الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

قصة زكريا عليه السلام من القرآن الكريم: دروس وعبر

الحلقة: الحادية عشر

بقلم: د. علي محمد الصلابي

رجب 1441 ه/ مارس 2020م

نداء زكريا الخافت:
يناجي زكريا - عليه السلام - ربه بعيداً عن عيون الناس، بعيداً عن أسماعهم في عزلة يخلص فيها لله، ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ (مريم :3)، ويكشف له عما يثقل كاهله ويكره صدره ويناديه في قرب واتصال (رب أني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا)، بلا واسطة ولا حرف النداء، وإن ربه ليسمع ويرى من غير دعاء ولا نداء، ولكن المكروب يستريح إلى البثّ، ويحتاج إلى الشكوى، والله الرحيم بعباده يعرف ذلك من فطرة البشر، فيستجيب لهم أن يدعوه وأن يبثّوه ما تضيق به صدورهم ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ (غافر: 60) ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق، ولتطمئن قلوبهم إلى أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو أقوى وأقدر، ليستشعروا صلتهم بالجانب الذي لا يضام من يلجأ إليه، ولا يخيب من يتوكل عليه.
تمهيد بديع للدعاء:
يُمهد زكريا - عليه السلام – في مناجاة ربّه بتمهيد جميل بديع للدعاء، يقول تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ (مريم: 4-6).
ويشكو زكريا إلى ربه وهن العظم، فحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن، فالعظم هو أصلب ما فيه وهو قوامه الذي يقوم به ويتجمع عليه، ويشكو إليه (اشتعل الرأس شيبا) والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل، ويجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد، ووهن العظم واشتعال الرأس شيباً كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه وهو يعرض عليه حاله ورجاءه.
ثم يعقّب عليه بقوله: (ولم أكن بدعائك رب شقيا)، معترفاً بأن الله قد عوّده أن يستجيب إليه إذا دعا فلم يشق مع دعائه لربه وهو في قنوته وقوته، فما أحوجه الآن في هرمه وكربته أن يستجيب الله له ويتم نعمته عليه، فإذا صور حاله، وقدم رجاءه ذكر ما يخشاه، وعرض ما يطلبه، إنه يخشى من بعده يخشاهم ألا يقوموا على تراثه بما يرضاه، وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين وأهله الذي يرعاهم - ومنهم مريم التي كان قيّماً عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه - وماله الذي يحسن تدبيره وإنفاقه في وجهه، وهو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله، وهو يخشى ألا يسيروا فيه سيرته.
وللإمام ابن كثير في التفسير توجيهات لطيفة في ذلك:
- الأول: خشي أن يتصرّف مواليه من بعده في الناس تصرفاً مسيئاً، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته فاستجاب الله له.
ولم يخش من وراثة مواليه له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى هذه الدرجة، ومن أن يأنف من وراثة عصباته له، فسأل ربه أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم.
- الثاني: لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجاراً، يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
- الثالث: لم يترك زكريا عليه السلام مالاً، لأن الأنبياء لا يورثون في أموالهم، فإن تركوا أموالاً فإنها تكون صدقة، ودليل ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا نورَث، ما تركنا فهو صدقة).
ولذلك أراد زكريا عليه السلام بالوراثة في النبوة، ثم إن قول زكريا عليه السلام عن الولي الوارث (يرثني ويرث من آل يعقوب) هو كقول الله تعالى عن ورثة سليمان لابنه داود عليهما السلام ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ (النمل: 16).
وقد بين العلماء في قصة سليمان عليه السلام أن وراثته لأبيه كانت وراثة في النبوة والملك، وهنا يريد زكريا عليه السلام ولياً ابناً، وارثاً له في النبوة وليس في المال، وعند بعض العلماء: كانت وراثته علماً، وكان زكريا من ذرية يعقوب، وقال البعض الآخر: أراد أن يرثه في نبوته وعلمه.
إذن، أراد زكريا عليه السلام أن يهبه الله ابناً ليكون ولياً له، وليرثه في النبوة والعلم، ويرث أنبياء، وهم آل يعقوب في النبوة والعلم.
﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾:
ولما طلب زكريا عليه السلام من ربه الولد، التفت التفاتة إيمانية أخلاقية سلوكية فقال: ﴿ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾، أي: رب اجعل ابني وارثي رضياً، و(رضيّ) بمعنى اسم مفعول (مرضيّ).
قال ابن كثير في تفسير (واجعله رب رضياً): أي مرضياً عندك، وعند خلقِك تحبُّه أنت، وتحببه إلى خلقك.
ولا ينسى زكريا النبي الصالح، أن يصوّر أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبره (واجعله رب رضياً) لا جباراً ولا غليظاً ولا متبطراً ولا طموعاً، ولفظة (مرضي) تلقي هذه الظلال، فالرَّضيُّ هو الذي يرضى ويُرضي، وينشر ظلال الرضى فيما حوله ومن حوله.
إن زكريا عليه السلام يريد أن يكون ابنه الوارث راضياً مرضياً رضياً، وأن تبنى شخصيته على الرّضى، وعندما يكون رضياً سيكون فرحاً سعيداً مسروراً، وستكون علاقته بالآخرين قائمة على السعادة واليسر والرضى، سيحبّهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه ويألف ويؤلف.
الرَّضيُّ ليس حادّاً ولا عصبيّاً ولا شاكياً، ليس معقداً ولا مكتئباً ولا حزيناً.
الرَّضيُّ سهل المعاملة واسع الصدر، حليم النفس، حسن الخُلق.
حليلة زكريا عليه السلام (من امرأة عاقر إلى زوج حامل):
كان الله عند حسن ظن زكريا، فاستجاب له، وكتب له الولد برحمته، وأجرى له معجزة خارقة، فامرأته عاقر لا يمكن أن تنجب في المنطق البشري القائم على الأسباب والعادات، ولكنها ستحمل وتضع بأمر الله إن أراد الله ذلك وهو فعَّال لما يريد.
وأشارت إلى هذه الحقيقة آيات سورة الأنبياء، قال تعالى: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ (الأنبياء: 89 -90).
نادى زكريا ربه قائلاً (رب لا تذرني فرداً) أي لا تذرني وحيداً لا ولد له ولا وارث، يرثني في النبوة والعلم، وقال (وأنت خير الوارثين): هذه جملة حالية تفيد الدعاء، فهو يريد ابناً وارثاً يرثه ويرث من آل يعقوب (يرثني ويرث من آل يعقوب)، والوراثة المقصودة هنا هي الوراثة في النبوة والعلم، فأراد بقوله لربه (وأنت خير الوارثين) أي أنت خير من يبقى بعد كل من يموت، وأنا أعلم أنك لا تضيع دينك ولكنني أريد أن لا تقطع فضيلة القيام بأمر الدين عن عقبي من بعدي، فارزقني وارثاً يقوم بذلك.
استجاب الله دعاء زكريا عليه السلام، وكانت الاستجابة سريعة (فاستجبنا له)، وعبَّر عن الاستجابة بحرف الفاء، الدال على الترتيب مع التعقيب الفوري، وقد وهب الله له يحيى بعدما أصلح له زوجه (ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) أصلح له زوجه بعد أن جعلها قادرة على الإنجاب (بيولوجيا)، وكانت هذه معجزة خارقة، لأنها كانت عاقراً من قبل، والآن سوف تحمل وتنجب بأمر الله وإرادته.
وتعبير القرآن عن امرأة زكريا قبل الحمل وبعده عجيب لطيف معجز، فقبل الحمل أخبر أنها امرأة عاقر (وكانت امرأتي عاقراً)، وبعد الحمل أخبر أنها زوج له (ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه).
فالمرأة العاقر هي التي في رحمها مرض، أو داء يحول بينها وبين الحمل والإنجاب، وعندما يعاشرها زوجها فإنها تعقر ماءه، وتقطعه وتقضي على حيواناته المنوية ولا تفرز بويضة للإخصاب، وبذلك يذهب ماء زوجها سُدى بسبب هذا المرض. وإن زكريا عليه السلام يعلمُ أن امرأته عاقر وعندها داء أو آفة في رحمها، وعاش معها سنوات عديدة، لم تحمل منه ولم تنجب، ولما استجاب الله دعاء زكريا عليه السلام أزال عقدة امرأته وعقرها، وقضى على الآفة والداء الذي فيها والذي كان يقضي على ماء زوجها ويحول بينها وبين إفراز"البويضة".
واللطيف في التعبير القرآني أنه عدل عن كلمة (امرأة) إلى كلمة (زوج)، فلما كانت عاقراً أطلق عليها امرأة (وكانت امرأتي عاقراً)، ولكنها لما حملت أطلق عليها زوج (ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه). فلما كانت عاجزة عن الحمل كانت (امرأة) ولما أصبحت قادرة على الحمل صارت (زوجاً) لزكريا عليه السلام، وهذا يدلنا على عدم الترادف في المصطلحات القرآنية فالزوج والمرأة ليسا بمعنىً واحد، وهو حليلة الرجل مطلقاً.
لقد أطلق القرآن الكريم على حليلة الرجل امرأة له: إذا كان هناك عدم انسجام بينهما لسبب ماديّ أو معنوي نفسي، فإذا كانت لا تنجبُ فهي امرأة للرجل، لوجود خلل مادي بيولوجي، وإذا كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً فهي امرأة له، كما قال القرآن: امرأة نوح، وامرأة لوط، وامرأة فرعون، أما إذا كان بينها وبينه انسجام مادي ومعنوي فهي زوج له وهو زوج لها، لأن المزاوجة تقوم على الاقتران والانسجام بينهما.
فلما أصلح الله حليلة زكريا عليه السلام وصارت قادرة على الحمل لم تعد مجرد امرأة له، وإنما أصبحت زوجاً تؤدي وظيفتها الزوجية (بيولوجيا)، وتحقق رسالتها الزوجية (عملياً)، وتحمل لزوجها في رحمها ابنه، وبذلك تحقق الاقتران، والتزاوج بينهما على أحسن وأفضل صورة.
بشارة الله لزكريا - عليه السلام - في المحراب:
بشر الله تعالى نبيه زكريا - عليه السلام - باستجابة دعوته قال تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ (آل عمران: 39-40).
لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء، ويملك الإجابة حين يشاء، وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر اسمه معروف قبل مولده (يحيى)، وصفته معروفة كذلك: سيداً كريماً، وحصوراً يحصر نفسه عن الشهوات، ويملك زمام نزعاته عن الانفلات، ومؤمناً مصدقاً بكلمة تأتيه من الله، ونبياً صالحاً في موكب الصالحين.
لقد استجيبت الدعوة، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانوناً، ثم يحسبون أن مشيئة الله سبحانه مقيدة بهذا القانون، وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانوناً لا يخرج عن أن يكون أمراً نسبياً - لا مطلقاً ولا نهائياً - فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة، وما يملك العقل وهو ملكوم بطبيعة الإنسان هذه، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة.
فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله، وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله، فلا يخبط في التيه بلا دليل، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطاراً من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن عمله القليل.
ولقد كانت الاستجابة مفاجئة لزكريا نفسه - وهل زكريا إلا إنسان على كل حال- واشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه الخارقة بالقياس إلى مألوف البشر؟ (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) (قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ).
كذلك فالأمر مألوف مكرر معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائماً على هذا النحو، ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة، ولا يتدبرون في الصنعة، ولا يستحضرون الحقيقة.
كذلك بهذا اليسر وبهذه الطلاقة يفعل الله ما يشاء، فماذا في أن يهب لزكريا غلاماً وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر؟
إنما هذه مألوفات البشر التي يقررون قواعدها عليها، ويتخذون منها قانوناً، فأما بالقياس إلى الله، فلا مألوف ولا غريب، كل شيء مرده إلى توجيه المشيئة، والمشيئة مطلقة من كل القيود.
زكريا عليه السلام يطلب آية من الله عزَّ وجل:
إن شدة لهفة زكريا - عليه السلام - على تحقيق البشرى، ولدهشته المفاجئة على نفسه، إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس، وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده بذكره وتسبيحه، ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ (آل عمران: 41).
ويسكت السياق هنا وتعرف أن هذا قد كان فعلاً، فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره، لسانه هذا هو لسانه، ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه، أي قانون يحكم هذه الظاهرة؟ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية، فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر.
كانت الآية العجيبة والمعجزة الباهرة في لسان زكريا عليه السلام، إن قومه يعرفون أنه متكلم بفصاحة وطلاقة ويعلمون أنه لا عيب في لسانه، ولكن بعد ما بشِّر بالولد فوجئوا به لا يكلمهم إلا بالرمز والإيحاء والإشارة، واستمر الأمر على هذا ثلاثة أيام بلياليها.
كان زكريا عليه السلام في هذه الأيام الثلاثة على حالتين:
الحالة الأولى: عندما يخلو بنفسه ويكون وحيداً ليس معه أحد ولا يسمعه أحد، عند ذلك ينطلق لسانه بذكر الله وتسبيحه ويسمع نفسه وهو يسبح الله ويذكره.
الحالة الثانية: عندما يخرج على قومه، ويريد أن يكلمهم ويخاطبهم فإنه يعجز عن ذلك حيث يحبس لسانه عن الكلام بطريقة لا إرادية، عند ذلك يخاطبهم عن طريقة الرمز والإيحاء والإشارة.
وعندما يرى قومه ذلك كانوا يتعجَّبون، فما الذي حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام؟ وما الذي جرى له؟ ولم يكن إمساك لسانه عن الكلام عندما يواجه الناس بسبب مرض أو خرس وإنما بمعجزة من الله، فهو سويٌّ صحيحٌ فصيحٌ متكلم، ولكن الله كان يمسك لسانه عن الكلام بطريقة لا إرادية، لا دخل لزكريا في ذلك.
لم يستطع أن يكلم الناس ثلاث ليالٍ سويّاً، أي: اعتقل لسانه من غير مرض ولا خرس، وهو صحيح وهو في ذلك يسبح ويقرأ التوراة، فإذا أراد كلام الناس لم يستطع أن يكلمهم إلا عن طريق الإيماء والإشارة، وهذا يدل على أنه الرمز والإيماء بالعين أو اليد صور من صور الكلام، ونوع من أنواع التعبير، فالذي لا ينطلق لسانه وإنما يستخدم حركات رأسه أو عينه أو شفتيه أو يده، فإنه يعبّر بهذه الحركات الرمزية عما في نفسه، ويفهم السامع منه كما يفهم منه إذا نطق بلسانه.
وقد جمعت آية آل عمران بين حالتي زكريا عليه السلام وهو يعيش المعجزة الربانية خلال الأيام الثلاثة صمته عند مواجهة الناس، ونطقه عندما يخلو إلى نفسه: ﴿ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ (آل عمران: 41).
وأمره الله بالإكثار من ذكره في هذه الأيام الثلاثة، وأخبره أنه لا يحبس لسانه عن تسبيح الله ولا يُمنع من ذكره، وذكرت الآية طرفي النهار، فإذا سبّح الله في طرفي النهار بالعشي والإبكار، فقد ذكره وسبّحه طيلة النهار.
والعشي: من وقت زوال الشمس بعد الظهر إلى أن تغيب، والإبكار: من وقت طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وزكريا عليه السلام رغم منعه من الكلام إلا أنه يواصل ذكر الله عز وجل ويأمر الناس به حيث يشير إليهم بما يفهم منه دوام الذكر، وزكريا عليه السلام أنعم الله عليه بالصمت، وفي الصمت فكرة وعبرة، كما أنعم الله عليه بتوفيقه إلى الذكر، فاجتمع له الذكر مع الفكر، وذكر الله عز وجل من أسنى المقامات وأجل القربات ومن أفضل الأعمال ومن أسمى الأحوال، والذكر مطلوب في كل حال حتى يصير المؤمن على صلة بالله، وزكريا يواصل ذكر الله حتى وهو ممنوع عن الكلام، فالذكر من أيسر العبادات ومن أعظمها أجراً، وفي الحديث الشريف " كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
ويواصل زكريا عليه السلام دعوة قومه إلى ذكر الله تعالى، وحين يمتنع عن الكلام فإن الإشارة توصل إلى المطلوب ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ (مريم: 11)، أي: أشار إليهم أن يداوموا على التسبيح في جميع الأوقات.

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م ص (79:74)
- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط32، 2003 م، 1/393.
- صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1، 1419ه – 1998م، 4/140.
- أحمد الشرقاوي، المرأة في القصص القرآني، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2001م، ص 2/641.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022