الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

حدث ولادة مريم عليها السلام في القرآن الكريم

الحلقة الثامنة

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1441 ه/ مارس 2020م

قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ (آل عمران: 35- 36).
ذكر الله نشأة عيسى ببيان نشأة أمه، بياناً لبطولات ما يعتقده النصارى فيه من أنه ابن الله تعالى عن ذلك، وأسلوب القرآن عند رد وإبطال عقيدة، أن يبين أصلها فينقضه لتنقض هي تبعاً. فالجدال في فروع أصولها خاطئة لا يوصل إلى حق، فيزعمون أن عيسى ابن الله، تعالى الله، وعيسى له أم وأمه مريم، ومريم لها أم وأب، ولهما أمهات وآباء إلى آدم، فمن أين أتت بنوته لله؟
ولذا ذكر الله الزوجية بين امرأة عمران وعمران، فقال: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ) إشارة إلى الأبوة والأمومة لمريم، وذكر الله اسم مريم، ولم يذكر اسم أمها، لأن نسب عيسى يرجع إلى مريم ثم أبيها، لا يرجع إلى أمها، والناس تنسب إلى آبائهم، واسم مريم: حنة، فعيسى هو ابن مريم بنت عمران، ولا يقال: عيسى ابن مريم بنت حنّة، وإنها ذكرت مريم، لأن عيسى نسب إليها لعدم الأب، ولما كان لمريم أب تركت الأم حنة وذكر الأب عمران، ولما كانت أم مريم لا أثر لها في نسب عيسى قال (امرأة عمران).
وقد ذكر الله الأحوال التي اكتنفت الحمل بالبتول مريم وولادتها وتربيتها، ويلاحظ القارئ أن العبادة والنسك أظلاها وهي جنين في بطن أمها إلى أن بلغت مبلغ النساء واصطفاها الله لأمر جليل خطير، فأمها وهي حامل بها نذرت ما في بطنها لما تحرك الحمل في أحشائها أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، منقطعاً لعبادته وخدمة بيت المقدس، والمحرر: هو الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا ولا يشغله شاغل عن عبادة الله تعالى.
فقد أرادت امرأة عمران أن يكون ما في بطنها منذوراً لله، موقوفاً على عبادة الله خالصاً لدين الله، محرراً من كل قيد يقيّده في هذه الحياة، وأرادت لمولودها أن يحقق الحرية الحقيقية، وذلك بتحريره من قيود الذل والاستعباد المعنوي وأن لا يتقيد بالأهواء والشهوات والملذات، وأن لا تستعبده الدنيا وما فيها، وأن لا ينشغل بما فيها عما أوجبه الله عليه وكلفه به، وأن يستعلي على كل القيود التي تقيده وتعيق عبادته.
فإن كان المؤمن هكذا فهو الحر المحرر الخالص لله، وإن لم يكن كذلك فهو عبد الدنيا والشهوة وأسير الهوى والضرورة.
وهذه القصة عن جدة عيسى عليه السلام من أمه تكشف لنا عن قلب (امرأة عمران) أم مريم، وما يعمره من إيمان ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك، وهو الجنين الذي تحمله في بطنها خالصاً لربها، محرراً من كل قيد ومن كل شرك، ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه، والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موحٍ، فما يتحرر حقاً إلا من يخلص لله كله ويفرّ إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل قيمة، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده فهذا هو التحرر إذن، وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية.
فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه أو في مجريات حياته أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله. فالصورة الوحيدة للتحرر هي تحقيق التوحيد والعبادة الخالصة لله، كما بينت جدة عيسى عليه السلام في مناجاته ودعائها للسميع العليم.
وهذا الدعاء الخاشع من امرأة عمران، بأن يتقبل ربها منها نذرها - وهو فلذة كبدها - ينمّ عن التوجه الخالص لله وبكليتها والتحرر من كل قيد، والتجرد إلا من ابتغاء قبوله ورضاه، ( رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ).
- "إنك أنت السميع العليم"؛ السميع لكل قول، المجيب لصالح الدعاء والعليم بكل قصد وفعل.
- "إنك أنت السميع"؛ لتضرعي ودعائي وندائي، "العليم"؛ بما في ضميري وقلبي ونيتي.
- "إنك أنت السميع"؛ لجميع المسموعات التي من جملتها تضرعي ودعائي،"العليم"؛ لكل المعلومات التي من زمرتها ما في ضميري لا غير.
- "إنك أنت السميع العليم"، السميع لدعائي ، العليم بنيتي ، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكراً أم أنثى.
-" إنك أنت السميع العليم "، يعني: إنك أنتَ يا رب " السميع " لما أقول وأدعو " العليمُ" لما أنوي في نفسي وأريد، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته.
-" إنك أنت السميع العليم "، تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي، هذا وهي في البطن قبل وضعها.

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م ص (61:59)
- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط32، 2003 م، 1/392.
- عبد العزيز الطريفي، التفسير والبيان لأحكام القرآن، مكتبة دتر المنهاج، الرياض، ط1، 2017م، 2/582.
- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت. لبنان، ط1، 1427ه- 2006م، ص 4/66.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022