الإثنين

1446-03-13

|

2024-9-16

الحلقة التسعون (90)

غزوة ذات الرِّقاع

أولاً: تاريخها، وأسبابها، ولماذا سُمِّيت بذات الرِّقاع:

اختلفَ أهلُ المغازي والسِّيَر في تاريخ هذه الغزوة، وذهب البُخاريُّ [البخاري تعليقاً (7/530)] إلى أنَّها كانت بعد خيبر، وذهب ابن إسحاق إلى أنَّها بعد غزوة بني النَّضير، وقيل: بعد الخندق سنة أربع، وعند الواقديِّ، وابن سعدٍ أنَّها كانت في المحرم سنة خمسٍ، ورجَّح ابن عمر ما ذهب إليه البخاريُّ؛ لأنَّ أبا موسى الأشعريَّ شهدها وقد قدم من الحبشة بعد فتح خيبر مباشرةً، وشهدها أبو هريرة، وقد أسلم حين فتح خيبر، وصلَّى فيها رسولُ اللهِ (ﷺ) صلاةَ الخوف، ولم تكن شُرِعت في الخندق؛ بل شرعت في عسفان أيَّام الحديبية، والحديبية سنةَ ستٍّ.

أمَّا الدُّكتور البوطي؛ فقد جزم؛ أنَّها قبل الخندق، واحتجَّ في ذلك بما ثبت في الصَّحيح من أنَّ جابراً رضي الله عنه استأذن الرَّسولَ (ﷺ) في غزوة الخندق، وأخبر امرأتَهُ بما رأى من جوعِ رسول الله (ﷺ) ، وفيه قصَّة الطَّعام الَّذي دعا إليه النَّبيِّ (ﷺ) ، ومجيء كلِّ الجيش، ومعجزة الرَّسول (ﷺ) في تكثير طعام جابرٍ، وفيه قول الرَّسول (ﷺ) لزوجة جابر: «كلي هذا، وأهدي؛ فإنَّ النَّاس أصابتهم مجاعةٌ» [البخاري (4101)].

وما ثبت في الصَّحيحين [البخاري (2097)، ومسلم (715/73)، وأحمد (3/375 - 376)] أيضاً من أنَّ الرَّسول (ﷺ) سأل جابراً في غزوة ذات الرِّقاع إن كان قد تزوَّج بعدُ ، فأجاب بنعم ، ممَّا يدلُّ على أنَّ الرَّسول (ﷺ) لم يكن علم شيئاً عن زواجه، وأخذ البوطي في ردِّ أدلَّة ابن حجر في كونها بعد خيبر، فقال: أمَّا ما استدل به الحافظُ ابن حجر من أنَّه (ﷺ) لم يصلِّ صلاةَ الخوف في الأحزاب، وصلاَّها قضاءً، فيجاب عنه بأنَّه ربَّما كان سبب تأخير الرَّسول (ﷺ) لها إذ ذاك استمرارَ الرَّمي بين المشركين والمسلمين بحيث لم يدع مجالاً للانصراف إلى الصَّلاة، وربَّما كان العدوُّ في جهة القبلة، أو ربَّما أخرها لبيان مشروعيَّة قضاء الفائتة كيفما كانت.كما يجاب عن استدلاله بحديث أبي موسى الأشعريِّ بما ذكره كثيرٌ من علماء السِّيَر، والمغازي من أنَّ أبا موسى إنَّما قصد بها غزوةً أخرى سُمِّيت هي أيضاً بذات الرِّقَاع، بدليل أنَّه قال عنها: خرجنا مع رسول الله (ﷺ) في غزاةٍ ونحن في ستة نفرٍ بيننا بعيرٌ نَعْتَقِبُهُ [البخاري (4128)، ومسلم (1816)] ... إلخ، وغزوة ذات الرِّقاع الَّتي نتحدَّث عنها كان العدد أكثر من ذلك.

ومال الدُّكتور الحكمي، والدُّكتور العمري، إلى ما ذهب إليه البخاريُّ وابن حجر، ومال الدُّكتور مهدي رزق الله أحمد إلى ما ذهب إليه البوطيُّ، وقال بأنَّ حجةَ الدُّكتور البوطي بزواج جابر قبل الخندق لا تُدْفَع، وهي في الصَّحيحين؛ إضافةً إلى أنَّ البخاريَّ قد ذكر رأيه مُعَلَّقَاً، وحجَّته فقط مجيء أبي موسى بعد خيبر، وهي حجَّةٌ دفعها البوطيُّ بترجيح تعدُّد الغزوة، وقد ذكر البوطيُّ: أنَّ تاريخ الغزوة كان في السَّنة الرَّابعة للهجرة بعد مرور شهرٍ ونصفٍ تقريباً على إجلاء بني النَّضير، وقال بأن هذا الرَّأي ذهب إليه أكثر علماء السِّيَر، والمغازي وإليه ذهبتُ.

وأمَّا سبب الغزوة: ما ظهر من الغدر لدى كثيرٍ من قبائل نجدٍ بالمسلمين، ذلك الغدر الَّذي تجلَّى في مقتل أولئك الدُّعاة السبعين الَّذين خرجوا يدعون إلى الله تعالى، فخرج (ﷺ) قاصداً قبائل مُحَارِب، وبني ثَعْلبة، وقد ذكر الدُّكتور محمَّد أبو فارس: أنَّ قادماً قدم المدينةَ، فأخبر المسلمين: أن بني مُحَارِب، وبني ثَعْلبة من غَطَفَان قد جمعوا الجموع لحرب رسول الله (ﷺ)، فما كان منه (ﷺ) إلا أن سار إليهم في عُقْر دارهم، على رأس أربعمئة مقاتلٍ، وقيل: سبعمئة مقاتلٍ، ولـمَّا وصل رسول الله (ﷺ) إلى ديارهم؛ خافوا، وهربوا إلى رؤوس الجبال، تاركين نساءهم، وأطفالَهم، وأموالَهم، وحضرت الصَّلاةُ، فخاف المسلمون أن يُغيروا عليهم، فصلَّى رسولُ الله (ﷺ) صلاة الخوف، وعاد رسول الله (ﷺ) إلى المدينة.

وقد حقَّقت هذه الحملةُ العسكريَّةُ أغراضَها، وتمكَّنت من تشتيت الحشد الَّذي قامت به غَطَفَان لغزو المدينة، فأرهب (ﷺ) تلك القبائل، وألقى عليها درساً بأنَّ المسلمين ليسوا قادرين فقط على سَحْق مَنْ تحدِّثه نفسُه بالاقتراب من المدينة؛ بل قادرون على نقل المعركة إلى أرض العدوِّ نفسه، وضربه في عُقْر داره.

وسُمِّيت بذات الرِّقاع؛ لأنَّهم كانوا يربطون على أرجلهم من الخِرَقَ، والرِّقاع اتِّقاءَ الحرِّ، وقيل: لأنَّهم رقَّعوا راياتهم، وقيل: لشجرة كانت اسمها ذات الرِّقاع، وقيل: لأنَّ المسلمين نزلوا في أرضٍ كان فيها بقعٌ بيض، وسودٌ مختلفةٌ، فسمِّيت لذلك، والصَّحيح: لأنَّهم كانوا يربطون على أرجلهم مِنَ الخرق؛ فقد روى الشَّيخان بسنديهما عن أبي موسى الأشعريِّ، قال: خرجنا مع النَّبيِّ (ﷺ) في غزاةٍ ونحن في ستَّة نفرٍ، بيننا بعيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَـنَقِبَت أقدامُنا، ونَقِبَت قدماي، وسَقَطَتْ أظفاري، وكنَّا نلُفُّ على أرجلنا الخِرَق، فسُمِّيت غزوةَ ذات الرِّقاع لما كنا نُعَصِّبُ بالخِرَق على أرجلنا. [البخاري (4128)، ومسلم (1816)].

ثانياً: صلاة الخوف، وحراسة الثُّغور:

1 - صلاة الخوف:

أنزل اللهُ تعالى على نبيِّه (ﷺ) صلاةَ الخوف في هذه الغزوة، وبيَّن القرآن الكريمُ صفةَ الصَّلاة ساعةَ مواجهة العدو، قال تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً ﴾ [النساء: 102].

فقد صلَّى المسلمون صلاة الخوف، وصفةُ هذه الصَّلاة: أنَّ طائفةً صَفَّتْ معه، وطائفة وِجَاهَ العدوِّ، فصلَّى بالَّذين معه ركعةً ، ثمَّ ثَبَتَ قائماً ، وأتمُّوا لأنفسهم ، ثمَّ انصرفوا فَصَفُّوا وِجَاهَ العدوِّ، وجاءت الطائفةُ الأخرى فصلَّى بهم الرَّكعة؛ الَّتي بَقيَتْ في صلاته، ثمَّ ثَبتَ جالساً، وأتمُّوا لأنفسهم، ثمَّ سَلَّمَ بهم. [البخاري (4129)، ومسلم (842)].

وفي روايةٍ: «فصلَّى بطائفةٍ ركعتين، ثمَّ تأخَّروا، وصلَّى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله (ﷺ) أربع ركعاتٍ، وللقوم ركعتانِ» [البخاري (4136) تعليقاً، ومسلم (843/311)، وأحمد (3/364)] قال الدُّكتور البوطيُّ: ووجه التَّوفيق بين الحديثين: أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام صلَّى بأصحابه صلاة الخوف أكثر من مرَّة، فصلاَّها مرَّةً على النَّحو الأوَّل، وصلاَّها مرَّةً أخرى على النَّحو التالي.

وكانت هذه الصَّلاة بمنطقة نخلٍ الَّتي تبعد عن المدينة بيومين، ودلَّ تشريع صلاة الخوف على أهمِّية الصَّلاة، فحتى في قلب المعركة لا يمكن التَّساهل فيها، ولا يمكن التَّنازل عنها، مهما كانت الظروف، وبذلك تندمج الصَّلاة والعبادة بالجهاد وَفْقَ المنهاج النَّبويِّ في تربية الأمَّة؛ الَّذي استُمِدَّ من كتاب الله تعالى، فلا يوجد أيُّ انفصالٍ، أو انفصامٍ بين العبادة، والجهاد.

2 - حراسة الـثُّـغُور:

عندما رجع الجيشُ الإسلاميُّ من غزوة ذات الرِّقَاع؛ سَبَوْا امرأةً من المشركين، فنذر زوجُها ألاَّ يرجع حتَّى يُهْرِيق دماً في أصحاب محمَّد (ﷺ) ، فجاء ليلاً وقد جعل الرَّسولُ (ﷺ) رجلين على الحراسة أثناء نومهم، وهما عبَّاد بن بِشْر، وعَمَّار بن ياسر، فضرب عَبَّاداً بسهم وهو قائمٌ يُصلِّي، فنزعه، ولم يقطعْ صلاتَه، حتَّى رشقه بثلاث سهام، فلم ينصرفْ منها حتَّى سلَّم، فأيقظ صاحبَه، فقال: سبحان الله! هلاَّ نبَّهتني، فقال: كنتُ في سورة أقرؤها، فلم أُحِبَّ أن أقطعها حتَّى أُنْفِذَها، فلـمَّا تابع عليَّ الرَّميَ ركعتُ، فاذنتك، وايم الله! لولا أن أضيِّع ثغراً أمرني رسول الله (ﷺ) بحفظه، لَقَطَعُ نفسي قبل أن أقطعها، أو أنفذَها. [أحمد (3/343 - 344 و359)، وأبو داود (198)، وابن خزيمة (36)]، ومن هذه الحادثة يمكننا أن نستخلص دروساً، وعبراً؛ منها:

أ - اهتمام النَّبيِّ (ﷺ) بأمن الجنود: ويظهر ذلك في اختياره رجلين من خِيَار الصَّحابة لحراسة الجيش ليلاً.

ب - تقسيم الحراسة: ونلاحظ أنَّ الرَّجلين الَّذين أنيطت بهما حراسة الجيش قد اقتسما الليلَ نصفين، نصفاً للرَّاحة ونصفاً للحراسة؛ إذ لابدَّ من راحة جسم الجنديِّ بعض الوقت.

ج - التَّعلُّق بالقرآن الكريم، وحبُّ تلاوته: فقد كان حبُّه للتِّلاوة قد أنساه الامَ السِّهام؛ الَّتي كانت تنغرس في جسمه، وتثجُّ الدَّم منه بغزارةٍ.

د - الشعور بمسؤوليَّة الحراسة: فلم يقطع عبَّاد صلاته لألمٍ يشعر به، وإنَّما قطعها استشعاراً بمسؤوليَّة الحراسة الَّتي كُلِّفَ بها، وهذا درسٌ بليغ في مفهوم العبادة، والجهاد.

هـ  مكان الحراسة استراتيجيٌّ: اختـار النَّبيُّ (ﷺ) فَمَ الشِّعْبِ مكان إقامة الحرس، وكان هذا الاختيار في غاية التَّوفيق؛ لأنَّه المكان الذي يُـتَـوَقَّع العدوُّ منه لمهاجمة المعسكر.

و - قرب مهجع الحرس من الحارس: ولذلك استطاع الحارس أن يوقظ أخاه النائم، ولو كان المهجع بعيداً عن الحارس لما تمكَّن من إيقاظ أخيه، وبالتَّالي يحدث ما لا تُحْمَدُ عقباه.

ثالثاً: شجاعة الرَّسول (ﷺ) ، ومعاملته لجابر بن عبد الله رضي الله عنه:

1 - شجاعة الرَّسول (ﷺ) :

عندما قَفَلرسولُ الله (ﷺ) من غزوة ذات الرِّقاع أدركته القائلةُ في وادٍ كثير العِضَـاهِ، فنزل رسولُ الله (ﷺ) ، وتفرَّق الـنَّاسُ يستظلُّون الشَّجرَ، ونزل رسول الله (ﷺ) تحت شجرةٍ علَّق بها سيفه، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «فنمنا نومةً، فإذا رسول الله (ﷺ) يدعونا، فجئناه، فإذا عنده أعرابيٌّ جالسٌ، فقال رسولُ الله (ﷺ) : إنَّ هذا اخترط سيفي، وأنا نائم، فاسيتقظت، وهو في يده صَلْتاً، فقال لي: من يمنعك منِّي؟ فقلت له: الله! فها هو ذا جالسٌ، لم يعاقبْه رسولُ الله، واسم الأعرابي: غَوْرَثُ بن الحارث» [رواه البخاري (2910 و2913 و4135 و4136)، ومسلم (843)، وأحمد (3/311)].

وقد عاهد غَوْرثُ رسول الله (ﷺ) ألاَّ يقاتلَه، ولا يكون مع قومٍ يقاتلونه، فخلَّى (ﷺ) سبيله، فجاء إلى أصحابه، فقال: «جئتكم من عند خير النَّاس».

وفي هذه القصَّة دليل على نبوَّة محمَّد (ﷺ) ، وفَرْط شجاعته، وقوَّة يقينه، وصبره على الأذى، وحِلْمه على الجُهَّال، وفيها جواز تفرُّق العسكر في النُّزول، ونومهم؛ إذا لم يكن هناك ما يخافون منه.

إنَّ هذه القصَّة ثابتةٌ، وصحيحةٌ، وهي تكشف عن مدى رعاية الباري - جلَّ جلاله - وحفظه لنبيِّه (ﷺ)، ثمَّ هي تزيدك يقيناً بالخوارق الَّتي أخضعها الله - جلَّ جلاله - له (ﷺ) ، ممَّا يزيدك تبصراً، ويقيناً بشخصيته النَّبويَّة، فقد كان من السَّهل الطَّبيعيِّ بالنِّسبة لذلك المشرك، وقد أخذ السَّيف ورفعه فوق النَّبيِّ (ﷺ) ، وهو أعزلُ غارقٌ في النَّوم أن يهويَ به عليه، فيقتله، وإنَّك لتلمس من ذلك المشرك هذا الاعتزاز بنفسه، والزُّهو بالفرصة الذَّهبيَّة الَّتي أمكنته من رسول الله (ﷺ) في قوله: مَنْ يمنعك منِّي؟ فما الَّذي طرأ بعد ذلك حتَّى عاقه عن القتل؟!

ليس لهذا تفسيرٌ إلا العناية الإلهية، والإعجاز الإلهي الَّذي يتخطَّى العادات والسُّنن، ويتجاوز قوى النَّاس لنصرة نبيِّه، والذَّود عن دعوته، فقد كانت العناية الإلهيَّة كافيةً لأن تملأ قلب هذا المشرك بالرُّعب، وأن تقذف في ساعديه تياراً من الرَّجفة، فيسقط من يده السَّيف، ثم يجلس متأدِّباً مُطْرِقاً بين يدي رسول الله (ﷺ)، وما حدث مصداقٌ لقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67]، فليست العصمة المقصودة في الآية؛ ألا يتعرَّض الرَّسولُ (ﷺ) لأذىً، أو محنةٍ من قومه؛ إذ تلك هي سنَّة الله في عباده كما قد علمت، وإنَّما المراد من العصمة ألاَّ تصل إليه أيُّ يدٍ تحاول اغتياله، وقتله، لتُغتال فيه الدَّعوة الإسلاميَّة التي بُعِثَ لتبليغها.

2 - معاملته (ﷺ) لجابر بن عبد الله رضي الله عنه:

قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: خرجتُ مع رسول الله (ﷺ) إلى غزوة ذات الرِّقاع من نخلٍ، على جملٍ لي ضعيفٍ فلـمَّا قَفَلَ رسول الله (ﷺ) ؛ قال: جعلت الرِّفاق تمضي، وجعلتُ أتخلَّف، حتَّى أدركني رسولُ الله (ﷺ) ، فقال: «ما لك يا جابر؟!» قال: قلت: يا رسولَ الله! أبطأ بي جملي هذا، قال: «أَنِخْهُ» فأنختُه، وأناخ رسولُ الله (ﷺ) ، ثمَّ قال: «أعطني هذه العصا مِنْ يدك، أو: اقطع لي عصاً من شجرةٍ» قال: ففعلت، قال: فأخذها رسولُ الله فنَخَسَه بها نخساتٍ، ثمَّ قال: «اركبْ»، فركبتُ، فخرج - والَّذي بعثه بالحقِّ - يُوَاهق ناقتَه مُوَاهقةً؛ (أي: يسابقها، ويعارضها في المشي لسرعته).

قال: وتحدَّثت مع رسول الله (ﷺ) ، فقال لي: «أتبيعني جملك هذا يا جابر؟!».

قال: قلت: يا رسولَ الله! بل أهبه لك، قال: «لا، ولكن بِعْنِيه»، قال: قلت: فَسُمْنِيه يا رسول الله! قال: «قد أخذته بدرهم»، قال: قلت: لا، إذاً تغبنني يا رسولُ الله! قال: «فبدرهمين»، قال: قلت: لا، قال: فلم يزلْ يرفعُ لي رسولُ الله (ﷺ) في ثمنه، حتَّى بلغَ الأُوقِيَّة، قال: فقلت: أفقد رضيتَ يا رسولَ الله! قال: «نعم»، قلت: فهو لك، قال: «قد أخذته».

قال: ثمَّ قال: «يا جابر! هل تزوَّجت بعد؟» قال: قلت: نعم يا رسول الله! قال: «أثيِّباً، أم بكراً؟» قال: قلت: لا، بل ثَيِّباً، قال: «أفلا جارية تُلاعبُها وتلاعبُك؟!».

قال: قلت: يـا رسولَ الله ! إنَّ أبي أُصِيب يـومٍ أُحدٍ، وترك بناتٍ لـه سَبْعاً، فنكحت امرأةً جامعةً، تجمع رؤوسهنَّ، وتقوم عليهنَّ، قال: «أصبت - إن شاء الله -، أما إنَّا لو قد جئنا صِرَاراًأَمَرْنا بجَزُور فنُحِرَت، وأقمنا عليها يومنا ذاك، وسمعت بنا، فَـنَـفَضَتْ نمارقها» قال: قلت: والله يا رسولَ الله! ما لنا من نَمَارق، قال: «إنَّها ستكون، فإذا قدمت؛ فاعملْ عملاً كيِّساً».

قال: فلما جئنا صِرَاراً، أمر رسولُ الله (ﷺ) بجَزُور، فنُحِرت، وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلـمَّا أمسى رسولُ الله (ﷺ) ، دخل، ودخلنا، قال: فحدَّثتُ المرأةَ الحديثَ، وما قال لي رسول الله (ﷺ) ، قالت: فدونك، فسمعاً، وطاعةً، قال: فلـمَّا أصبحتُ؛ أخذتُ برأس الجمل، فأقبلتُ به، حتَّى أنختُه على باب رسول الله (ﷺ) ، قال: ثمَّ جلستُ في المسجد قريباً منه، قال: وخرج رسولُ الله (ﷺ) ، فرأى الجملَ، فقال: «ما هذا؟» قالوا: يا رسولَ الله! هذا جملٌ جاء به جابرٌ، قال: «فأين جابر؟».

قال: فدُعيتُ له، قال: فقال: «يا بن أخي، خذ برأس جملك؛ فهو لك» ودعا بلالاً، فقال له: «اذهب بجابرٍ، فأعطه أُوقيَّةً» قال: فذهبتُ معه، فأعطاني أوقيَّةً، وزادني شيئاً يسيراً، قال: فوالله ما زال يَنْمِي عندي، ويُرى مكانُه مِنْ بيتنا. [البخاري (2097)، ومسلم (1599 م/110)، وأحمد (3/375 - 376)].

في هذه القصَّة صورةٌ جميلةٌ، ورفيعةٌ لخلق رسول الله (ﷺ) مع أصحابه؛ من حيث لطف الحديث، والتَّواضع الرَّفيع، ورقَّة الحديث، وفكاهة المحاورة، ومحبَّةٍ شديدةٍ لأصحابه، والوقوف على أحوالهم، والمواساة في مشكلاتهم الاجتماعيَّة مادِّيَّاً، ومعنويّاً، فقد شعر الرَّسول (ﷺ) : أنَّ سبب تأخر جابر عن الركب هو ضعف جمله؛ الَّذي لا يملك غيره لبؤس حاله، حيث إنَّ والده مات شهيداً في أُحدٍ، وترك له مجموعةً من البنات، والأولاد ليرعاهم، وهو مُقِلٌّ في الرِّزق، فأراد الرَّسول (ﷺ) أن ينتهز هذه الفرصة ليواسِيَه، ويقدِّم له ما يستطيع من مالٍ مباركٍ.

أيُّ لطف هذا! وأيَّة مواساةٍ هذه! وأيَّة طمأنةٍ، وإحسان صحبةٍ! في أوبة من غزوة، بلا تكلُّف، ولاتهيُّؤ، ولا استعدادٍ سابقٍ: أبرأ جمله، وقوَّاه له، بلمسةٍ خارقةٍ، ومعجزةٍ ظاهرةٍ، ثمَّ وهبه إيَّاه بعد أن نقده ثمنه، ثمَّ احتفى به، فأمر فنحر القوم الجزور لتستعدَّ عروسه لاستقباله، ثمَّ طمأنه عن نعيمٍ منظور، وغنىً مذخورٍ في جيب الأيام.

تلك من نماذج الأخلاق النَّبويَّة؛ الَّتي تحلَّى بها رسولُ الله (ﷺ) ، والَّتي حلاَّه بها ربُّه؛ الَّذي بعثه، ليتمَّ به مكارم الأخلاق، وبهذا الأسلوب الهادئ الرَّائع، الرَّفيق الرَّقيق، يتعلَّم الرَّبَّانيُّون حسن الصُّحبة، وصدق الأخوة، وبرَّ الخلَّة، والمصاحبة.

 

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022