مكَّة عقرت به قريش، وأرادوا قتل خِرَاش، فمنعهم الأحابيش، فعاد خِراش بن أميَّة إلى رسول الله (ﷺ)، وأخبره بما صنعت قريش، فأراد رسول الله (ﷺ) أن يرسل سفيراً آخر لتبليغ قريشٍ رسالة رسول الله (ﷺ)، ووقع اختيار الرَّسول (ﷺ) في بداية الأمر على عمر بن الخطَّاب، فاعتذر لرسول الله (ﷺ) عن الذَّهاب إليهم، وأشار على رسول الله (ﷺ) أن يبعث عثمان مكانه، وعرض عمر رضي الله عنه رأيه هذا معزَّزاً بالحجَّة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء؛ وحيث إنَّ هذا الأمر لم يكن متحقِّقاً بالنِّسبة لعمر رضي الله عنه؛ فقد أشار على النَّبيِّ (ﷺ) بعثمان رضي الله عنه؛ لأنَّ له قبيلةً تحميه من أذى المشركين حتَّى يبلِّغ رسالة رسول الله (ﷺ) (2)، وقال لرسول الله (ﷺ) : إنِّي أخاف قريشاً على نفسي، قد عرفَتْ عداوتي لها، وليس بها من بني عديٍّ مَنْ يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله! دخلت عليهم(2)، فلم يقل رسول الله (ﷺ) شيئاً. قال عمر: ولكن أدلُّك يا رسول الله! على رجلٍ أعزَّ بمكَّة منِّي، وأكثر عشيرةً، وأمنع: عثمان بن عفان.

فدعا رسول الله (ﷺ) عثمان رضي الله عنه، فقال: اذهب إلى قريشٍ فخبرهم، أنَّا لم نأتِ لقتال أحدٍ، وإنما جئنا زوَّاراً لهذا البيت، معظِّمين لحرمته، معنا الهديُ، ننحرُه، وننصرف، فخرج عثمان بن عفَّان رضي الله عنه حتَّى أتى بلدح، فوجد قريشاً هنالك، فقالوا: أين تريد؟

قال: بعثني رسول الله (ﷺ) إليكم، يدعوكم إلى الله، وإلى الإسلام، تدخلون في الدِّين كافَّةً، فإنَّ الله مظهرٌ دينه، ومعزٌّ نبيه، وأخرى: تكفُّون، ويلي هذا منه غيرُكم، فإن ظفروا بمحمَّدٍ؛ فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمَّدٌ؛ كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه النَّاس، أو تقاتلوا؛ وأنتم وافرون جامُّون، إنَّ الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثـل منكم ..... فجعل عثمـان يكلِّمهم، فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول، ولا كان هذا أبداً، ولا دخلها علينا عَنْوَةً، فارجع إلى صاحبك، فأخبره أنَّه لا يصل إلينا.

فقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحَّب به، وأجاره، وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثمَّ نزل عن فرسٍ كان عليه، فحمل عثمان على السَّرج، وردفه وراءه، فدخل عثمان مكَّة، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً: أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أميَّة، وغيرهما، منهم من لقي ببلدح، ومنهم من لقي بمكَّة، فجعلوا يردُّون عليه: إن محمَّداً لا يدخلها علينا أبداً.

وعرض المشركون على عثمان رضي الله عنه أن يطوف بالبيت، فأبى، وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله (ﷺ) إلى المستضعفين بمكَّة وبشَّرهم بقرب الفرج، والمخرج، وأخذ منهم رسالةً شفهيَّة إلى رسول الله (ﷺ) جاء فيها: اقرأ على رسول الله (ﷺ) منا السَّلام، إنَّ الَّذي أنزله بالحديبية لقادرٌ على أن يدخله بطن مكَّة.

واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصُّلح، فرمى رجلٌ من أحد الفريقين رجلاً من الفريق الآخر، وكانت معركةٌ، وتراموا بالنَّبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كلُّ واحدٍ من الفريقين بمن فيهم، وقد تحدَّث القرآن الكريم عن ذلك، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الفتح: 24]. وقد روى مسلم سبب نـزول الآية السابقة: أنَّ ثمانين رجلاً من أهل مكَّة هبطوا على رسول الله (ﷺ) من جبل التَّنعيم متسلِّحين، يريدون غِرَّة النَّبيِّ (ﷺ) وأصحابه، فأخذهم سِلْماً، فاستحياهم، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - الآية المذكورة. [مسلم (1808)، وأحمد (3/122)، وأبو داود (2688)، والترمذي (3264)].

وهذا سلمة بن الأكوع يحدِّثنا عمَّا حدث قال: ثمَّ إنَّ المشركين راسلونا الصُّلح، حتَّى مشى بعضنا في بعضٍ، واصطلحنا، قال: وكنت تبيعاً لطلحة بن عبيد الله، أسقي فرسه، وأحسُّه، وأخدمه، واكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجراً إلى الله ورسوله قال: فلـمَّا اصطلحنا نحن وأهل مكَّة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرةً فكسحت شوكها، فاضطجعت في أصلها، قال: فأتاني أربعةٌ من المشركين من أهل مكَّة، فجعلوا يقعون في رسول الله (ﷺ) ، فأبغضتُهم، فتحوَّلت إلى شجرةٍ أخرى، وعلَّقوا سلاحهم، واضطجعوا، فبينما هم كذلك؛ إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين! قتل ابن زُنَيْمٍ! قال: فاخترطت سيفي ثمَّ شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم، فجعلته ضِغْثاًفي يدي. قال: ثمَّ قلت: والَّذي كرَّم وجه محمَّد! ما يرفع أحدٌ منكم رأسه إلا ضربت الَّذي فيه عيناه، قال: ثمَّ جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله (ﷺ) . قال: وجاء عمِّي عامرٌ برجلٍ من العَبْلاتِ يقال له: مِكْرَزٌ، يقوده إلى رسول الله (ﷺ) على فرسٍ مُجَفَّفٍ في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله (ﷺ) فقال: «دعوهم، يكن لهم بدء الفُجُور وثِنَاه» فعفا عنهم رسول الله (ﷺ) ، وأنزل الله: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الفتح: 24] [مسلم (1807)].

قال ابن كثير: هذا امتنانٌ من الله تعالى على عباده المؤمنين حيث كفَّ أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوءٌ، وكفَّ أيدي المؤمنين عن المشركين، فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلاً من الفريقين، وأوجد بينهم صلحاً فيه خيرٌ للمؤمنين، وعافيةٌ في الدُّنيا، والآخرة.

والكفُّ: منع الفاعل من فعلٍ أراده، أو شرع فيه، وهو مشتقٌّ من اسم الكفِّ الَّتي هي اليد؛ لأنَّ أصل المنع أن يكون دفعاً باليد، ويقال: كفَّ يده عن كذا: إذا منعه من تناوله بيده. وقوله: قال الرَّاغب: البطن خلاف الظَّهر في كلِّ ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾، ويقال للجهة السُّفلى: بطنٌ، وللجهة العُليا: ظهرٌ. وجمهور المفسِّرين حملوا بطن مكَّة في الآية على الحديبية من إطلاق البطن على أسفل المكان، والحديبية قريبةٌ من مكَّة وهي إلى مكَّة أقرب، وهي من الحلِّ، وبعض أرضها من الحرم، وهي على الطَّريق بين مكَّة وجُدَّة، وهي إلى مكَّة أقرب.

وختم الآية سبحانه بقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الفتح: 24] هذه إشارةٌ إلى أنَّ كف بعضهم عن بعض كان للمسلمين؛ إذ منُّوا على العدوِّ بعد التمكُّن منه.

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022