الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

الحوار بين جبريل ومريم قبل النفخ: دعوة إلى التدبر في آيات من المعجزة الخالدة

الحلقة: السادسة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1441 ه/ مارس 2020م

قال الله عزَّ وجل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ (مريم: 16: 21).
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (واذكر في الكتاب مريم)، والمراد في الكتاب هنا القرآن الذي أنزله الله عليه، أي: اذكر يا محمد للناس في آيات القرآن التي أنزلتها عليك، قصة مريم وحملها بعيسى ووضعها له، واتل عليهم هذه الآيات وأسمعهم إياها.
وذكرك لهذه الآيات دليل على أنك رسول الله، وأن الله هو الذي أنزلها عليك، فلولا إنزالها عليك من الله لما علمت بها، لأنك أمّيٌّ لم تتعلمها من أحد ولم ترد في كتب النصارى على ما وردت في القرآن، وهذا الحديث يدل على إثبات نبوة محمد وتقرير حقيقة أن القرآن كلام الله تعالى.

أين كانت مريم حين جاءها جبريل بصورة بشرية؟

قال تعالى: (واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً)، خرجت مريم من عند أهلها وابتعدت عنهم وانفردت من دونهم وذهبت إلى مكان جهة الشرق، أي شرق بيت المقدس، وإما توجهت إلى ذلك المكان لتعتكف وتختلي في العبادة، ففي الخلوة رياضة للنفس وسموٌّ بالروح وشد للهمة وصفاء للقلب وزيادة قرب من المولى عز وجل.
وجاءها الملَك في هذا المكان الطاهر المبارك حيث البركات والرحمات والنفحات.

(فاتخذت من دونهم حجاباً):

لما ذهبت إلى ذلك المكان الشرقي، اتخذت حجاباً ساتراً يسترها عن أهلها وعن الناس الآخرين، حتى لا يشغلها شيء عن العبادة وعن رؤية أنوار الحق.

(فأرسلنا إليها روحنا):

هو جبريل عليه السلام، أرسله المولى ليبشرها بعيسى عليه السلام عندما كانت في ذلك المكان الشرقي وحيدة تخلو إلى نفسها، وتشتغل في أورادها وأذكارها ومناجاتها، شاء الله أن يحقق البشارة السابقة التي بشرها بها جبريل عليه السلام، وأن ينفذ لها وعده بإنجابها الولد، وكان ذلك بعدما اتخذت حجاباً في ذلك المكان الشرقي.
والإضافة في (روحنا) للتشريف والتعظيم وبيان أن جبريل عليه السلام رسول رب العالمين، وأطلق القرآن الكريم على جبريل عليه السلام (روحاً) في أكثر من آية:
منها قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ (الشعراء: 192: 194).
ومنها قوله تعالى: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ (القدر: 3-4)، وعطف في الآية (الروح) على الملائكة، مع أن جبريل أحد الملائكة من باب عطف الخاص على العام، لإبراز أهمية هذا الخاص.
- منها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ (النحل: 101- 102)، والكلام في الآية عن إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطلقت الآية على جبريل عليه السلام أنه (روح القدس)، أي: الروح الأمين المقدس المطهرَّ، الذي هو منزَّه عن كل مخالفة أو ذنب أو معصية.
وإضافة جبريل إلى الله في قوله (روحنا) من باب تكريمه وتعظيمه، وذلك كإضافة الرسول إلى الله في مثل قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (المائدة: 19)، والمراد بقوله (رسولنا) هنا محمد صلى الله عليه وسلم.

(فتمثل لها بشراً سوياً):

تمثل جبريل عليه السلام لمريم وهو صورة شاب سويِّ الخلق، لتستأنس به ولا تنفر منه، ولتتفهم كلامه ولأنها لا تطيق رؤيته بصورته الأصلية.
وتحوُّل الملك جبريل عليه السلام إلى بشر سوياً، دليل على قدرة الملائكة على التحوُّل من صورتهم الملائكية إلى صورة بشرية، وأنهم يفعلون ذلك بإذن الله ومشيئته سبحانه، وأنهم عندما تنتهي مهمتهم التي كلفهم الله بها يعودون إلى صورتهم الملائكية الحقيقية.
وعندما يتحولون إلى الصورة البشرية فإنهم يتمثلون في صورة رجال، وليس في صورة نساء، كما جاءت الملائكة إبراهيم ولوطاً عليهما السلام، وعدم تمثلهم في صورة نساء ليؤكدوا على تكذيب الكفار الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

(قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً):

ها هي مريم في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها ولكن ها هي ذي تُفاجأ مفاجأة عنيفة، إنه رجل مكتمل سوي، (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً)، وها هي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفاجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيد به وتستنجد وتستشير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي: (قالت أني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً)، فالتقي ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، ويرجع عن دفعة الشهوة ونزغ الشيطان. وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة، التي نشأت في وسط صالح وكفلها زكريا بعد أن نذرت لله جنيناً وهذه هي الهِزَّة الأولى.
ونظراً لعفافها وطهرها وورعها، فإنها تعوذت بالله تعالى من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً)، فجعلت الله تعالى معاذاً لها منه، وجعلت جانب الله تعالى ملجأً مما هم به، وهذه موعظة له، وذكرت صفة الرحمن لأنها أرادت أن يرحمها الله بدفع من حسبته أجنبياً عليها، وأكدت قولها بالتذكير له بالموعظة بأن عليه أن يتقي ربه وهذا أبلغ وعظ وتذكير وحث على الحمل بتقواه بصيغة الشرط لتهييج خشيته، ليكون ممن يتقي الله تعالى.
وهذا دليل على أن التعوذ بالله أو بالرحمن هو من شرعة الله تعالى، وهو من سمات المسلمين المؤمنين والمتقين وعباد الله الصالحين، بالاستعانة بالله تعاذ من كل أمر، والتعوُّذ من الشيطان الرجيم الذي يرافق الإنسان ويسعى لغوايته وإفساده المتعوّذ من ذلك ويحفظه الله من مكائده وغوايته.

مفاجأة مريم عليها السلام من هدف جبريل ومهمته:

وبينما كانت مريم عائذة بالله تناشد التقوى في قلب هذا الرجل، وهي تحت تأثير الغمرة المفاجئة، هزَّ الرجل مسامعها هزّة ثابتة أعنف وذلك عندما صارحها بهدفه منه، قال تعالى:﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾(مريم: 19)، أخبرها أنه رسول من الله، أرسله الله إليها وهو مكلف بمهمة محددة إنه يريد أن يهبها غلاماً.
فهي قد سبق علمها بذلك، ولكن لعلها مع الهزة المفاجئة والخوف الشديد والخجل البالغ من رؤية الرجل الغريب أمامها نسيت ذلك، وسيطر عليها الفزع والتوتر والقلق والخجل، وبما أنه صارحها بأنه سيهب لها غلاماً زكياً - والزكي هو الطاهر من الذنوب، والمطهَّر من الخبائث والمعاصي والنقائص- فلا بدَّ أن تستعلي على خجلها وهي العذراء البتول العفيفة، ولا بدَّ أن تصارحه فهذا الموقف لا ينفع فيه إلا المصارحة.

تعجُّب مريم عليها السلام من البشارة:

قال تعالى: ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ (مريم: 20).
علمت مريم عليها السلام وأيقنت أن هذه البشارة صادقة، وأن الذي بين يديها ملك مرسل من عند الله تعالى، ولكنها تعجبت وتساءلت عن كيفية تحقيق هذه البشارة العجيبة؛ لأن العادة أن الولادة لا تكون إلا عن حمل من رجل، والحمل إما أن يكون من زواج شرعي أو طريق غير شرعي، وهي عليها السلام لم يمسسها بشر بزواج، وحاشاها أن تكون بغياً، والبغيّ: هي الفاجرة التي تبغي الرجال في الحرام.

جواب جبريل عليه السلام عن سؤال مريم التعجُّبي:

قال تعالى: ﴿ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ (مريم: 21).

(قال كذلك):

أي الأمر كما تقولين من أنك غير متزوجة ولست بغياً.

(قال ربك هو عليه هين):

فالمولى عز وجل هو القادر، وقدرته مطلقة وإرادته محققة، لا يحدُّها حدود، ولا تقيدها قيود، ومن خلق آدم من غير أم ولا أب وخلق حواء من أحد أضلاع آدم: فهو قادر على خلق عيسى من أم دون أب.

(ولنجعله آية للناس):

اللام في (لنجعله) لام التعليل، والهاء فيها ضمير يعود على عيسى عليه السلام، أي: خلقنا عيسى بهذه الكيفية لنجعله آية للناس على قدرتنا المطلقة وإرادتنا النافذة ليعرفوا من هذه الآية أن ما ألفوه واعتادوه في حصر التناسل عن طريق التزاوج بين الذكر والأنثى، إنما يقيدهم هم، ولكنه لا يقيدنا نحن، فنحن نفعل ما نشاء.

(ورحمة منا):

وخلقناه هكذا لنجعله رحمة منا للناس، فسوف نبعثه نبياً رسولاً، والرسول رحمة منا للعالمين.

(وكان أمراً مقضياً):

هكذا أبلغ جبريل عليه السلام المتمثل في صورة بشر سوي مريم بالأمر وأزال استغرابها، بالإحالة على قدرة الله النافذة المطلقة وانتهى كل شيء وعلقت الآية على ذلك بقولها (وكان أمراً مقضياً)، أي: وكان خلق عيسى أمراً مقضياً مفروغاً منه.
وبذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين وبين مريم العذراء، ولم تفصل لنا الآيات كيفية نفخ جبريل في مريم؛ لأن هذه كيفية غيبية، غير قابلة للقياس بالمقاييس العقلية التي تقيس بها عقولنا الأحداث وتحللها، فهو فوق مستوى عقولنا ومداركنا وتصوراتنا، وكأن هذه الجملة (وكان أمراً مقضياً) تدعونا إلى تجاوز الخوض في نفخ جبريل في مريم، وعدم الوقوف عنده، بل الانتقال منه إلى مشاهد القصة اللاحقة، فالأمر قد قضي وجبريل نفخ في مريم وحملت بعيسى وانتهى كل شيء. وهناك آيات أخرى ذكرت لنا أن جبريل عليه السلام نفخ في مريم، فحملت بعيسى، لكن هذا النفخ مجمل غير مفصل. وهذا يأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م ص (117:111)
- صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1، 1419ه – 1998م، 4/225
- أحمد الشرقاوي، المرأة في القصص القرآني، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2001م، ص. 2/682
-محمد مصطفى الزحيلي، شرعة الله للأنبياء في القرآن الكريم والسنة، المرجع السابق، ص 606.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022