الإثنين

1446-03-13

|

2024-9-16

الحلقة الثانية بعد المئة (102)

بيعة الرِّضوان

لـمَّا بلغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّ عثمانَ رضي الله عنه قُتِل دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركيـن، ومناجزتهم، فاستجـاب الصَّحابـة، وبايعوه على الموت [البخاري (4169)، ومسلم (1860)]، سوى الجَدِّ بن قَيس، وذلك لنفاقه. وفي روايةٍ: أنَّ البيعة كانت على الصَّبر. وفي روايةٍ على عدم الفرار [مسلم (1856)، وأحمد (3/396)، والترمذي (1594)، والنسائي (7/140 و141)] ولا تعارض في ذلك؛ لأنَّ المبايعة على الموت تعني: الصَّبر، وعدم الفرار.

وكان أوَّل مَنْ بايعه على ذلك أبو سنان عبد الله بن وهب الأسديُّ، فخرج النَّاس بعده يبايعون على بيعته، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرَّاتٍ، في أوَّل النَّاس، وأوسطهم، وآخرهم، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه عن عثمان» فضرب بها على يده. [البخاري (3698)، والترمذي (3706)، وأحمد (1/101 و120)].

وكان عددُ الصَّحابة الَّذين أخذ منهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم المبايعة تحت الشجرة ألفاً وأربعمئة صحابيٍّ، وقد تحدَّث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرِّضوان، وورد فضلُهم في نصوصٍ كثيرةٍ من الآيات القرآنيَّة، والأحاديث النَّبويَّة؛ منها:

1 - قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 10].

وهذه الآية فيها ثنـاءٌ، ومدحٌ عظيمٌ لأهل بيعـة الرِّضوان ؛ فقـد جعل الله مبايعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم مبايعةً لـه، وفي هذا غاية التَّشريف، والتَّكريم لهم رضي الله عنهم.

قال ابن القيِّم: وتأمَّل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10] فلـمَّا كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيديهم، ويضرب بيده على أيديهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السَّفير بينه وبينهم كانت مبايعتهم له مبايعة لله تعالى، ولما كان سبحانه فوق سمواته على عرشه، وفوق الخلائق كلِّهم كانت يده فوق أيديهم، كما أنَّه سبحانه فوقهم.

ومعنى قوله في الآية: أي: ثواباً جزيلاً وهو ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾، وما يكون فيها ممَّا لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ.

2 - وقال تعالى مخبراً برضاه عنهم: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ۝ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [الفتح 18 19].

فقد أخبر الله تعالى أنَّه رضي عن أولئك الصَّفوة الأخيار من أهل بيعة الرِّضوان، ومَنْ رضي الله عنه لا يسخط عليه أبداً، فَلِلَّهِ ما أعظم هذا التكريم الذي ناله أهل بيعة الرضوان، وما أعلاه من مَنْقَبَةٍ! ومعنى الآية: لقد رضي الله ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ محمد! عن المؤمنين يعني: بيعة أصحاب ﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريشٍ الحرب، وعلى ألاَّ يفرُّوا، ولا يولُّوهم الأدبار تحت الشَّجرة، وكانت بيعتهم إيَّاه هنالك تحت شجرة السَّمُرة أي: فعلم ربك ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ محمد! ما في قلوب المؤمنين من أصحابك؛ إذ يبايعونك تحت الشَّجرة من صدق النِّـيَّة، والوفاء بما يبايعونك عليه، والصبر ﴿فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ أي: فأنزل الطمأنينة والثَّبات على ما هم عليه من دينهم، وحسن بصيرتهم بالحقِّ الَّذي هداهم الله له وهو فتح ﴿وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾، وأمَّا قوله تعالى: ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾ أي: وأثاب الله هؤلاء الَّذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشَّجرة مع ما أكرمهم به من رضاه عنهم، وإنزاله السَّكينة عليهم، وإثابته إيَّاهم فتحاً قريباً، وهو ما أجرى الله - عزَّ وجلَّ - على أيديهم من الصُّلح بينهم، وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العامِّ المستمرِّ المتَّصل بفتح خيبر، وفتح مكَّة، ثمَّ فتح سائر البلاد، والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العزِّ، والنَّصر، والرِّفعة في الدُّنيا، والآخرة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾

3 - أخبر الله تعالى عن أهل بيعة الرِّضوان: أنَّه ألزمهم كلمة التَّقوى، الَّتي هي كلمة التَّوحيد، وأنَّهم كانوا أحقَّ بها وأهلها. قال تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ  الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الفتح 26].

فلقد بيَّن الله تعالى في هذه الآية: أنَّه ألزم الصَّحابة رضي الله عنهم كلمة التَّقوى، وأكثر المفسرين على أنَّ المراد بكلمة التَّقوى هي: (لا إله إلا الله)، وبيَّن أنَّهم أحقُّ بها من كفَّار قريش، وأنَّهم كانوا أهلها في علم الله؛ لأنَّ الله تعالى اختار لدينه، وصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم أهل الخير. ذلك هو الثَّناء في القرآن على الصَّحابة الَّذين بايعوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بيعة الرِّضوان بالحديبية، وقد ورد الثَّناء عليهم في السُّنَّة المطَّهرة في أحاديث كثيرةٍ، ومن ذلك ما يلي:

أ - مِنْ حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: «أنتم خيرُ أهل الأرض»، وكنا ألفاً وأربعمئة، ولو كنت أبصر؛ لأريتكم موضع الشَّجرة. [البخاري (4154)، ومسلم (1856/71)].

هذا الحديث صريحٌ في فضل أصحاب الشَّجرة، فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعةٌ بمكَّة، وبالمدينة، وبغيرهما، وتمسَّك به بعض الشِّيعة في تفضيل عليٍّ على عثمان؛ لأنَّ عليّاً كان من جملة من خوطب بذلك، وممَّن بايع تحت الشَّجرة، وكان عثمان حينئذٍ غائباً، وهذا التمسُّك باطلٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بايع عنه، فاستوى معهم عثمان في الخيريَّة المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم على بعضٍ.

ب - وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أخبرتني أمُّ مبشِّر: أنَّها سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: «لا يدخل النَّار - إن شاء الله - من أصحاب الشَّجرة أحدٌ؛ الَّذين بايعوا تحتها» قالت: بلى يا رسول الله! فانتهرها، فقالت حفصة: فقال النَّبيُّ ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ «قد قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ۝ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقُوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71 - 72]». [أحمد (6/285)، ومسلم (2496)، وابن ماجه (4281)].

قال النَّوويُّ - رحمه الله تعالى -: قوله صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل النَّار - إن شاء الله - من أصحاب الشَّجرة أحدٌ؛ الَّذين بايعوا تحتها». قال العلماء: معناه: لا يدخلها أحدٌ منهم قطعاً.... وإنَّما قال: إن شاء الله للتبرُّك، لا للشكِّ. وأمَّا قول حفصة: بلى! وانتهار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لها، فقالت: فقال النَّبيُّ ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ : «وقد قال: » فيه دليلٌ ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقُوْا﴾، والجواب على وجه الاسترشاد، وهو مقصودُ حفصة لا أنَّها أرادت ردَّ مقالته صلى الله عليه وسلم . والصَّحيح: أنَّ المراد بالورود في الآية: المرور على الصِّراط، وهو جسرٌ منصوبٌ على جهنَّم، فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون.

ج - وروى الإمامُ مسلم بإسناده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من يصعد الثَّنيَّة ثنيةَ المُرَارِ، فإنَّه يُحطُّ عنه ما حُطَّ عن بني إسرائيل». قال: فكان أوَّل مَنْ صعدها خيلنا؛ خيلُ بني الخزرج، ثمَّ تتامَّ النَّاس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كلُّكم مغفورٌ له إلا صاحب الجمل الأحمر». فأتيناه، فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: والله! لأن أجد ضالَّتي أحبُّ إليَّ من أن يستغفر لي صاحبُكم، قال: وكان رجلاً ينشد ضالةً له. [مسلم (2780/12)].

وهذا الحديث تضمَّن فضيلةً عظيمةً لأصحاب الحديبية رضي الله عنهم، وتلك الفضيلة مغفرةُ الله لهم، وأكرمْ بها مِنْ فضيلة منحهم إيَّاها الرَّبُّ - جل وعلا - لإخلاصهم في طاعتهم واستجابتهم لله، والرَّسول صلى الله عليه وسلم بالسَّمع، والطَّاعة!.

إنَّ جيل الحديبية له سماتٌ كما في النُّصوص الصَّحيحة، فهم خير أهل الأرض، وغفر الله لهم، ولا يدخل منهم أحدٌ النَّار، وهذا الجيل مكوَّنٌ من السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين، والأنصار من أهل بدرٍ، ومن صلَّى القبلتين، ومن التحق بهم من الَّذين اتَّبعوهم بإحسانٍ.

وحين نُمعن النَّظر في هذا الجيل الفريد مقارنةً مع أهل بدرٍ؛ نلاحظ ارتفاع عدد المهاجرين إلى النِّصف من الجيش، وهذا الارتفاع الهائل في عدد المهاجرين من ثلاث وثمانين في بدرٍ إلى ثمانمئة، كان معظمه من القبائل العربيَّة المجاورة، وهي قبائل صغيرةٌ؛ إذا قيست بالقبائل الكبرى، لكنَّ شبابها كانوا يغدون إلى المدينة، ينضوون تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتلقَّون التَّربية اليوميَّة في المسجد، والتَّربيَّة العملية في المعارك، والغزوات، فيتدرَّبون على الجنديَّة الخالصة، ويفقهون دينهم مباشرةً من رسول ربِّ العالمين صلى الله عليه وسلم، وينشؤون في ظلال القدوة العُليا لهم من السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين، والأنصار، ويتنافسون في الطَّاعة، والامتثال لأمر الله، ورسوله، فنالت قبائلهم بذلك شرفاً ربا على القبائل الكُبرى؛ الَّتي تخاذلت في الانضمام للإسلام، فقبيلة أسلم، وغفار كانت على رأس هذه القبائل، ويعود الفضل - بعد الله - في ذلك إلى الرَّعيل الأوَّل منهم، واللبنات الأولى الَّتي انضمَّت إلى الدَّعوة، إلى أبي ذرٍّ الغفاريِّ، الَّذي كان من السَّابقين في إسلامه بمكَّـة، ومضى داعياً في قومه حتَّى جاءه سبعون بيتاً من غفار يؤمُّ بهم المدينة بعد أحدٍ، وإلى بريدة بن الحصيب الأسلميِّ، الَّذي تلقَّى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبل دخوله المدينة، فأسلم، ومعه سبعون من قومه كذلك.

أمَّا القبـائل الأخرى من مُزينـة، وجُهينـةَ، وأَشْجَـع، وخُزاعـةَ؛ فقد بـدأ شبابُها يفدون إلى المدينـة، لكن بأعدادٍ ضئيلـةٍ، وبقي كيان القبيـلة على الشِّرك، وبقـي أعرابيّاً بعيـداً عن محضن التَّربيـة العظيم داخل المدينة، فلم يُـتَـح لـه هذا الفضـل، والاغتـراف من رحيـق النُّبوَّة، ولهذا كانت الآيات الَّتي نزلت في المخلَّفين من الأعراب كالصَّواعق على رؤوسهم؛ لتخلُّفهم عن الانضمام إلى الجيش الإسلاميِّ الماضي إلى الحديبية.

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022