الإثنين

1446-03-13

|

2024-9-16

الحلقة الرابعة بعد المئة (104)

صلح الحديبية وما ترتَّب عليه مِنْ أحداث - الجزء (2)

خامساً: العودة إلى المدينة ونزول سورة الفتح:

انصرف رسول الله (ﷺ) من الحديبية قاصداً المدينة، حتَّى إذا كان بين مكَّة والمدينة نزلت سورة الفتح، قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الفتح: 11] .

وقد عبَّر رسول الله (ﷺ) عن عظيم فرحته بنزولها، وقال: أُنزلت عليَّ الليلة سورةٌ لهي أحبُّ إليَّ ممَّا طلعت عليه الشَّمس [البخاري (4177)، عن أسلم، ومسلم (1786) عن أنس]، ثمَّ قرأ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيناً ﴾، فقال أصحاب رسول الله (ﷺ) : هنيئاً مريئاً فما لنا؟ فأنزل الله:

﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 5] [البخاري (4172) عن أنس].

وقد أسرع النَّاس إلى رسول الله (ﷺ) وهو واقفٌ على راحلته بكراع الغميم فقرأ عليهم: فقال رجل: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيناً ﴾ رسول الله! أفتحٌ هو؟ قال: «نعم، والذي نفسي بيده! إنَّه لفتح» [أبو داود (2736)، والحاكم (2/131)] فانقلبت كابة المسلمين، وحزنُهم إلى فرحٍ غامرٍ، وأدركوا: أنَّهم لا يمكن أن يحيطوا بالأسباب والنَّتائج، وأنَّ التَّسليم لأمر الله، ورسوله فيه كلُّ الخير لهم، ولدعوة الإسلام.

كان حديث القرآن الكريم عن هذا الحدث العظيم في سورة الفتح، وكان القرآن الكريم له منهجُه الخاصُّ في عرضه لغزوة الحديبية، فنجد في حديثه عن هذه الغزوة: أنَّه سمى الصُّلح الذي وقع بين الفريقين مع عدم وقوع القتال فتحاً مبيناً.

إنَّنا بالتَّأمُّل في أسباب النُّزول نجد: أنَّ سورة الفتح نزلت بعد انتهاء النَّبيِّ (ﷺ) من الصُّلح، وهو عائدٌ إلى المدينة النَّبويَّة، وبعد أن خاض النَّبيُّ (ﷺ) ، والمؤمنون تلك التَّجارب العظيمة من الأمل في العمرة إلى مواجهة المشركين، إلى بيعة الرِّضوان، إلى الصُّلح الَّذي لم يكن بعض الصَّحابة راضين عنه، ودارت في أنفسهم أشياء كثيرةٌ حول هذه الأحداث الجسام.

ينزل القرآن الكريم ويبيِّن للمسلمين: أنَّ هذا الصُّلح هو فتحٌ مبين، ويؤكِّد: أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) كان على صوابٍ في قبول الصُّلح؛ لتزداد ثقة المؤمنين برسول الله (ﷺ) حين يبشِّره الله على الملأ من الدُّنيا بأنَّ الله تعالى فتح بالصُّلح ليغفر له ما تقدَّم من ذنبه، وما تأخَّر كرامةً منه سبحانه لرسوله، ليزداد المسلمون ثقةً، واطمئناناً بأنَّهم على الصَّواب، وأن ما فعلوه هو الحقُّ، وماله السَّعادة، ثمَّ بيَّن سبحانه أنَّ توفيق الله كان مع المؤمنين؛ فهو الَّذي وفَّقهم للصَّبر مع رسوله، وموافقتهم أخيراً على ما جنح له من أمر الصُّلح، وأنَّ ذلك كان بسبب إنزال السَّكينة في قلوبهم، حتَّى على قلوب من أنكر بعض شروط الصُّلح، واستسلم للأمر على مضضٍ، فلم يحصل رفضٌ لهذا الصُّلح، بل كلُّهم نزلوا على أمر رسوله (ﷺ) بفضل السَّكينة؛ الَّتي أنزلها عليهم، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الفتح: 4].

فالقرآن الكريم يبيِّن: أنَّ الله هو الَّذي أنزل السَّكينة عليهم ليتذكَّروا فضله، ويداوموا على شكره، وهذا الإعلام بإنزال السَّكينة ممَّا يتميَّز به حديث القرآن الكريم عن هذه الغزوة؛ إذ السَّكينة أمرٌ معنويٌّ لا يعلم نزوله إلا الله، وأشار القرآن الكريم إلى بيعة الرِّضوان، وهي مبايعة الصَّحابة للنَّبيِّ على الموت، فأثنى الله - سبحانه وتعالى - على هذه البيعة، وكتب لها الخلود في القرآن، وقرَّر أنَّها مبايعةٌ لله - عزَّ وجلَّ -، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 10].

وبهذا نرى ما يتميَّز به القرآن الكريم في حديثه عن الغزوات، فهو يبيِّن الحقائق ويصحِّح العقائد، ويربِّي النُّفوس، ويفضح المنافقين، ويبشر المسلمين بغنائم قريبةٍ تحقَّقت في خيبر، وبين أصحاب الأعذار، فليس كلُّ مَنْ تخلَّف عن الجهاد يُعاتب، وإنَّما هناك استثناء، وهذا من كمال رحمته الإلهيَّة، ثمَّ لما تمَّ صلح الحديبية، وعاد المسلمون إلى المدينة، ولم يتحقَّق ما قصدوه من دخول مكَّة؛ أشار - سبحانه وتعالى - إلى الرُّؤيا الَّتي سبق أن راها النَّبيُّ (ﷺ) وبشَّر بها أصحابه، وبيَّن أنَّها رؤيا صِدْقٍ، وأنَّها ستتحقَّق. قال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 27].

ثمَّ خُتمتِ السُّورة الجليلةُ بصفات مدحٍ للنَّبيِّ (ﷺ) ولأصحابه الكرام.

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 28 - 29].

هذه الآيات الكريمة وصفت أصحاب محمَّدٍ في أحلى، وأجمل صورةٍ، إنَّها صورةٌ عجيبةٌ يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع، صورةٌ مؤلَّفةٌ من عدَّة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة، حالاتها الظَّاهرة، والمضمرة.

فاللقطةٌ الأولى: تُصوِّر حالتهم مع الكفَّار، ومع أنفسهم: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾، أشدَّاء على الكفار، وفيهم اباؤهم، وإخوتهم، وذوو قرابتهم، وصحابتهم، ولكنَّهم قطعوا هذه الوشائج جميعاً وهم فقط إخوة ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾، فهي الشدَّة لله، والرَّحمة لله.

اللَّقطة الثَّانية: والتَّعبير يوحي كأنَّما هذه هي هيئتهم الدَّائمة؛ الَّتي يراها الرَّائي حين ﴿رُكَّعًا سُجَّدًا﴾، ذلك: أنَّ هيئة الرُّكوع والسُّجود تمثِّل حالة العبادة، وهي الحالة الأصليَّة في حقيقة نفوسهم، فعبَّر عنها تعبيراً يثبِّتها كذلك في زمانهم، حتَّى لكأنهم يقضون زمانهم كلَّه ركَّعاً سجداً.

واللَّقطة الثَّالثة: مثلها، ولكنَّها لقطةٌ لبواطن نفوسهم، وأعماق سرائرهم فهذه هي صورة مشاعرهم الدَّائمة ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً﴾، كلُّ ما يشغَل بَالَهُم، كلُّ ما تتطلَّع إليه أشواقهم، هو فضلُ الله، ورضوانُه، ولا شيء وراء الفضل والرِّضوان يتطلَّعون إليه، ويشتغلون به.

واللَّقطة الرَّابعة: تثبت أثر العبادة الظَّاهرة، والتَّطلُّع المضمر في ملامحهم، ونضجها على سماتهم سيماهم في ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ من الإشراق، والوضـاءة، والصَّفاء، والشَّفافيـة، وليست هذه السِّيما هي النُّـكتـة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذِّهن عند سماع قوله: فالمقصود بأثر السُّجود هو أثر ﴿مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾، واختار لفظ السُّجود؛ لأنَّه يمثِّل حالة الخشوع، والخضوع والعبوديَّة لله في أكمل صورها، فهو أثر هذا الخشوع، أثره في ملامح الوجه، حيث تتوارى الخيلاء، والكبرياء، والفراهة، ويحلُّ مكانها التَّواضع النَّبيل، والشَّفافية الصَّافية، والوضاءة الهادئة، والذُّبول الخفيف؛ الَّذي يزيد وجه المؤمن وضاءةً، وصباحةً، ونُبلاً.

وهذه الصُّورة الوضيئة الَّتي تمثِّلها هذه اللَّقطات ليست مستحدثةً، إنَّما هي ثابتةٌ لهم في لوحة القدر، ومِنْ ثمَّ فهي قديمةٌ جاء ذكرها في التَّوراة: وصفتهم الَّتي عرفهم الله بها في كتاب ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾، وبشَّر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها وصفهم في بشارته بمحمَّد ومن معه أنَّهم فهو زرعٌ تامٌّ قويٌّ يخرج فرخه من ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾، وخصوبته، ولكنَّ هذا الفرخ لا يُضعف العود بل يشدُّه: وأنَّ العود آزر ﴿فَآزَرَهُ﴾، فشدَّه ﴿فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾، وضخمت ساقه، وامتلأت ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ معوجّاً، ولا منحنياً، ولكن مستقيماً قويّاً سويّاً.

هذه صورته في ذاته، فأمَّا وقعه في نفوس أهل الخبرة، والزَّرع، والعارفين، منه النَّامي المثمر، ومنه البائر، فهو وقع البهجة والإعجاب: وهم ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ الله وأصحابُه، وأمَّا وقعه في نفوس الكفَّار؛ فعلى العكس، فهو وقع الغيظ والكَمَد ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾، وتعمُّد إغاظة الكفار يوحي بأنَّ هذه الزِّراعة زرعةُ الله أو زرعة رسولِه، وأنَّهم ستارٌ لِقَدره، وأداةٌ لإغاظة أعداء الله.

وهذا المثل ثابتٌ في الإنجيل في بشارته بمحمَّدٍ (ﷺ) ومَنْ معه حين يجيئون.

وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة - صحابة رسول الله - فتثبُت في صلب الوجود كلِّه، وتتجاوب بها أرجاؤه، وهو يستمع إليها من بارئ الوجود، وتبقى أنموذجاً للأجيال تحاول أن تحقِّقها ليتحقَّق معنى الإيمان في أعلى الدَّرجات.

وفوق هذا التكريم كلِّه وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم: وهو وعدٌ يجيء في هذه الصِّيغة العامَّة بعدما تقدَّم من صفتهم الَّتي تجعلهم أوَّل الدَّاخلين في هذه الصِّيغة العامَّة ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا﴾، وذلك التكريم وحده حسبُهم، وذلك الرِّضا وحدَه أجرٌ عظيمٌ، ولكنَّه الفيض الإلهيُّ بلا حدودٍ ولا قيود، والعطاء الإلهيُّ عطاءٌ غير مجذوذ.

يقول سيِّد قطب رحمه الله: «... ومرةً أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرناً أن أستشرف وجود هؤلاء الرِّجال السُّعداء، وقلوبهم؛ وهم يتلقَّون هذا الفيض الإلهيَّ من الرِّضا، والتَّكريم، والوعد العظيم، وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله، وفي ميزان الله، وانظر إليهم وهم عائدون من الحديبية، وقد نزلت هذه السُّورة، وقد قرئت عليهم، وهم يعيشون فيها بأرواحهم، وقلوبهم، ومشاعرهم، وسماتهم، وينظر بعضهم في وجوه بعضٍ، فيرى أثر النِّعمة الَّتي يُحِسُّها وهو في كيانه». لقد أيقن الصَّحابة الكرام أنّ الدَّعوة قد دخلت في طورٍ جديد، وفتح أكيد، وافاق أوسع، وامتدادٍ أرحب، وأنَّ من طبيعة هذا الدِّين أن ينمو، وينتعش في أجواء السِّلم، والأمن أكثر منه وقت الحرب، ولمسوا مع الأيام نتائج صلح الحديبية الَّتي كان من أهمِّها:

1 - اعترفت قريش في هذه المعاهدة بكيان الدَّولة المسلمة، فالمعاهدة دائماً لا تكون إلا بين ندَّين، وكان لهذا الاعتراف أثرُه في نفوس القبائل المتأثِّرة بموقف قريشٍ الجحوديِّ؛ حيث كانوا يرون: أنَّها الإمام والقدوة.

2 - دخلت المهابة في قلوب المشركين، والمنافقين، وتيقَّن الكثير منهم بغلبة الإسلام، وقد تجلَّت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثيرٍ من صناديد قريش إلى الإسلام؛ مثل خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، كما تجلَّت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلُّفهم.

3 - أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام، وتعريف النَّاس به، ممَّا أدى إلى دخول كثيرٍ من القبائل فيه، يقول الإمام الزُّهري: «فما فتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه، إنَّما كان القتال حيث التقى النَّاس، فلـمَّا كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن النَّاس بعضهم بعضاً، والتقوا، فتفاوضوا في الحديث، والمنازعة، فلم يكلَّم أحدٌ بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السَّنتين مثلُ ما كان في الإسلام قبل ذلك».

وعقَّب عليه ابن هشامٍ بقوله: والدَّليل على قول الزُّهريِّ: أنَّ رسول الله (ﷺ) خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمئةٍ في قول جابر بن عبد الله, ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.

4 - أمن المسلمون جانب قريش, فحوَّلوا ثقلهم على اليهود, ومَنْ كان يناوئهم من القبائل الأخرى, فكانت غزوة خيبر بعد صلح الحديبية.

5 - مفاوضات الصُّلح جعلت حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين, ويميلون إليه, فهذا الحُلَيْسُ بن علقمة عندما رأى المسلمين يلبُّون؛ رجع إلى أصحابه, قال: لقد رأيت البُدْن قد قُلِّدَتْ, وأُشْعِرت, فما رأى أن يُصَدُّوا عن البيت.

6 - مكَّن صلح الحديبية النَّبيَّ (ﷺ) من تجهيز غزوة مؤتة, فكانت خطوةً جديدةً لنقل الدَّعوة الإسلاميَّة بأسلوبٍ آخر خارج الجزيرة العربيَّة.

7 - ساعد صلح الحديبيَّة النَّبيَّ (ﷺ) على إرسال رسائل إلى ملوك الفرس, والرُّوم, والقط يدعوهم إلى الإسلام.

8 - كان صلح الحديبيَّة سبباً ومقدِّمةً لفتحِ مكَّة, ويقول ابن القيِّم: «كانت الهدنةُ مقدِّمةً بين يدي الفتح الأعظم, الَّذي أعزَّ الله به رسوله, وجنده, ودخل النَّاسُ به في دين الله أفواجاً, فكانت هذه الهدنة باباً له, ومفتاحاً, ومؤذناً بين يديه, وهذه سُنَّةُ الله - سبحانه - في الأمور العظام الَّتي يقضيها قدراً, وشرعاً أن يوطِّئَ لها بين يديها مقدِّماتٍ, وتوطئاتٍ تُؤذنُ بها, وتدُلُّ عليها».

سادساً: أبو بصير في المدينة وقيادته لحرب العصابات:

في أعقاب صلح الحديبية مباشرةً استطاع أبو بصير عُتْبَةُ بن أُسَيْدٍ أن يفرَّ بدينه من سجون الشِّرك في مكَّة المكرَّمة, وأن يلتحق برسول الله (ﷺ) في المدينة, فبعثت قريش في إثره اثنين من رجالها إلى رسول الله (ﷺ) ليرجعا به, تنفيذاً لشروط المعاهدة, فقال رسول الله (ﷺ) لابي بصير: «يا أبا بصير! إنَّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت, ولا يصلح لنا في ديننا الغدر, وإنَّ الله جاعلٌ لك, ولمن معك من المستضعفين فرجاً, ومخرجاً, فانطلق إلى قومك» فقال أبو بصير: يا رسول الله! أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: «يا أبا بصير, انطلق؛ فإن الله سيجعل لك, ولمن معك من المستضعفين فرجاً, ومخرجاً» [أحمد (4/325), وابن هشام (3/331)].

فانطلق معهما, وقد شقَّ ذلك على المسلمين وهم ينظرون بحزنٍ إلى أخيهم في العقيدة, وهو يعود إلى سجنه بمكَّة بعد أن استطاع أن يفلت من ظلم قريشٍ، ولكنَّ رسول الله (ﷺ) كان يهتمُّ بالوفاء بالعهود، والمواثيق، ولم يكن عنده مجرَّد نظريةٍ مكتوبةٍ على الورق، ولكنَّه كان سلوكاً عملياً في حياته، وفي علاقته الدَّولية، فقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود، وحذَّر من نقض الأيمان بعد توكيدها في كثير من الآيات القرآنيَّة، فقال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 91].

وقال جلَّ وعلا: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 34].

وبهذا يكون الوفاء بالعهد عند المسلمين قاعدةً أصوليَّة من قواعد الدِّين الإسلاميِّ، الَّتي يجب على كلِّ مسلمٍ أن يلتزم بها.

لقد التزم رسول الله (ﷺ) بعهده مع قريش، وسلَّم أبا بصير إليهما، وانطلق معهما، فلـمَّا كان بذي الحُليفة؛ قال لأحد صاحبيه: أصارمٌ سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم. قال: أنظر إليه؟ قال: انظر؛ إن شئت، فاستلَّه أبو بصير، ثم علاه به حتَّى قتله، ففرَّ الآخر إلى رسول الله (ﷺ) فقال: قتل صاحبُكم صاحبي، فما لبث أبو بصير أن حضر، متوشحاً السَّيف، وقال: يا رسول الله! وفَت ذمَّتك، وأدَّى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أُفتن فيه، أو يُعْبَث بي. فقال النَّبيُّ (ﷺ) : «ويل أمِّه! مسْعَرُ حربٍ. لو كان له أحدٌ!». [أحمد (4/331)، والبخاري (2732)، وأبو داود (2765)].

فلـمَّا سمع ذلك عرف: أنَّه سيردُّه إليهم، فخرج حتَّى أتى سيف البحر، وقد فهم المستضعفون بمكَّة من عبارة الرَّسول (ﷺ) أنَّ أبا بصير بحاجةٍ إلى الرِّجال، فأخذوا يفرُّون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرٍو، وغيره، حتَّى اجتمع عند أبي بصير عصبةٌ قويَّةٌ، فما يسمعون بعيرٍ لقريشٍ خرجت إلى الشَّام إلا اعترضوا طريقها، وقتلوا مَنْ فيها، وأخذوا الأموال التي كانوا يتَّجرون بها، فأرسل المشركون إلى النَّبيِّ (ﷺ) يناشدونه الله، والرَّحم لمَا أرسل إلى أبي بصيرٍ، ومن معه، ومن أتاه منهم، فهو آمن، وتخلَّوا في ذلك عن أقسى شروطهم الَّتي صبُّوا فيها كؤوس كبريائهم، فذلَّت قريشٌ من حيث طلبت العزَّ.فأرسل إليهم النَّبيُّ (ﷺ) وهم بناحية العيص، فقدموا عليه، وكانوا قريباً من السِّتِّين، أو السَّبعين فاوى النَّبيُّ (ﷺ) تلك العصبة المؤمنة الَّتي أقضَّت مضاجع قريشٍ، وأرغمتها على إسقاط شرطها التَّعسُّفيَّ، فزادت بهم قوَّة المسلمين، وقويت بهم شوكتُهم، واشتدَّ بأسهم، غير أنَّ أبا بصيرٍ، رأس تلك العصابة، ومؤسِّسها لم يقدَّر له أن يكون معها، فقد وافاه كتاب النَّبيِّ (ﷺ) بالعودة إلى المدينة وهو على فراش الموت، فلفظ أنفاسه حيث كان في الثَّغر، وهواه في قلب المجتمع النَّبويِّ في المدينة.

إنَّ قصَّة أبي جندلٍ، وأبي بصيرٍ، وما احتملاه في سبيل العقيدة، وما أبدياه من الثَّبات، والإخلاص، والعزيمة، والجهاد؛ حتَّى مرَّغوا رؤوس المشركين بالتُّراب، وجعلوهم يتوسَّلون للمسلمين لترك ما اشترطوه عليهم في الحديبية، هذه القصَّة نموذجٌ يُقتدى به في الثَّبات على العقيدة، وبذل الجهد في نصرتها، وفيها ما يشير إلى مبدأ: «قد يسع الفرد ما لا يسع الجماعة»، فقد ألحق أبو بصير، وجماعتُه الضَّرر بالمشركين في وقتٍ كانت فيه دولة الإسلام لا تستطيع ذلك وفاءً بالصُّلح، لكنَّ أبا بصير، وأصحابَه خارجُ سلطة الدَّولة - ولو في ظاهر الحال - ولم يكن ما قام به أبو بصير، والمستضعفون بمكَّة مجرَّد اجتهادٍ فرديٍّ لم يحظَ بإقرار الرَّسول (ﷺ) حيث لم يأمر أبا بصير بالكفِّ عن قوافل المشركين ابتداءً، أو بالعودة إلى مكَّة، إنَّ ذلك لم يحدث، فكان إقراراً له؛ إذ كان موقف أبي بصير، وأصحابه فـي غاية الحكمة، حيث لم يستكينوا لطغاة مكَّة يفتنونهم عن دينهم، ويمنعونهم من اللَّحاق بالمدينة، فاختاروا موقفاً فيه خلاصُهم، وإسناد دولتهم بأعمالٍ تُضعِف اقتصاد مكَّة، وتزعزع إحساسها بالأمن في وقت الصُّلح، بل يمكن القول بأن اتِّخاذ هذا الموقف كان بإشارةٍ، وتشجيعٍ من النَّبيِّ (ﷺ) حين وصف أبا بصير بأنَّه: «مِسْعَرُ حربٍ. لو كان معه أحدٌ!» [سبق تخريجه].

إنَّ المتأمِّل في هذه الأحداث يرى رعاية الله الَّتي أولاها لهؤلاء الصَّحابة الكرام، ولا شكَّ: أنَّ هناك أسباباً بذلوها، فأهَّلتهم لتلك الرِّعاية من الله سبحانه، فقد بيَّن سبحانه في كتابه المؤهِّلات لرعايته وعنايته.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]. وقال تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]. وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

فهذه الصِّفات قد توافرت في الصَّحابة رضي الله عنهم، فنالوا تلك الرِّعاية والعناية من الله، ومتى توافرت في شخصٍ، أو أمَّـةٍ في كلِّ زمانٍ، ومكانٍ فإنَّ رعاية الله سوف تنزل عليهم؛ لأنَّ الله قد وعد بذلك، ووعده الحقُّ.

سابعاً: امتناع النَّبيِّ (ﷺ) عن ردِّ المهاجرات:

صمَّمت مجموعةٌ من النِّساء المستضعفات في مكَّة على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي مقدِّمة هؤلاء النِّساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط، فقد هاجرت إلى رسول الله (ﷺ) بعد صلح الحديبية، فأراد كفار مكَّة أن يردُّوهن؛ فأنزل الله تعالى في حقِّهنَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 10]. [خبر رفض رسول الله (ﷺ) إرجاع أم كلثوم؛ رواه ابن سعد (8/230 - 231)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/229)، ومجمع الزوائد (7/123)].

ومعنى الآيات الكريمة: قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾، قال ابن عباس: كان امتحانهنَّ أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً عبد الله ورسولُه، وقوله تعالى: هذه الاية هي الَّتي حرَّمت المسلمات على ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾، قال القرطبيُّ: هذا أوَّل دليلٍ على أنَّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرتُها.

ثمَّ قال تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ أي: أعطوا أزواج المهاجرات من المشركين الَّذي غرموه عليهنَّ من الأصدقة.

وقوله: قال ابن كثيرٍ: يعني: إذا ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ أصدقتهنَّ؛ فانكحوهنَّ؛ أي: تزوَّجوهنَّ بشرط: انقضاء العدَّة، والوليِّ، وغير ذلك.

وفي قوله: العصم: جمع العصمة؛ وأصل العصمة: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾، وكلُّ ما أمسك شيئاً فقد عصمه، والمراد بالعصمة هنا: النِّكاح، الكوافر: جمع كافرة، والمعنى: أنَّ الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهنَّ، وقد طلَّق عمر بن الخطَّاب امرأتين كانتا له في الشِّرك لـمَّا نزلت هذه الآية. [البخاري (3732)].

وقوله: ﴿وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة: 10]

قال المفسِّرون: كان مَنْ ذهب من المسلمات مرتدَّاتٍ إلى الكفَّار من أهل العهد يقال للكفَّار: هاتوا مهرها. ويقال للمسلمين إذا جاء أحدٌ من الكافرات مسلمةً مهاجرةً: ردُّوا إلى الكفار مهرها. وكان ذلك نصفاً، وعدلاً في الحالتين، وكان هذا حكم الله مخصوصاً بذلك الزَّمان في تلك النَّازلة خاصَّةً بإجماع الأمَّة قاله ابن العربيِّ.

قوله تعالى: ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾[الممتحنة: 11]

يعني: إن لحقت امرأةٌ مؤمنةٌ بكفَّار أهل مكَّة، وليس بينكم، وبينهم عهدٌ، ولها زوجٌ مسلمٌ قِبَلكُم، فغنمتم، فأعطوا هذا الزَّوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمَّس. وقال الزُّهريُّ: يُعطى من مال الفيء، وعنه: يعطى من صداق مَنْ لحق بنا.

وقال مجاهد: أصبتم غنيمةً ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾ قريشٍ، أو غيرهم.

قال أبو السُّعود: أي: فجاءت عقبتكم؛ أي: نوبتكم من أداء ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾، شبَّه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارةً، وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمرٍ يتعاقبون فيه، كما يتعاقب في الرُّكوب، وغيره.

وقوله: ﴿فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾[الممتحنة: 11]

قال ابن كثير: فلو أنَّها ذهبت بعد هذه الآية امرأةٌ من أزواج المؤمنين إلى المشركين؛ ردَّ المؤمنون إلى زوجها النَّفقة، الَّتي أنفق عليها من العَقِب الَّذي بأيديهم؛ الذي أمروا أن يردُّوه على المشركين من نفقاتهم الَّتي أنفقوا على أزواجهم الَّلاتي آمن، وهاجرن، ثمَّ رَدُّوا إلى المشركين فضلاً إن كان بقي لهم.

وختم الآية الكريمة بقوله: أي احذروا أن تعتدوا ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ أمرتم به.

قال الزُّهريُّ: وما نعلم أحداً من المهاجرات ارتدَّت بعد إيمانها [البخاري (2733)]، وقال ابن حجر: أراد الزُّهريُّ بذلك الإشارة إلى أنَّ المعاقبة المذكورة بالنِّسبة إلى الجانبين إنَّما وقعت في الجانب الواحد؛ لأنَّه لم يُعرف أحدٌ من المؤمنات فرَّت من المسلمين إلى المشركين بخلاف عكسه.

لقد حدث خلافٌ في فهم البند القائل: من أتى محمَّداً (ﷺ) من قريش بغير إذن وليِّه ردَّه عليهم، فالمشركون يرون: أنَّ النَّص يشمل الرِّجال، والنِّساء، والرَّسول (ﷺ) يرى: أنَّ النَّص للرِّجال دون النِّساء؛ إذ النَّصُّ جاء بصيغة المذكَّر، ولقد أيَّد الله رسوله (ﷺ) فيما ذهب إليه، فلم يُرجع مسلمةً هاجرت إلى المدينة فراراً بدينها، بل امتحنها، وقبلها بناءً على أمر ربِّه - سبحانه وتعالى -.

يقول الأستاذ محمد عزة دروزة تعقيباً على آية الامتحان: والآية تفهم مع الاستئناس بالرِّوايات المنسقة إجمالاً معها: أنَّ بعض المؤمنات الَّلاتي لم يستطعن أن يهاجرن إلى المدينة قبل الصُّلح اغتنمن فرصةً فهاجرن خِلْسةً، وأنَّ ذويهنَّ جاؤوا يطالبون بإعادتهن وفقاً لشروط الصُّلح، فنزلت الآية تنهى عن إعادتهنَّ، وتأمر بالتَّعويض على أزواجهنَّ، وقد تعدَّدت الأقوال في حقيقة نصِّ وثيقة الصُّلح، ومنها أنَّه كان مطلقاً، وبصيغة التَّذكير، فرأى المكِّيُّون: أنَّه شاملٌ للرِّجال، والنساء معاً، فجاؤوا يطالبون بالإعادة، ورأى النَّبيُّ (ﷺ) : أنَّه لا يشمل النِّساء، فنزلت الآية حاسمةً للأمر، وهذا هو المعقول.

وقال الأستاذ الغزاليُّ: «وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردُّوا النِّسوة المهاجرات بدينهنَّ إلى أوليائهنَّ، إمَّا لأنّهم فهموا: أنَّ المعاهدة خاصَّةٌ بالرِّجال فحسب، أو لأنّهم خشوا على النِّساء الَّلاتي أسلمن أن يضعفن أمام التَّعذيب والإهانة، وهنَّ لا يستطعن ضرباً في الأرض، وردّاً للكيد، كما فعل أبو جندل، وأبو بصير، وأضرابهما، وأيّـاً كان الأمر؛ فإنَّ احتجاز مَنْ أسلم من النِّساء تمَّ بتعليم القرآن».

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022