الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

وقوع النفخ في مريم عليها السلام

الحلقة: السابعة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1441 ه/ مارس 2020م

بعد أن سكنت مريم لأمر الله ورضيت بقضاء الله، وأيقنت أن تلك إرادة الله وحكمته نفخ فيها روح القدس فحملت بعيسى عليه السلام.
ولقد طوى السياق القرآني في سورة مريم الحديث عن نفخ روح القدس عليه السلام في مريم، وجاء الحديث عن النفخ في سورة مريم وسورة التحريم، وفي ذلك إشارة إلى الوحدة القرآنية، فكل آية لها سياقها الذي ينتظم مع سابقها ولاحقها، وكل آية لها صلتها بموضوع السورة ولها اتصالها بالسياق العام للقرآن الكريم، وحين تجمع الآيات المتفرقة في الموضوع الواحد نجد أنفسنا أمام نسيج فريد، وبناء محكم متلائم وموضوع متكامل.
وصدق المولى تعالى إذ يقول: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ (هود: 1).
وقال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ (الزمر: 23).
وقال تعالى: ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ﴾ (الأنبياء: 91). أخبرنا الله أن جبريل عليه السلام نفخ في مريم من روح الله فحملت بعيسى عليه السلام، وورد ذلك في معرض الثناء على مريم رضي الله عنها، والإشارة بعفتها وإحصانها.
وقال تعالى: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ (الأنبياء: 91)، وهذه الآية جاءت في سياق الحديث عن نعم الله ورحمته بالأنبياء وآلهم، وفيها بيان لما كانت عليه مريم من العفة والطهارة، وأن الله عز وجل قد أرسل إليها جبريل فنفخ فيها لتحمل بولد من غير أب، لتكون وابنها آية للعالمين، وبين القرآن الكريم بأن مريم محصنة لنفسها وفرجها ومتسامية ومستعلية على الضعف والشهوة وارتفاعها إلى منازل المقربين عند الله، وانشغالها بالعبادة والذكر وسعادتها بمناجاة الله والاتصال به، فقد أحصنت مريم فرجها عليها السلام، فكانت عفيفة طاهرة.
وفرج المرأة معروف، وهو الشق ما بين الرجلين، وكُني بالفرج عن السوءة، وكثر حتى صار كالصريح فيه، وسمي فرج المرأة فرجاً لما فيه من معنى الشّق.
والثناء على مريم بأنها أحصنت فرجها، والشهادة لها بعفتها وطهارتها، لتكذيب اليهود الذين اتهموها في عرضها وقالوا فيها قولاً عظيماً، وهذه الشهادة لها في القرآن دليل على أن القرآن كلام الله، وأن محمداً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما في سورة التحريم، فقد قال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ (التحريم: 12).
وفي سورة التحريم هذه السورة التي تعالج بعض الأمور التي حدثت في بيت النبوة، بين أمهات المؤمنين، وفيها يوضح المولى عز وجل أن قرابة النسب لا تغني عن قرابة الدين، فالعبرة بالإيمان والعمل الصالح، وفيها نماذج للمرأة الصالحة مع الزوج الصالح، حيث يذكر المولى عز وجل موقف امرأة نوح وامرأة لوط وهما زوجتان كافرتان كما تأتي نماذج للمرأة الصالحة، فيذكر المولى عز وجل امرأة فرعون، ثم يذكر مريم ابنة عمران، وكما أن إيمان نوح ولوط ومكانتهما عند الله وقرابتهما من المرأتين لم تشفع لهم كذلك، فإن كفر فرعون لم يغير امرأته لأنها كانت مؤمنة محسنة عابدة، صادقة صابرة صامدة، ومريم عليها السلام بنت عمران نشأت في بيت صالح وكانت عفيفة شريفة، اختارها المولى عز وجل لتكون وابنها آية للعالمين، قال تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم: 12).
التوفيق بين (ونفخنا فيها، ونفخنا فيه):
ولما أراد الله تحقيق وتنفيذ وعده أرسل الروح الأمين جبريل عليه السلام فنفخ فيها، فحملت بعيسى عليه السلام، وفي سورة الأنبياء قال تعالى (فنفخنا فيها من روحنا) فعبر بالضمير المؤنث لها في (فيها)، وهذه الهاء تعود على مريم التي أحصنت فرجها؛ لأن صياغة الآية هكذا (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا).
وفي سورة التحريم قال تعالى (التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا)، فعبر بالضمير المذكر (فيه)، والهاء تعود على الفرج (فرجها)، وهو مذكر في اللفظ والمعنى، أحصنت مريم ابنة عمران فرجها، فنفخنا في فرجها من روحنا.
وذهب بعضهم إلى أن المراد فتحة ثوب مريم، وليس فرجها هي، وقالوا إن معنى (أحصنت فرجها) أنها صانت ثوبها، فلم يمسه أحد ولم يمسَّ فتحته التي عند عنقها أحد واعتبروا هذا مبالغة في الثناء عليها والشهادة بعفتها وطهارتها، فإذا كانت قد أحصنت فرج ثوبها، ولم يقترب أحد من فتحته، فإحصانها لفرجها الحقيقي من باب أولى، وقال هؤلاء إن جبريل قد نفخ في (فرج ثوبها)، أي أمسك بفتحة الثوب ونفخ فيه، وذهبت النفخة إلى جسم مريم، ودخلت رحمها فحملت بعيسى، والقرآن الكريم قال (فنفخنا فيه)، وقال (فنفخنا فيها)، والأصل حمل النفخ على ظاهره.
فالراجح أن جبريل عليه السلام نفخ في فرجها، فذهبت النفخة إلى رحمها وحملت بعيسى، نقول بهذا ولا نخوض في كيفية النفخ، فهذه كيفية غيبية، لا نخوض فيها؛ لأن النصوص لم تذكرها، ولم تبينها، ولا تناقض بين قول الله تعالى (فنفخنا فيها) و (فنفخنا فيه).
إن قوله (فنفخنا فيها) وارد في سورة الأنبياء، وهي سورة مكية، وهو يخبر أن النفخة كانت في مريم، أي في بدنها، وهذا تعبير عام، وأما قوله (فنفخنا فيه) فهو وارد في التحريم وهي سورة مدنية، وهي نازلة بعد سورة الأنبياء والأخبار فيها أن النفخة كانت في فرجها، وهذا تعبير خاص، إذن (نفخنا فيها) ذكر للعام أولاً، (ونفخنا فيه) ذكر للخاص بعد ذلك، فلا تعارض بين الآيتين، فجبريل عليه السلام نفخ في بدن مريم، وكانت نفخته في فرجها على التخصيص.
ومما سبق يتضح لنا أن جبريل عليه السلام بعد أن بشر مريم بعيسى عليها السلام وأنه سيولد بقدرة الله عز وجل دون أب، قام جبريل بمهمة نفخ الروح لتحقيق الآية العجيبة.

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م ص (120:117)
- صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1، 1419ه – 1998م، 4/231.
- أحمد الشرقاوي، المرأة في القصص القرآني، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2001م، ص. 2/689.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022