الإثنين

1446-03-13

|

2024-9-16

الحلقة الواحدة والتسعون (91)

غزوة بدر الموعد ودومة الجندل

أولاً: غزوة بدر الموعد:

تنفيذاً للموعد الَّذي كان أبو سفيان قد اقترحه في أعقاب معركة أحدٍ، والتزام الرَّسول (ﷺ) بذلك، فقد خرج النَّبيُّ (ﷺ) من المدينة على رأس جيشٍ من أصحابه قوامه ألف وخمسمئة مقاتلٍ، بينهم عشرةٌ من الخيَّالة، وذلك في ذي القعدة سنة (4 هـ) وحمل لواء الجيش عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه فوصلوا بدراً، فأقاموا فيها ثمانية أيَّامٍ في انتظار وصول قوَّات المشركين من قريشٍ بقيادة أبي سفيان حسب الموعد بين الطَّرفين، غير أنَّ أحداً من المشركين لم يصل إلى بدرٍ، وكان أبو سفيان قد جمَّع قوات قريش، وحلفاءها؛ الَّتي تألَّفت من ألفي مقاتل معهم خمسون فرساً، فلـمَّا وصلوا إلى مرِّ الظَّهران؛ نزلوا على مياه مَجَنَّة على بُعْد أربعين ميلاً من مكَّة، ثمَّ عاد بهم أبو سفيان إلى مكَّةبعد أن خطب فيهم، وقال: يا معشر قريش! إنَّه لا يصلحكم إلا عامٌ خصيبٌ ترعون فيه الشَّجر، وتشربون فيه اللَّبن، وإنَّ عامكم هذا عامٌ جدبٌ، وإنِّي راجعٌ، فارجعوا.

وأقبل مَخْشِيُّ بن عمرو الضَّمريُّ، وهو الذي وادع رسول الله (ﷺ) على بني ضمرة في غزوة ودَّان، فالتقى برسول الله (ﷺ) في بدرٍ، وقال: يا محمد! أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: «نعم، يا أخا بني ضمرة! وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثمَّ جالدناك حتَّى يحكم الله بيننا وبينك». قال: لا والله يا محمد! ما لنا بذلك منك مِنْ حاجةٍ. [ابن هشام (3/220)].

ففي هذا اللِّقاء أكَّد رسول الله (ﷺ) على معنىً كبيرٍ في إظهار قوَّة المسلمين، وأنَّ العقد الَّذي كان بين الفريقين يستمرُّ بعامل قوَّة المسلمين، لا بعامل ضعفهم؛ وبناءً على طلب الطَّرف الثَّاني، وفي هذا ما فيه من القوَّة للمسلمين ، وإلقاء الرُّعب في قلوب أعدائهم، لقد كانت تحرُّكاتُ الجيش الإسلاميِّ من المدينة حتَّى بدرٍ مناورةً رائعةً ناجحةً، أثبت بها وجوده، وأعطى الدَّليل القاطع لأعـداء الإسلام داخل المدينة، وخارجها: أنَّه أصبح أقوى قوَّةٍ مرهوبةٍ في الجزيرة العربيَّة كلِّها، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ جيش مكَّة - وهو من أعظم الجيوش في الجزيرة من حيث كثرة العدد، وقوَّة التَّنظيم وجودة التَّسلُّح - قد هاب الجيش الإسلاميَّ، ونكل عن حربه بعد أن خرج للقائه بموجب ميعادٍ سابقٍ حدَّده في (أُحُد) قائد عام جيش مكَّة.

إنَّ الحملة الإعلاميَّة الَّتي قام بها المشركون لإثبات انتصارهم في أحدٍ، وتفوُّقهم الحربيِّ قد انتكست على رؤوسهم، وأصبحوا مثار السُّخرية عند العرب، وثبت للنَّاس: أنَّ ارتباك المسلمين للمفاجأة في أحدٍ وسقوط القتلى منهم لا يعني انهزامهم، ولا ضعفهم العسكريَّ، فقد ساهمت هذه الغزوة في المحافظة على السُّمعة العسكريَّة للمسلمين، وكسبوا انتصاراً معنويّاً عظيماً على أعدائهم بدون قتال، وشاركوا في الموسم التِّجاري ببدرٍ، وربحوا في تجارتهم ربحاً طيباً.

لقد كان لإخلاف قريش الموعد أثرٌ في تقوية مكانة المسلمين وإعادة هيبتهم.

ثانياً: غزوة دومة الجندل:

كانت غزوة دومة الجندل من ضمن حركة تثبيت أركان الدَّولة الإسلاميَّة، فبعد غزوة بدر الموعد، تحرَّكت القوات الإسلاميَّة بقيادة رسول الله (ﷺ) نحو قضاعة؛ الَّتي كانت تنزل شمال قبائل أسد، وغطفان، وفي حدود الغساسنة الموالين للدَّولة الرُّوميَّة (بيزنطة)، ولها إشراف على سوق (دومة الجندل) الشَّهير (على بعد (450) كيلو متراً شمال المدينة) كانت هذه القبيلة أوَّل مَنْ احتكَّ بها المسلمون، فغزاها رسول الله (ﷺ) تلك الغزوة المعروفة بغزوة دومة الجندل (ربيع الأول 5 هـ/ أغسطس 626 م)، فقد وصلت الأنباء إلى المدينة بتجمُّع بعض القبائل عند دومة الجندل للإغارة على القوافل الَّتي تمرُّ بهم، والتَّعرُّض لمن في القافلة بالأذى، والظُّلم، كما وردت الأنباء بأنَّهم يفكِّرون في القرب من المدينة، لعَجْمِ عودها.

إنَّ دومة الجندل تُعَدُّ بلداً نائياً بالنِّسبة للمدينة المنوَّرة، لأنَّها تقع على الحدود بين الحجاز، والشَّام، وفي منتصف الطَّريق بين البحر الأحمر، والخليج العربيِّ، وهي على مسيرة ست عشرة ليلةً من المدينة، ولو أنَّ المسلمين أغفلوا أمرها، وسكتوا عن وجود هذا التَّجمُّع فيها ما لامهم أحدٌ، ولا ضرَّهم هذا التجمُّع في شيءٍ على المدى القريب، ولكنَّ النَّظرة السِّياسيَّة البعيدة، والعقليَّة العسكريَّة الفذَّة أوجبت على المسلمين أن يتحرَّكوا لفضِّ هذا التَّجمُّع والقضاء عليه قبل أن يستفحل شأنُه للأسباب الاتية وكذلك بغية تحقيق بعض الأهداف:

1 - لأنَّ السُّكوت عن هذا التجمُّع، وما شاكله يؤدِّي بلا شكٍّ إلى تطوُّره واستفحاله، ثمَّ يؤدي بعد ذلك إلى إضعاف قوَّة المسلمين، وإسقاط هيبتهم، وهو الأمر الَّذي يجاهدون من أجل استرداده.

2 - وجود مثل هذا التَّجمُّع في الطَّريق إلى الشَّام قد يؤثِّر على الوضع الاقتصاديِّ للمسلمين، فلو أنَّ المسلمين سكتوا عن هذا التَّجمُّع؛ لتعرَّضت قوافلُهم، أو قوافل القبائل الَّتي تحتمي بهم للسَّلب، والنَّهب، ممَّا يُضعف الاقتصاد، ويؤدِّي إلى حالةٍ من التذمُّر، والاضطراب.

3 - وهناك أمرٌ أهمُّ من الأمرين السَّابقين، وهو فرض نفوذ المسلمين على هذه المنطقة كلِّها، وإشعارُ سكَّانها بأنَّهم في حمايتهم، وتحت مسؤوليَّتهم، لذلك فهم يؤمِّنون لهم الطُّرق، ويحمون لهم تجارتهم، ويحاربون كلَّ إرهابٍ من شأنه أن يزعجهم، أو يُعرِّضهم للخطر.

4 - حرمان قريش من أيِّ حليفٍ تجاريٍّ قد يمدُّها بما تحتاج إليه من التِّجارة، وصرف أنظارهم عن هذه المنطقة التِّجاريـة المهمَّة ؛ لأنَّ ظهور الدَّولة الإسلاميَّة بهذه القوة يؤثِّر على نفسية قريشٍ (العدوِّ الأوَّل للدَّولة الإسلاميَّة) ويجعلها تخشى المسلمين على تجارتها.

5 - الحرص على إزالة الرَّهبة النَّفسيَّة الموجودة عند العرب؛ الَّذين ما كانوا يحلمون بمواجهة الرُّوم، والتَّأكيد عمليّاً للمسلمين بأنَّ رسالتهم عالميَّةٌ وليست مقصورةً على العرب. ورأى بعض المؤرِّخين كالذَّهبيِّ، والواقديِّ، ومحمَّد أحمد باشميل، وغيرهم: أنَّ من أهداف تلك الغزوة إرهابُ الرُّوم؛ الَّذين تقع المنطقة الَّتي وصل إليها بجيشه على حدودهم وعلى مسافة خمس ليالٍ من عاصمة مُلكهم الثَّانية دمشق.

لهذا ندب رسول الله (ﷺ) المسلمين للخروج، وخرج في ألفٍ من أصحابه، وكان يسير الليل، ويكمن النهار حتَّى يُخفي مسيره، ولا تشيع أخبارُه، وتُنقل أسراره، وتتعقَّبه عيون الأعداء.

واتَّخذ له دليلاً من بني عذرة يسمَّى مذكوراً، وسار حتَّى دنا من القوم، عندئذٍ تفرَّقوا، ولم يلقَ رسولُ الله (ﷺ) منهم أحداً، فقد ولَّوا مدبرين، وتركوا أنعامهم، وماشيتهم، غنيمةً باردةً للمسلمين، وأسر المسلمون رجلاً منهم، وأحضروه إلى الرَّسول (ﷺ) ، فسأله عنهم، فقال: هربوا لـمَّا سمعوا بأنَّك أخذت أنعامهم، فعرض عليه رسول الله (ﷺ) الإسلام، فأسلم، وأقام بساحتهم أياماً، وبعث البعوث، وبثَّ السرايا، وفرَّق الجيوش، فلم يصب منهم أحداً، وعاد المسلمون إلى المدينة، وفي أثناء عودتهم وادع الرَّسول عيينة بن حصنٍ الفَزاريَّ، واستأذن عيينةُ رسول الله (ﷺ) في أن ترعى إبلُه، وغنمُه في أرضٍ قريبة من المدينة على ستةٍ وثلاثين ميلاً منها.

إنَّ وصول جيوش المسلمين إلى دومة الجندل، وهي على هذه المسافة البعيدة من المدينة، وموادعة عيينة بن حصن للمسلمين، واستئذانه في أن يرعى بإبله، وغنمه في أرضٍ بينها وبين المدينة ستَّةٌ وثلاثون ميلاً - أي: ما يقرب من خمسة وستين كيلو متراً - لدليل قاطعٌ على ما وصلت إليه قوَّة المسلمين، وعلى شعورهم بالمسؤولية الكاملة تجاه تأمين الحياة للنَّاس في هذه المنطقة، وأنَّ هذه المناطق النَّائية كانت ضمن الدَّولة الإسلاميَّة، وأنَّ الدَّولة أصبحت منيعةً، ليس في مقدور أحدٍ أن يعتدي عليها، ولو كان ذلك في استطاعة أحدٍ؛ لكان هو عيينة بن حصن الَّذي كان يغضب لغضبه عشرة آلاف فتىً.

كانت غزوة دومة الجندل بعيدةً عن المدينة من جهة الشَّام؛ إذ بينها وبين دمشق ما لا يزيد عن خمس ليالٍ، وقد كانت بمثابة إعلان عن دعوة الإسلام بين سكَّان البوادي الشَّمالية، وأطراف الشَّام الجنوبيَّة، وأحسُّوا بقوَّة الإسلام، وسطوته، كما كانت لقيصر، وجنده كما أنَّ سير الجيش الإسلاميِّ هذه المسافات الطَّويلة قد كان فيه تدريبٌ له على السَّير إلى الجهات النائية، وفي أرضٍ لم يعهدوها من قبلُ، ولذلك تعتبر هذه الغزوة فاتحة سير الجيوش الإسلاميَّة للفتوحات العظيمة في بلاد اسية، وإفريقية فيما بعد.

كانت خطَّة الرَّسول (ﷺ) في هذه الغزوة ترمي إلى أهدافٍ عديدةٍ، فهي غزوةٌ، وحربٌ استطلاعيَّةٌ تمسح الجزيرة العربيَّة، وتتعرَّف مراكز القوى فيها، وهي حربٌ إعلاميَّةٌ تأتي على أعقاب بدرٍ الموعد، وتستثمر انتصاراتها، وهي حربٌ عسكريَّةٌ تريد أن تصدَّ هجوماً محتملاً على المسلمين؛ حيث انضوى إليها قومٌ من العرب كثيرٌ يريدون أن يدنوا من المدينة، وهي حربٌ سياسيَّة تريد أن تُجْهِض من تحرُّكات القبائل المحتمل أن تتحرَّك بعد أنباء غزوة أحد لتقصد المدينة، وتستبيحها.

كانت هذه الغزوة دورةً تربويَّةً رائعةً، وقاسيةً، وشاملةً يقودها رسول الله (ﷺ) وبين يديه ألفٌ من أصحابه، فيتلقَّون فيها كلَّ لحظةٍ دروساً في الطَّاعة، والانضباط، ودروساً في التَّدريب الجسميِّ، والعسكريِّ، والتَّحمُّل لمشاقِّ الحياة، وصعوباتها، وأحكاماً، وفقهاً في الحلال، والحرام، وعمليات صهرٍ وتذويبٍ لقواعد الجيش الإسلاميِّ في بوتقةٍ واحدةٍ خارج إطار العشيرة، وخارج كيان القبيلة، حيث أخذت تَفِدُ إلى المدينة عناصر كثيرةٌ من أبناء القبائل المجاورة، والتَّخلِّي عن الأطر القبليَّة، وعصاباتها للانصهار في بوتقة الأمَّة الواحدة الَّتي تجعل الولاء لله ورسوله.

وفوق هذا كلِّه تتيح الفرصة لجيل بدرٍ الرَّائد أن يقوم بمهمة التَّربية للوافدين الجدُد، وتعليمهم وتثقيفهم، كما تتيح الفرصة لكشف ضعاف النُّفوس، ومن له صلةٌ بمعسكر النِّفاق من خلال مراقبة تصرُّفاته، وسلوكه. إنَّها ليست ساعاتٍ محدودةً أو أياماً معدودةً؛ بل هي دورةٌ قرابة شهرٍ، لا يمكن إلا أن تبرز فيها كلُّ الطَّبائع، وكلُّ النَّوازع، فيتلقَّاها عليه الصَّلاة والسَّلام ليصوغها على ضوء الإسلام، ويعلِّم الجيل الرَّائد فنَّ القيادة، وعظمة السِّياسة.

كانت معركةً صامتةً، وتربيةً هادئةً، وكان الجيش مع قائده يقطع ما ينوف عن ألف ميل في هذه الصَّحراء يتربَّى، ويتثقَّف، ويتدرَّب، ويُمتحن، ويقوَّم ليكون هذا استعداداً لمعارك قادمةٍ، وفي غيابه في غزوة دومة الجندل عيَّن (ﷺ) سباع بن عرفطةَ الغفاريَّ والياً على المدينة في تجربةٍ جديدةٍ، فهو ليس أوسيّاً، ولا خزرجيّاً، ولا قرشيّاً، بل من غفار الَّتي كانت تعتبر من سرَّاق الحجيج عند العرب، فلابدَّ لهذا الجيل أن يتربَّى على الطَّاعة، والانضباط للأمير أيّاً كان شأن هذا الأمير.

وهذا يدلُّ على عظمة المنهج النَّبويِّ في تربية الأمَّة، والارتقاء بها، وعلى عظمة قيادة النَّبيِّ (ﷺ) ، وفراسته في أتباعه، وثقته فيهم، ومعرفته لمواهبهم، فهو (ﷺ) على معرفةٍ بكفاءة سباع بن عرفطة الغفاريِّ، وعبقريته، وقدرته على الإدارة الحازمة، فكان (ﷺ) يربِّي أصحابه وهو غائب عن المدينة لكي يهيمن منهج ربِّ العالمين على المسلمين، ويصنع منها أمةً واحدةً، تسمع، وتطيع لكتاب ربِّها وسنَّة نبيِّها (ﷺ)  .

 

 

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022