الإثنين

1446-03-13

|

2024-9-16

الحلقة الثالثة بعد المئة (103)

صلح الحديبية وما ترتَّب عليه مِنْ أحداث - الجزء (1)

أولاً: مفاوضة سهيل بن عمرٍو لرسول الله (ﷺ) :

لـمَّا بلغ قريشاً أمر بيعة الرِّضوان، وأدرك زعماؤها تصميم الرَّسول (ﷺ) على القتال؛ أوفدوا سهيل بن عمرو في نفرٍ من رجالهم لمفاوضة النَّبيِّ (ﷺ) ، ولـمَّا رأى رسول الله (ﷺ) سهيلاً؛ قال: لقد أراد القوم الصُّلح حين بعثوا هذا الرَّجل.

كان سهيل بن عمرٍو أحدَ زعماء قريشٍ البارزين الَّذين كانوا يُعْرَفون بالحنكة السِّياسيَّة، والدَّهاء، فهو خطيبٌ ماهرٌ، ذو عقلٍ راجحٍ، ورزانةٍ، وأصالةٍ في الرَّأي.

شرع الفريقان المتفاوضان في بحث بنود الصُّلح، وذلك بعد رجوع عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، وقد استعرض الفريقان النُّقاط الَّتي يجب أن تتضمَّنها معاهدة الصُّلح، واستعرضا في مباحثاتهما مختلف القضايا الَّتي كانت تشكِّل مثار الخلاف بينهما، هذا وقد اتَّفق الفريقان من حيث المبدأ على بعض النُّقاط، واختلفا على البعض الآخر، وقد طال البحث، والجدل، والأخذ والرَّدُّ حول هذه البنود، وبعد المراجعات، والمفاوضات تقاربت وجهات النَّظر بين الفريقين.

وعند الشُّروع في وضع الصِّيغة النِّهائية للمعاهدة، وكتابتها لتكون نافذة المفعول رسميّاً حدث خلاف بين الوفدين على بعض النقاط، كاد أن يعثِّر سير هذه الاتفاقيَّة، فعندما شرع النَّبيُّ (ﷺ) في إملاء صيغة المعاهدة المتَّفق عليها؛ أمر الكاتب، وهو الإمام عليُّ بن أبي طالبٍ بأن يبدأ المعاهدة بكلمة: «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم»، وهنا اعترض رئيس الوفدِ القرشيِّ سهيلُ بن عمروٍ قائلاً: لا أعرف الرَّحمن! اكتب: «باسمك اللَّهُمَّ»، فضجَّ الصَّحابة على هذا الاعتراض، قائلين: هو الرَّحمن، ولا نكتب إلا الرَّحمن، ولكنَّ النَّبيَّ (ﷺ) تمشياً مع سياسة الحكمة، والمرونة، والحلم، قال للكاتب: «اكتب: باسمك اللَّهُمَّ»، واستمرَّ في إملاء صيغة المعاهدة هذه، فأمر الكاتب أن يكتب: «هذا ما اصطلح عليه رسول الله»، وقبل أن يكمل الجملة اعترض رئيس الوفد القرشيِّ على كلمة (رسول الله) قائلاً: لو أعلم أنَّك رسولُ الله ما خالفتُك، واتَّبعتُك، أفترغب عن اسمك، واسم أبيك محمَّد بن عبد الله؟! اكتب اسمك، واسم أبيك.

واعترض المسلمون على ذلك، ولكن رسول الله (ﷺ) بحكمته، وتسامحه، وبُعْدِ نظره حسم الخلاف، وأمر الكاتب بأن يشطب كلمة (رسول الله) من الوثيقة، فالتزم الصَّحابة الصَّمت، والهدوء.

إنَّ النَّبيَّ (ﷺ) وافق المشركين على ترك كتابة «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم» وكتابة « باسمـك اللَّهم» بدلاً عنها، وكذا وافقهم على كتابة «محمَّد بن عبد الله» وترك كتابة «رسول الله (ﷺ)»، وكذا وافقهم على ردِّ من جاء منهم إلى المسلمين دون من ذهب منهم إليهم، وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمَّة الحاصلة بالصُّلح، مع أنَّه لا مفسدة في هذه الأمور، أمَّا البسملة، وباسمك اللَّهمَّ فمعناهما واحدٌ، وكذا قوله «محمَّد بن عبد الله» هو أيضاً رسولُ الله (ﷺ) ، وليس في ترك وصف الله - سبحانه وتعالى - في هذا الموضع بالرَّحمن الرَّحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصف النَّبي (ﷺ) بالرِّسالة ما ينفيها، فلا ضرر، ولا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحلُّ من تعظيم آلهتهم، ونحو ذلك.

وأمَّا شرط ردِّ مَنْ جاء منهم، وعدم ردِّ من ذهب إليهم، فقد بيَّن النَّبيُّ (ﷺ) تعليل ذلك، والحكمة فيه في هذا الحديث بقوله: «مَنْ ذهب منَّا إليهم فأبعده الله! ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً، ومخرجاً»، ثمَّ كان كما قال (ﷺ) .

وتمَّ عقد هذه المعاهدة، وكانت صياغتُها من عشرة بنود جاءت على الشَّكل التَّالي:

1 - باسمك اللّهم.

2 - هذا ما صالح عليه محمَّد بن عبد الله سهيل بن عمرو.

3 - واصطلحا على وضع الحرب عن النَّاس عشر سنين، يأمن فيهنَّ النَّاس، ويكفُّ بعضُهم عن بعضٍ.

4 - على أنَّه مَنْ قدم مكَّة من أصحاب محمَّد حاجاً، أو معتمراً، أو يبتغي من فضل الله؛ فهو آمنٌ على دمه، وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر، أو إلى الشَّام، يبتغي من فضل الله؛ فهو آمنٌ على دمه، وماله.

5 - على أنَّه مَنْ أتى محمَّداً من قريشٍ بغير إذن وليِّه؛ ردَّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممَّن مع محمَّد، لم يردُّوه عليه.

6 - وأنَّ بيننا عَيبةً مكفوفةً، وأنَّه لا إسلال، ولا إغلال.

7 - وأنَّه من أحبَّ أن يدخل في عَقْدِ محمَّدٍ، وعهده دخله، ومن أحبَّ أن يدخل في عقد قريشٍ، وعهدهم دخل فيه. (فتواثبت خزاعة، فقالوا: نحن في عقد محمَّد وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريشٍ، وعهدهم).

8 - وأنت ترجع عنَّا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكَّة، وأنَّه إذا كان عام قابلٍ خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاحُ الرَّاكب، السُّيوف في القُرُب، ولا تدخلها بغيرها.

9 - وعلى أنَّ هذا الهَدْيَ وما جئتنا به؛ فلا تقدمه علينا.

10 - وشهد على الصُّلح رجالٌ من المسلمين، ورجالٌ من المشركين:

فمن المسلمين: أبو بكر الصِّدِّيق، وعمر بن الخطَّاب، وعبد الرَّحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقَّاص، ومحمَّد بن مسلمة، وعليُّ بن أبي طالبٍ كاتب المعاهدة رضي الله عنهم أجمعين. ومن المشركين: مِكْرزَ بن حفص، وسهيل بن عمرو.

تُعَدُّ هذه المعاهدة أساساً للمعاهدات الإسلاميَّة، وأنموذجاً فريداً للمعاهدات الدَّوليَّة بما سبقها من مفاوضاتٍ، وما حوته مِنْ شروطٍ، وما تمثَّل بها من خلق النَّبيِّ (ﷺ) في النُّزول عند رضا الطَّرف الآخر، وفي كيفية الصِّياغة والالتزام. هذه المعاهدة سبقها مفاوضاتٌ من قبل المشركين، والمسلمين، وفشل بعض الممثِّلين في الوصول إلى اتفاق، ودارت مشاوراتٌ شتَّى من الجانبين قبل الوصول إليه، حتَّى توصل الفريقان إلى اتفاقٍ عن طريق ممثِّل المشركين (سهيل بن عمرو) ورسول الله (ﷺ) على ملأ المسلمين.

عُقدت هذه المعاهدة في الوقت الَّذي كان فيه المسلمون بمركز القوَّة، لا الضَّعف، وكان باستطاعتهم ألاَّ يقبلوا شروطها الَّتي اغتاظ منها كثيرٌ من الصَّحابة، ولكن ما كان لهم أن يخرجوا عن طوع رسول الله (ﷺ) الَّذي لا ينطق عن الهوى، وقد تمادى رسول قريشٍ على رسول الله (ﷺ) في مفاوضته، وكان فرداً بين جيش المسلمين، فلم ينله أذىً، ولم يتمادَ عليه المسلمون بالقتل؛ «لأنَّ السُّفراء لا تُقتل»، ولكنَّ رسول الله (ﷺ) يرضيه، ويسعه بالحلم، واللِّين، حتَّى يصل إلى الغاية التي ينشدها الإسلام، وهي حقن الدِّماء، وإحلال السَّلام، ورجاء أن يعقل القوم الحقَّ، وأن يراجعوا المواقف، ويسمعوا كلام الله، وتدخل الدَّعوة الإسلاميَّة طوراً جديداً بصورٍ أخرى في الانتشار والاتِّصال بالنَّاس، وعندما نتأمَّل نصوص المعاهدة التي تمَّت في الحديبية فإننا نأخذ منها الآتي:

1 - أنَّ ديباجة المعاهدات الإسلاميَّة كانت تبدأ باسم الله، أو باسمك اللّهمَّ، والقانون الدَّولي في صياغة المعاهدات يقول: «تبدأ كتابة المعاهدات بديباجة يتَّفق عليها طرفا التَّعاقد».

والَّذي يجب أن نلاحظه: أنَّ المعاهدات في الإسلام تستند إلى الله تعالى؛ الَّذي تبدأ باسمه سبحانه، حيث هو الرَّقيب، والحسيب على ما في النَّوايا والقلوب، واسم الله مقدَّسٌ في كلِّ قلبٍ يؤمن به، حتَّى أولئك الذين فسدت عقائدُهم، فإنَّهم لا ينكرون الله، ولكنَّهم أفسدوا تصوُّرهم لذات الله، وقد جرت أعراف بعض الَّذين يستهوون قلوب العامَّة بالشِّعارات الجوفاء أن يقولوا بدل اسم الله: باسم الشَّعب، أو باسم الأمَّة، باعتبار قدسيَّة ما يبدؤون به كما يزعمون، ولكنَّ الَّذي يؤمن بالله لا يعدل عن قدسية الله في اعتقاده، ولذلك كانت البداية «باسمك اللّهُمَّ».

2 - ذكر في المعاهدة طرفا التعاقد بعد (الدِّيباجة) كما يسمِّيها القانون الدَّوليُّ، وهذا ما عليه القانون الدَّوليُّ العام من أنَّه يذكر بعد الدِّيباجة أسماء الممثِّلين، أو الدُّول الَّتي هي أطراف في عقد المعاهدة.

3 - بواعث المعاهدة: فقد جاء في بداية هذه المعاهدة ذكر الصُّلح لأجل وضع الحرب عن النَّاس عشر سنين، يأمن فيهنَّ النَّاس، ويكفُّ بعضهم عن بعضٍ، وهذا ما عليه القانون الدَّولي العام كذلك.

4 - الدُّخول في صلب المعاهدة، وشروطها، حيث ذكر رسول الله (ﷺ) في هذه المعاهدة الشُّروط المتَّفق عليها بين الطَّرفين، وهذا ما عليه القانون الدَّوليُّ العام.

5 - في معاهدة صلح الحديبية جواز ابتداء الإمام (رئيس الدَّولة الإسلاميَّة) بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقَّف ذلك على أن يكون ابتداء الطَّلب منهم.

6 - أنَّ مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزٌ للمصلحة الرَّاجحة، ودفع ما هو شرٌّ منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناها.

7 - أنَّ صلح الحديبية سمَّاه الله فتحاً؛ لأنَّ الفتح في اللُّغة هو فتح المغلق، والصُّلح الَّذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً مغلقاً ففتحه الله، والصُّلح كذلك يفتح القلوب المغلقة نحو الطَّرف الآخر.

لقد كانت الصُّورة الظَّاهرة في شروط الحديبية فيها ضيمٌ للمسلمين، وهي في باطنها عزٌّ، وفتحٌ، ونصرٌ، حيث كان رسول الله (ﷺ) ينظر إلى ما وراء المعاهدة من الفتح العظيم من وراء سترٍ رقيقٍ، وكان يعطي المشركين كلَّ ما سألوه من الشُّروط الَّتي لم يحتملها أكثر أصحابه، ورؤوسهم، وهو (ﷺ) يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوبٍ.

8 - إنَّ المعاهدة قد تكون مفتوحةً لمن يحبُّ أن يدخل فيها من الأطراف، أو الدُّول الأخرى، وهذا ما عليه القانون الدَّوليُّ؛ حيث أجاز أن تكون المعاهدة مفتوحةً لمن يحبُّ الدُّخول فيها من الأطراف الأخرى، فقد دخلت خزاعة، وكنانة في الصُّلح الذي أنهى حالة الحرب القائمة بين هاتين القبيلتين والَّتي امتدَّت سنواتٍ عديدةً.

9 - إنَّ المعاهدة لابدَّ لها من توقيع الأطراف، والإشهاد عليها، وتوقيع رسول الله (ﷺ) وإشهاد أصحابه إنَّما هو بمثابة التَّوقيع على المعاهدة، والتَّصديق عليها، كما هو في القانون الدَّوليِّ العامِّ.

10 - إنَّ المعاهدة يجوز أن يكون الوسيط فيها طرفاً محايداً، أو طرفاً يقرِّب بين وجهات النَّظر، كوساطة سيد الأحابيش (الحُلَيْس بن عَلْقَمَةَ) حليف قريش الأكبر، حيث طلبت منه قريش أن يكون وسيطاً بينهم وبين المسلمين، وكان الحُلَيْسُ ذا عقلٍ راجحٍ، وبصيرةٍ نافذةٍ، وكان سيِّداً مطاعاً، وكان رسول الله (ﷺ) يعرفه، ويعرف فيه التألُّه الشَّديد، والتَّعظيم للحرم.

وعندما اختارته قريش كانت تطمع في أن يكون لمركزه الممتاز بين العرب، ولما يتمتَّع به من تقديرٍ لدى النَّبيِّ (ﷺ) تأثيرٌ على الرَّسول (ﷺ) وأصحابه.

وهذا ما يقرُّه القانون الدَّوليُّ؛ حيث إنَّ المعاهدة قد تعقد بوساطة دولةٍ أخرى ليست طرفاً في النِّزاع، أو أحد المبعوثين الَّذين لا علاقة لهم، أو لدولتهم بالنِّزاع القائم بين طرفي التعاقد.

11 - إن المعاهدة تُعَدُّ نافذة المفعول بمجرَّد الاتفاق على المعاهدة، وشروطها، حتَّى لو لم تكتب، ولو لم يوقِّع عليها الطَّرفان، وذلك كما حدث لأبي جندل بن سهيل بن عمرو الَّذي ردَّه الرَّسول (ﷺ) بموجب قبوله عليه السَّلام بالبند الخامس من المعاهدة، والَّذي يقول: «على أنَّه من أتى محمَّداً من قريشٍ بغير إذن وليِّه ردَّه عليهم...»، فمنذ أعلن رسول الله (ﷺ) التزامه بهذا الشَّرط أجراه، ولم تكن المعاهدة قد كتبت بعد، ولم يوقِّع عليها الطرفان.

12 - إنَّ المعاهدة تُكتب من نسختين، ويأخذ كلُّ طرفٍ نسخةً طِبْقَ الأصل من المعاهدة؛ حيث إنَّه بعد أن تمَّت إجراءات الصُّلح النِّهائية في الحديبية؛ أخذ كلٌّ من الفريقين نسخةً من وثيقة الصُّلح التَّاريخيَّة، وانصرف الوفد القرشيُّ راجعاً إلى مكَّة.

ثانياً: موقف أبي جندل والوفاء بالعهد:

إنَّ من أبلغ دروس صلح الحديبية درسَ الوفاء بالعهد، والتَّقيُّد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات؛ الَّتي يقطعها المسلم على نفسه، وقد ضرب رسول الله (ﷺ) بنفسه أعلى مثلٍ في التَّاريخ القديم، والحديث لاحترام كلمةٍ لم تكتب، واحترام كلمةٍ تكتب كذلك، وفي الجدِّ في عهوده، وحبِّه للصَّراحة، والواقعيَّة، وبغضه التَّحايل، والالتواء، والكيد، وذلك حينما كان يفاوض (سهيل بن عمرو) في الحديبية، حيث جاءه ابن سهيل يرسف في الأغلال، وقد فرَّ من مشركي مكَّة، وكان أبوه يتفاوض مع الرَّسول (ﷺ) ، وكان هذا الابن ممَّن آمنوا بالإسلام وجاء مستصرخاً بالمسلمين، وقد انفلت من أيدي المشركين.

فلـمَّا رأى سهيلٌ ابنه؛ قام إليه وأخذه بتلابيبه، وقال: يا محمد! لقد لجَّت القضيَّةُ بيني وبينك - أي: فرغنا من المناقشة قبل أن يأتيك هذا - فقال رسول الله (ﷺ) : صدقت، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين! أُرَدُّ إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فلم يغنِ عنه ذلك شيئاً، وردَّه رسول الله (ﷺ) ، وقال لأبي جندل: إنَّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهداً، وإنَّا لا نغدر بهم. غير أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) إزاء هذه المأساة التي حالت بنود معاهدة الصُّلح بينه وبين أن يجد مخرجاً منها لأبي جندل المسلم، طمأن أبا جندل وبشَّره بقرب الفرج له، ولمن على شاكلته من المسلمين، وقال له - وهو يواسيه -: «يا أبا جندل! اصبر، واحتسب، فإنَّ الله جاعلٌ لك، ولمن معك من المستضعفين فرجاً، ومخرجاً» [سبق تخريجه].

وفي هذه الكلمات النَّبويَّة المشرقة العظيمة دلالةٌ ليس فوقها دلالةٌ على مقدار حرص رسول الله (ﷺ) ، وتمسُّكه بفضيلة الوفاء بالعهد مهما كانت نتائجه، وعواقبه فيما يبدو للنَّاس.

لقد كان درس أبي جندل امتحاناً قاسياً، ورهيباً لهذا الوفاء بالعهد، أثبت فيه الرَّسول (ﷺ) والمسلمون نجاحاً عظيماً في كبت عواطفهم، وحبس مشاعرهم، وقد صبروا لمنظر أخيهم أبي جندل، وتأثَّروا من ذلك المشهد عندما كان أبوه يجتذبه من تلابيبه، والدِّماء تنزف منه؛ ممَّا زاد في إيلامهم، حتَّى إنَّ الكثيرين منهم أخذوا يبكون بمرارة إشفاقاً منهم على أخيهم في العقيدة، وهم ينظرون إلى أبيه المشرك وهو يسحبُه بفظاظة الوثنيِّ الجلف، ليعود به مرَّة أخرى إلى سجنه الرَّهيب في مكَّة.

وقد صبر أبو جندل، واحتسب لمصابه في سبيل دينه، وعقيدته، وتحقَّق فيه قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2 - 3].

فلم تمرَّ أقلُّ من سنة حتَّى تمكَّن مع إخوته المسلمين المستضعفين بمكَّة من الإفلات من سجون مكَّة، وأصبحوا قوَّةً صار كفار مكَّة يخشونها بعد أن انضمُّوا إلى أبي بصير، وسيطروا على طرق قوافل المشركين الآتية من الشَّام. وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً بإذن الله تعالى.

ثالثاً: احترام المعارضة النَّزيهة:

بعد الاتفاق على معاهدة الصُّلح، وقبل تسجيل بنودها ظهرت بين المسلمين معارضةٌ شديدةٌ، وقويَّةٌ لهذه الاتفاقيَّة، وخاصَّةً في البندين اللَّذين يلتزم النَّبيُّ (ﷺ) بموجبهما بردِّ من جاءه من المسلمين لاجئاً، ولا تلتزم قريشٌ بردِّ مَنْ جاءها من المسلمين مرتدَّاً، والبند الَّذي يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكَّة ذلك العام، وقد كان أشدَّ النَّاس معارضة لهذه الاتفاقيَّة، وانتقاداً لها عمر بن الخطَّاب، وأُسيد بن حضير سيِّد الأوس، وسعد بن عُبادة سيِّد الخزرج.

وقد ذكر المؤرِّخون: أنَّ عمر بن الخطَّاب أتى رسول الله (ﷺ) مُعلناً معارضته لهذه الاتفاقيَّة، وقال لرسول الله (ﷺ) : ألست برسول الله؟ قال: «بلى!» قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى!» قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى!» قال: فعلام نُعطى الدَّنيَّة في ديننا؟! قال: «إنِّي رسولُ الله، ولستُ أعصيه».

وفي روايةٍ: «أنا عبد الله، ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يُضيِّعني» قلت: أوليس كنت تحدِّثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى! فأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قلت: لا. قال: «فإنَّك آتيه، ومطوِّفٌ به». قال عمر: فأتيت أبا بكرٍ، فقلت له: يا أبا بكر! أليس برسول الله؟ قال: بلى! قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قلت: فعلام نُعطى الدَّنيَّة في ديننا؟ فقال أبو بكر - ناصحاً الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة -: الزم غرزه - أي: أمره -، فإنِّي أشهد أنَّه رسول الله، وأنَّ الحقَّ ما أمر به، ولن يخالف أمر الله، ولن يضيِّعه الله.

وبعد حادثة أبي جندل المؤلمة المؤثِّرة عاد الصَّحابة إلى تجديد المعارضة للصُّلح، وذهبت مجموعة منهم إلى رسول الله (ﷺ) بينهم عمر بن الخطاب لمراجعته، وإعلان معارضتهم، إلا أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) بما أعطاه الله من صبرٍ، وحكمةٍ، وحلمٍ، وقوَّة حجَّةٍ استطاع أن يقنع المعارضين بوجاهة الصُّلح، وأنَّه في صالح المسلمين، وأنَّه نصرٌ لهم، وأنَّ الله سيجعل للمستضعفين من أمثال أبي جندل فرجاً، ومخرجاً، وقد تحقَّق ما أخبر به (ﷺ) .

وبهذا يتبيَّن: أنَّ الرَّسول (ﷺ) وضع قاعدة احترام المعارضة النَّزيهة، حيث قرَّر ذلك بقوله، وفعله، وهو - والله أعلم - إنَّما أراد بهذا الفعل إرشاد القادة من بعده إلى احترام المعارضة النَّزيهة؛ الَّتي تصدر من أتباعهم، وذلك بتشجيع الأتباع على إبداء الآراء السَّليمة؛ الَّتي تخدم المصلحة العامَّة.

وهذا الهدي النَّبويُّ الكريم بيَّن: أنَّ حرِّيَّة الرأي مكفولةٌ في المجتمع الإسلاميِّ، وأنَّ للفرد في المجتمع المسلم الحرِّيَّة في التَّعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرَّأي نقداً لموقف حاكم من الحكَّام، أو خليفةٍ من الخلفاء، فمن حقِّ الفرد المسلم أن يبيِّن وجهة نظره في جوٍّ من الأمن، والأمان دون إرهابٍ، أو تسلُّط يخنق حرِّية الكلمة، والفكر.ونفهم من معارضة عمر لرسول الله (ﷺ) : أنَّ المعارضة لرئيس الدَّولة في رأيٍ من الآراء، وموقف من المواقف ليست جريمةً تستوجب العقاب، ويُغَيَّب صاحبها في غياهب السُّجون.

رابعاً: التَّحلُّل من العمرة ومشورة أمِّ سلمة رضي الله عنها:

لما فرغ رسول الله (ﷺ) من قضية كتابة الصُّلح قال لأصحابه: «قوموا، فانحروا، ثمَّ احلقوا...» حتَّى قال ذلك ثلاث مرَّاتٍ، فلـمَّا لم يقم منهم أحدٌ؛ دخل على أمِّ سلمة، فذكر لها ما لقي مِنَ النَّاس، فقالت أمُّ سلمة: يا نبي الله! أتحبُّ ذلك؟ اخرج، ثمَّ لا تُكلِّم أحداً منهم كلمةً؛ حتى تنحر بُدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج، فلم يكلِّم أحداً منهم حتَّى فعل ذلك: نحر بُدْنه، ودعا حالقه، فلـمَّا رأوا ذلك؛ قاموا، فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتَّى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. [سبق تخريجه].

وقد حلق رجالٌ يوم الحديبية، وقصَّر آخرون، فقال رسول الله (ﷺ) : «يرحم الله المحلِّقين!» قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟! قال: «يرحم الله المحلِّقين!» قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟! قال: «يرحم الله المحلِّقين!» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: «والمقصرين». [البخاري (1727)، ومسلم (1201)، عن ابن عمر، وأحمد (1/216) عن ابن عباس].

وكان في هدي النَّبيِّ (ﷺ) في الحديبية جملٌ لأبي جهلٍ في رأسه بُرَةٌ من فضَّةٍ، يغيظ بذلك المشركين. [أحمد (1/234)، وأبو داود (1749)، وابن ماجه (3076)، والطبراني في المعجم الكبير (11147 و11148)].

وفي هذه الحادثة تستوقفنا أمورٌ فيها دروسٌ، وعبرٌ منها:

1 - كان رأي أمِّ سلمة سديداً، ومباركاً؛ حيث فهمت رضي الله عنها عن الصَّحابة: أنَّه وقع في أنفسهم أن يكون النَّبيُّ (ﷺ) أمرهم بالتَّحلُّل أخذاً بالرُّخصة في حقِّهم، وأنَّه يستمرُّ على الإحرام أخذاً بالعزيمة في حقِّ نفسه، فأشارت على النَّبيِّ (ﷺ) أن يتحلَّل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النَّبيُّ (ﷺ) صواب ما أشارت به، ففعله، فلـمَّا رأى الصَّحابة ذلك؛ بادروا إلى فعل ما أمرهم به، فلم يبق بعد ذلك غايةٌ تُنتظر، فكان ذلك رأياً سديداً، ومشورةً مباركةً، وفي ذلك دليلٌ على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة ما دامت ذات فكرةٍ صائبةٍ، ورأيٍ سديدٍ، كما أنَّه لا فرق في الإسلام بين أن تأتي المشورة من رجلٍ، أو امرأةٍ ما دامت مشورةً صائبةً، وهذا عين التَّكريم للمرأة الَّتي يزعم أعداء الإسلام: أنَّه غمطها حقَّها، وتجاهل وجودها، وهل هناك اعترافٌ واحترامٌ لرأي المرأة أكثر من أن تشير على نبيٍّ مرسلٍ، ويعمل النَّبيُّ (ﷺ) بمشورتها لحلِّ مشكلة اصطدم بها، وأغضبته؟!.

2 - أهمِّيَّة القدوة العملية: فقد دعا رسول الله (ﷺ) إلى أمر وكرَّره ثلاث مرَّاتٍ، وفيهم كبار الصَّحابة، وشيوخهم، ومع ذلك لم يستجب أحدٌ لدعوته، فلـمَّا قدم رسول الله (ﷺ) على الخطوة العمليَّة؛ الَّتي أشارت بها أمُّ سلمة تحقَّق المراد، فالقدوة العمليَّة في مثل هذه المواقف أجدى، وأنفع.

3 - حكم الإحصار في العمرة والحجِّ: دلَّ عمل الرَّسول (ﷺ) بعد الفراغ من أمر الصُّلح من التحلُّل، والنَّحر، والحلق على أنَّ المحصر يجوز له أن يتحلَّل، وذلك بأن يذبح شاةً حيث أحصر، أو ما يقوم مقامها، ويحلق، ثمَّ ينوي التَّحلُّل ممَّا كان قد أهلَّ به، سواءٌ كان حجّاً، أو عمرةً، كما دلَّ على أنَّ المتحلِّل لا يُلزم بقضاء الحجِّ، أو العمرة إذا كان متطوِّعاً، وخالف الحنفيَّة، فرأوا: أنَّ القضاء بعد المباشرة واجبٌ؛ بدليل أنَّ جميع الَّذين خرجوا معه (ﷺ) في صلح الحديبية خرجوا معه في عمرة القضاء، إلا مَنْ توفي، أو استشهد منهم في غزوة خيبر.

ونُكمل ما ترتَّب علي صلح الحديبية من أحداث في الجزء (2) من الحلقة القادمة (104).

 

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022