الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

كفالة زكريا لمريم عليهما السلام: الظروف والحيثيات

الحلقة العاشرة

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1441 ه/ مارس 2020م

تقبل المولى عزَّ وجل مريم عليها السلام وأنبتها نباتاً حسناً، فجعل لها من يقوم بشأنها ويُعنى بأمرها ويهتم بإصلاحها، وقد قيض لها نبياً من الأنبياء هو زكريا عليه السلام، فكان كفالته لها نعمة من الله ورحمة قال تعالى: ﴿ وكفلها زكريا ﴾ (آل عمران: 37). ولكن كيف تمت تلك الكفالة؟
لقد تمَّ هذا الأمر بتوفيق من الله عز وجل بعد أن تنافس الأحبار والرهبان وتنازعوا على كفالة مريم، كل يرجو ويطلب لنفسه أن ينال هذا الشرف وأن يحظى بذاك المقام فمريم عليها السلام بنت إمامهم ومعلمهم عمران عليه السلام الرجل الصالح الذي مات دون أن تكتحل عيناه برؤية البنت، وحرصاً على هذا الشرف ووفاء للمعلم والمربي والمصلح والإمام كان تنافسهم وتسابقهم الذي وصل إلى حد النزاع والاختصام على كفالة مريم عليها السلام.
قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ (آل عمران: 44).
فقد كان كل واحد منهم شديد الحرص على كفالة تلك اليتيمة، ولما لم تجتمع لهم كلمة ولم يتفق لهم رأي فكل واحد يريد أن يستأثر بهذه الكرامة، وكان أولى بهم أن يتركوا كفالتها لنبي الله زكريا عليه السلام، ولما طال جدالهم حول من يكفلها اتفقوا على أن يقترعوا فيما بينهم فمن فاز في القرعة فقد فاز بكفالة. قال تعالى: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال في تفسير قوله تعالى: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم): اقترعوا فجرت الأقلام مع الجربة وعال قلم زكريا الجرية فكفلها زكريا.
قال ابن حجر: وعال قلم زكريا: أي ارتفع على الماء وفي إحدى الروايات (وعلا)، و(الجِرية) بكسر الجيم والمعنى: أنهم اقترعوا على كفالة مريم أيهم يكفلها فأخرج كل واحد منهم وألقوها كلها في الماء فجرت أقلامهم مع الجرية إلى أسفل وارتفع قلم زكريا فأخذها.
وسواء جرى قلم زكريا وسبق أقلامهم أو جرت أقلامهم وثبت قلمه أو علا بقلمه وسبح على الماء وغاصت أقلامهم أو العكس، على أي حال كان الاقتراع: فالمهم أن زكريا عليه السلام فاز بالقرعة وتولى كفالة مريم عليها السلام.
وفي قوله (وكفلها) على أن الفاعل هو الله تعالى والهاء لمريم أي: جعل زكريا لها كافلاً، فزكريا وإن كان قد أقبل على كفالتها، فإن الذي هداه إلى ذلك ووفقه ويسر له ذلك الأمر هو الله عز وجل.
فقد جعل الله سبحانه وتعالى كفالتها لزكريا، وجعله أميناً عليها، وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل.
وكان نبياً كريماً عليه السلام، ولأن الله يعدّها لأمر عظيم ولهذا عاشت مريم طفولتها وشبابها عند زكريا عليه السلام، واقتبست منه العلم والمعرفة واقتدت به في العبادة والذكر واستفادت منه الخلق والسلوك، فنشأت نشأة إيمانية صالحة وكانت عابدة ذاكرة زاهدة مقبلة على الله متصلة به، ومضت السنوات ومريم في كفالة زكريا، حتى صارت فتاة بالغة، واعية ناضجة، وهي مقبلة على عبادتها واتصالها بالله وذكرها له.

وقد كانت كفالة زكريا - عليه السلام – لأمرين:

أولاً: كرامة لمريم عليها السلام:

قال تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ (آل عمران:37).
قام نبي الله زكريا عليه السلام بكفالة مريم، وجعل مقامها في بيت المقدس، في أشرف مكان: وهو المحراب.
وقد أكرمها الله إكراماً حيث كان يرزقها رزقاً خاصاً، وهي عابدة معتكفة في المحراب، ورأى زكريا عليه السلام ذلك: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
وكلمة (كلما) تدل على التكرار أي أن الرزق كان يأتي مريم وهي في المحراب متفرغة فيه للعبادة والذكر والصلاة والمناجاة، والله يكرمها بتقديم الرزق لها بخارقة ليست مألوفة ولا معروفة.
و كلما دخل عليها زكريا المحراب يجد عندها ذلك الرزق وهو يعلم أنه لم يقدمه هو لها وهو المتكفل بتقديم الطعام لها، فيتعجب من ذلك، ويسألها (أنى لك هذا)، أي: من أي مصدر ووجه جاءك هذا الرزق؟
إنه يعلم أن هذا الرزق لم يأتها من عند الناس، وسيكون من عند الله، وسؤاله ليسمع الجواب منها، وهو عالم به. فتجيبه بصراحة قائلة (هو من عند الله) أي: الله هو الذي ساق لها الرزق، وأوصله إليها وهي في المحراب، بدون سعي ولا تحصيل.
قال الحسن البصري: كان زكريا إذا دخل على مريم المحراب وجد عندها رزقاً من السماء من الله، ليس من عند الناس، ولو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده لما سألها عنه.
وعقب القرآن على جواب مريم بالتذكير بحقيقة (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب)، فهذه الجملة ليست من تمام جواب مريم، بل هي خبر من الله يخبرنا فيه أنه يسوق الرزق إلى من يشاء من خلقه بغير حساب ولا إحصاء ولا عدّ يحسِبه عليه.
إن الله لا يحصي ولا يحاسب عبده على ما يرزقه إياه؛ لأن إخراج ذلك الرزق لا ينقص خزائنه سبحانه، فالذي يحسب ويحاسب ويعد ويحصي هو الذي يخشى النقصان من رزقه.
وتقديم الرزق إلى مريم وهي في المحراب إثبات للكرامة التي ساقها الله تعالى لها؛ لأنه كان بطريقة خارقة غير مألوفة، ومريم ليست نبيّة لنعتبر هذه الخارقة معجزة، فالمعجزات مختصة بالأنبياء وإذا وقعت الخوارق من الله لغير الأنبياء سميت كرامات، وهذا دليل قرآني على إمكانية الكرامة للأولياء، بل على وقوعها وحدوثها، وهناك أدلة قرآنية أخرى على إثبات الكرامة للأولياء الصالحين، كما حصل لأصحاب الكهف الصالحين، ونحن نثبت الكرامات للأولياء، كما نثبت المعجزات للأنبياء ونؤمن بحصولها لهم، وأنها من فعل الله تكريماً لهم وشرطنا في قبولها ذكرها في آية صريحة أو في حديث صحيح مرفوع ولا نلتفت إلى كلام الذين ينكرون الكرامات للأولياء؛ لأنه يتعارض مع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكلمة (رزقا) في قوله (وجد عندها رزقا) نكرة منونة، وهذا التنكير والتنوين يدل على التعميم والشمول، وهو مقصود، فالرزق الذي كان يأتيها به الله يشمل جميع ما تحتاجه من الطعام والمأكولات كما أن هذا التنكير يدل على الإبهام، حيث لم يذكر شيء من أصناف الرزق المقدم لها وهو يدعونا إلى عدم الخوض في تحديد أصناف ذلك الرزق، من اللحوم والخضار والفواكه والمأكولات والمشروبات؛ لأن هذا لا دليل عليه، ولا فائدة منه، فلنبق الكلمة (رزقا) على إبهامها اللطيف الجميل.
ويكفي معرفتنا أنها كانت مباركة يكثر من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقاً حتى ليعجب كافلها - وهو نبي- من فيض الرزق، فسألها: كيف ومن أين هذا كله؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله وتفويض الأمر إليه كله.
وفي قوله (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب)، هي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه، والتواضع في الحديث عن هذا السر لا التنفج به والمباهاة، كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا، هي التمهيد للعجائب التي تليها من ميلاد يحيى وميلاد عيسى وعندئذ تحركت في نفس زكريا الشيخ الذي لم يهب ذرية، تحركت تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية، الرغبة في الذرية في الامتداد في الخلف الرغبة التي لا تموت في قلوب العباد والزهاد، الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل، إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها.

ثانياً: زكريا يتوجه إلى المولى عز وجل بالدعاء أن يرزقه ذرية صالحة:

قال تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ (آل عمران: 38). وإن المعنى: في ذلك المكان الذي رأى فيه ما رأى من كرامات مريم، دعا زكريا ربه لقد طمع في ذلك الظرف بالولد مع كبر سنّه من المرأة العاقر، فرجاً أن يرزقه الله منها الولد، مع أنه عجوز وامرأته عاقر، فرغب في الولد، وسأل الذرية الطيبة.
ومعنى (من لدنك): من عندك.
ومعنى (ذريةً طيبةً): نسلاً.
ومعنى (طيبةً): مباركةً.
والذرية: تطلق على الواحد والجمع وهي هنا بمعنى الواحد، وزكريا طلب من الله ولداً فقط؛ لأن الله قال عن طلبه في آية أخرى: ﴿ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ﴾ (مريم: 5)، ولم يقل (أولياء).
وكان دعاء زكريا عليه السلام ربه في سورة آل عمران مجملاً، لكنه مفصل نوعاً ما، في مطلع سورة مريم، قال تعالى: ﴿كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ (مريم: 1: 6).
وقد افتتحت سورة مريم بخمسة من الحروف المقطعة، التي افتتح الله بها بعض السور، ثم جاء الحديث بعد ذلك مباشرة عن دعاء زكريا عليه السلام، وخاطب الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بأنه سيذكر له رحمته بزكريا عليه السلام (ذكر رحمت ربك عبده زكريا). ووصف الله زكريا بالعبودية لله (عبده زكريا)، وهذا وصف للتكريم والتشريف؛ لأن مقام العبودية لله هو أعلى المقامات وأشرفها.
وإنَّ العبودية لله تعالى مقام كريم ودرجة سامية يوصف بها المقربون، والعبودية لله تعالى غنىً ورفعةً وعز، وأما العبودية لغيره – سبحانه - فهي فقر وذل وضَعَة فما أسوأ أن يكون الإنسان عبداً لشيطان، عبداً لشهواته، عبداً لهواه، عبداً للمال، عبداً للمنصب والمال والسلطان، يبيع في سبيل ذلك دينه ومبادئه.

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م ص (75:70)
- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط32، 2003 م، 1/393.
- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، تحقيق وتصحيح: محمد فؤاد عبد الباقي ، محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379ه، ص 5/345
- أحمد الشرقاوي، المرأة في القصص القرآني، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2001م، ص 2/613.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022