الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

مكانة مريم عليها السلام واصطفائها على العالمين

الحلقة: الرابعة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1441 ه/ مارس 2020م

قنوت مريم وسجودها وركوعها مع الراكعين:

بعد هذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية التي أكرم المولى عز وجل بها مريم، يأمرها سبحانه - عن طريق خطاب الملائكة الكرام لها - بأن تجتهد في العبادة شكراً لله تعالى على هذه النعم والمواهب ومواصلةً للسير في طريق الهدى والصلاح، قال تعالى: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ (آل عمران: 43).
والقنوت: هو لزوم الطاعة مع الخضوع، وعلى هذا: فمدار القنوت على الطاعة ولزومها والعبادة والاجتهاد فيها مع الإخلاص والخضوع والخشوع لله رب العالمين.
وتكرير النداء (يا مريم) للتنبيه والإشارة إلى أهمية ما يرد في ثناياه، وفي النداء هنا باسم مريم ومعناه العابدة ما يدل على التشريف والتكريم، والمعنى: يا من اسمها مريم - العابدة - عليك أن تجتهدي في عبادة الله عز وجل.
والآية الكريمة أمر من المولى عز وجل لمريم عليها السلام أ، تجتهد في العبادة، وأن تداوم على الطاعة وتكثر السجود وتركع مع الراكعين حتى تزداد قرباً من رب العالمين، فالصلاة صلة بين العبد وربه وهداية ورحمة وشفاء وعصمة وفضل من الله ونعمة وقرب وحب، ونور وشفاء لما في الصدور، ومعراج إلى الله عز وجل، تُرفع الدرجات، وتُحطُّ الخطايا.
ولكلِّ ركن من أركان الصلاة حكمه البالغة وأسراره الحكيمة، فالصلاة خشوع وخضوع وقيام وقعود وركوع وسجود، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء". فكانت حياة مريم عليها السلام طاعة وعبادة، وخشوع وركوع، وحياة موصولة بالله تمهيداً للأمر العظيم الخطير.

(ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك):

إنّ في ذلك إشارة إلى مجموع الأخبار الواردة من الآيات السابقة من نذر امرأة عمران لما في بطنها لله، إلى ميلاد مريم وكفالة زكريا لها إلى بشارته يحيى - عليه السلام - إلى كلام الملائكة لمريم. قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ (آل عمران: 44).
(ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) هذه الأخبار من أنباء الغيب واعتبرتها الآية غيباً لأنها وقعت في الماضي، وحدثت قبل قرون من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنه لم يكن موجوداً عند حدوثها فهو غيب بالنسبة له، والله هو الذي أوحى بهذه الأنباء لرسوله صلى الله عليه وسلم وأخبره بها، وهذا يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجه دلالتها على النبوة والوحي: أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم أميٌّ، لا يكتب ولا يقرأ وهذا معناه أنه لم يعلم بهذه الأخبار من الكتب، ولم يصاحب أحبار ورهبان أهل الكتاب فكيف علم بهذه الأخبار الخفيَّة التي لا يعلمها إلا عدد قليل من الأحبار والرهبان.
إن الله هو الذي أوحى إليه بها، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون).
وهي إشارة إلى ما كان من تسابق سدنة الهيكل إلى كفالة مريم، حين جاءت بها أمها وليدة إلى الهيكل وفاء لنذرها وعهدها مع ربها، والنص يشير إلى حادث لم يذكره "العهد القديم" ولا الجديد المتداولان، ولكن لا بد أنه كان معروفاً عن الأحبار والرهبان حادث إلقاء الأقلام - أقلام سدنة الهيكل - لمعرفة من تكون مريم من نصيبه.
والنص القرآني لا يفصل الحادث ربما اعتماداً على أنه كان معروفاً لسامعيه أو لأنه لا يزيد شيئاً في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة، فلنا أن نفهم أنهم اتفقوا على طريقة خاصة - بواسطة إلقاء الأقلام - لمعرفة من هي من نصيبه، على ما نصنع في "القرعة" مثلاً، وقد ذكرت بعض الروايات أنهم ألقوا بأقلامهم في نهر الأردن، فجرت مع التيار إلا قلم زكريا فثبت، وكانت هذه هي العلامة بينهم، فسلموا بمريم له.
وكل ذلك من الغيب الذي لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم حاضره، ولم يبلغ إلى علمه، فربما كان من أسرار الهيكل التي لا تفشى ولا تباح للإذاعة بها - فاتخذها القرآن في مواجهة كبار أهل الكتاب وقتها - دليلاً على وحي من الله لرسوله الصادق، ولم يرد أنهم ردوا هذه الحجة، ولو كانت موضع جدال لجادلوه، وهم قد جاؤوا للجدال.
وهكذا نرى القرآن الكريم يعطي الصورة الصحيحة بعلم في دقائق حال عيسى ونشأته وأمه، وهذا معين للباحثين عن الحقيقة في معرفة قصة عيسى عليه السلام الصحيحة بعكس الأناجيل التي يؤمن بها النصارى فإنها متعارضة ومتناقضة، وفي بعضها ما يؤكد افتراءات اليهود على السيدة مريم، ففي انجيل لوقا ومتَّى حديث عن نسب عيسى عليه السلام وأنه عيسى ابن يوسف النجار، وإن ورد الاختلاف في أسماء وأعداد أعداده إلا أن الأناجيل متفقة على أن عيسى ابن يوسف النجار، وأن يوسف النجار كان خطيباً لمريم قبل ميلاد المسيح، وأنه تزوجه وأنجب منها أولاداً آخرين كانوا بمثابة الإخوة لعيسى وقصة يوسف النجار في الأناجيل متقاربة ومختلفة، وفي حين أثنى القرآن على مريم ووفاها حقها، فإن الأناجيل لم توضح مكانتها عند الله، في حين يبين القرآن الكريم طهارتها وشرف أصلها واصطفائها.
إن ما ورد في الأناجيل في شأن عيسى عليه السلام، وفي شأن مريم متضارب متناقض بعيد عن الحقيقة منحرف عن الصواب، حبى شرَّاح الأناجيل قد أصابتهم الحيرة ووقعوا في أخطاء وتناقضات وهم يشرحون الأناجيل، وقصة يوسف النجار قصة متضاربة متناقضة مدسوسة مكذوبة وليس له أي صلة بمريم عليها السلام.
ولم يكن لعيسى إخوة لا ذكور ولا إناث، وهذه التخرُّصات ليس لها سند من التاريخ، وعيسى ولد من مريم العذراء التي لم يكن لها زوج.
وهذا التباين بين ما ورد في الأناجيل وبين ما ذكره القرآن الكريم عن مريم ونشأتها وطهرها وعفتها وحملها بالمسيح عليه السلام من غير أب لقدرة الله وحكمته يرد على مزاعم المستشرقين بأن قسماً كبيراً من أخبار القرآن الكريم مقتبسٌ من كتب اليهود والنصارى، فالقرآن كتاب الله تعالى الذي نزل بالحق على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالحق، والذي لا ينطق إلا بالحق، والقرآن مهيمن على الكتب السابقة وهو محفوظ من التحريف والتبديل.

قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران: 62).

قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر: 9).

قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (النساء: 82).

إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره الله عز وجل أن مريم البتول، أم عيسى عليه السلام كانت أفضل النساء واختارها الله وفضلها على نساء العالمين، وبين ذلك لمن حوله، وحديث القرآن الكريم على مريم ومكانتها وتفضيلها وقصة ابنها المسيح دليل على أن القرآن الكريم كلام الله.
وتوجد صورة في القرآن الكريم باسم سورة مريم، وهي السورة التاسعة عشر من القرآن الكريم، واسم هذه السورة إنما هو تكريم لمريم، أم المسيح عيسى عليه السلام، ومثل هذا التكريم أيضاً لم يسبغ على مريم في إنجيل المسيحيين، ولو أننا تصفحنا (66) سِفراً للبروتستانت، و(73) سفراً للروم الكاثوليك فإننا لا نجد أياً منها قد عنون تكريماً لمريم ولابنها المسيح عليه السلام وسنجد كتباً من الإنجيل بعنوان: متَّى أو مرقُس أو لوقا أو يوحنا أو بطرس أو بولس، وستجد عناوين لأشخاص أقل أهمية وشهرة، ولكنك لن تجد واحداً بعنوان عيسى أو بعنوان مريم.
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم هو مؤلف القرآن لما تعذَّر عليه أن يقدم اسم أمه آمنه مع اسم مريم أو المسيح، لما تعذَّر عليه أن يقدم أيضاً اسم خديجة زوجته الوفية أو اسم فاطمة ابنته المحبوبة، ولكن كلا ثم كلا؛ لأن القرآن ليس من صنع يديه.

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م ص (103:98)
- فخر الدين الرازي، تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر للطباعة، دمشق، ط1، 1401ه- 1981م، 8/49.
- الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، تحقيق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415هـ، 3/160.
- السمين الحلبي، الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون، تحقيق: أحمد محمد الخراط، دار القلم، دمشق، ط3، 2011م، ص 2/173.
- أحمد ديدات، المسيح في الإسلام، ترجمة وتحقيق: محمد مختار، دار الفضيلة للنشر، الرياض، السعودية، 1988م، ص 27.
- محمد علي البار، دراسات معاصرة في العهد الجديد والعقائد النصرانية، دار القلم، دمشق، ط1، 2006م، ص 101.
- النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392ه، ص 4/200.
- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط32، 2003 م، ، 1/ 396..
- صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1، 1419ه – 1998م، 4/202
- أحمد الشرقاوي، المرأة في القصص القرآني، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2001م، ص 2/667.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022