المقال الأول من كتاب المسيح بن مريم عليه السلام؛ الحقيقة الكاملة بعنوان:
عيسى (عليه السلام) يُكلم الناس في المهد
الكاتب: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
أخذت مريم عليها السلام بإرشادات وليدها عيسى عليه السلام، فأكلت من الرطب وشربت من الماء، وبعدما رجعت لها قوتها حملت ابنها معها وتوجّهت إلى أهلها.
1. مريم تحمل ابنها وتتجه إلى قومها:
وهناك كانت الدهشة والمفاجأة لهم وقد صورت الآيات بعض ما جرى:
قال تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ (مريم: 27- 33).
- (فأتت به قومها تحمله):
أتت مريم رضي الله عنها قومها وأهلها المقربين، وكانت تحمل ابنها عيسى عليه السلام، وكانت في غاية القوة والشجاعة والثقة والطمأنينة؛ لأنها توقن أن الله معها، وتعلم أنها لم ترتكب خطأً، والله هو الذي خلق في رحمها عيسى فلماذا تخشى مواجهتهم، وقد وصلت مريم أهلها، ونظروا إليها وقد سيطرت الدهشة عليهم، إن ابنتهم طاهرة عذراء عفيفة، وهم يعلمون هذا عن يقين، فماذا الذي يرونه منها؟ لقد أنطقتهم الدهشة والمفاجأة بعبارة ساخرة متهمينها.
- (قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً):
كان في عبارتهم اتهام غير صريحٍ لمريم، والذي دفعهم إلى عدم اتهامها بصراحة - فلم يقولوا لها: لقد ارتكبت فاحشة الزنا- هو إيمانهم بالله وتقواهم لله، وتحرّجهم من قذف الصالحة بالفاحشة، ثم ما عرفت له مريم من صلاح وعبادة وعفاف وطهارة، مما يجعلها بعيدة عن الفاحشة، لكنهم رأوا وليداً على حضنها، وهو أمر غريب مريب يدعو إلى الريبة، فكيف يوفقون بين ما يعرفونه عنها من عفة وطهارة وبين ما يشاهدونه بين يديها؟
اكتفوا بقولهم لها بأنها جاءت بأمر عظيم فظيع، لا يتفق مع ماضيها الذي عهدوه منها، ولا مع أسرتها التي نشأت فيها، بين والدين صالحين وأخ صالح.
ومعنى قولهم لها (يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً): لقد جئت بشيء عظيم، وأحدثت حدثاً عجيباً، وهو الوليد الذي تحملينه، فمن أين لك به؟.
2. استقامة أسرتها وهارون شقيق لها:
وقد أشار قومها إلى طهارة منبتها، وعفة أفراد أسرتها واستقامة أخيها ووالدَيها، فقالوا: ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ (مريم: 28)، فأبوها رجل صالح عفيف (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا)، ما كان سيئاً يأتي بالفواحش، وأمها امرأة صالحة عفيفة (وما كانت أمك بغيا): ما كانت بغية زانية.
وتوافقت شهادة قومها لأمها بطهارتها وعفتها عندما نفوا عنها البغاء (وما كانت أمك بغيا)، مع شهادتها هي لنفسها، عندما جاء جبريل عليه السلام لينفخ فيها بعيسى ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ (مريم: 20). فأمّها ما كانت بغياً زانياً، وهي ما كانت بغياً زانياً.
وقد اختلف العلماء في قولهم (يا أخت هارون)، فذهب بعضهم إلى أنه لا يراد بها الأخوة الحقيقية، وإنما الأخوة (التشبيهية)، فأرادوا تشبيهها بهارون شقيق موسى عليهما السلام، تشبيهها به في العبادة والعفة والصلاح والمعنى: يا شبيهة هارون النبي في العبادة من أين هذا الوليد؟
وذهب الجمهور إلى أن الأخوة هنا أخوة حقيقية، وأنها شقيقة لهارون، وهارون المذكور هنا، ليس النبي الكريم شقيق موسى عليهما السلام، فبينهما عدة قرون، وإنما هو هارون آخر.
والراجح هو قول الجمهور؛ لأنه ورد فيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم والترمذي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا: ألستم تقرؤون (يا أخت هارون)؟ قلت: بلى. قالوا: وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال "ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم".
فهذا الحديث الصحيح صريح في أن هارون أخ شقيق لمريم سماه أبواه باسم هارون النبي عليه السلام.
3. استغراب قومها من إشارتها إلى وليدها:
ولما سمعت مريم كلام قومها، عزّ عليها اتهامهم الضمني لها، ولو تكلمت فقد لا يسمعون لها ثم هي ناذرة للرحمن صوماً عن الكلام. وبما أنها سمعت كلام وليدها لها فور ولادته، فإنها أحالت الجواب عليه.
(فأشارت إليه): أشارت إلى عيسى، وكأنها تقول لهم لا تسألوني أنا، بل اسألوه وكلموه. ولم ترد الإشارة في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع من القرآن، والإشارة قد تكون باليد أو العين أو الرأس أو غيرها، لتدل على معنى من المعاني.
وفهم القوم إشارتها، إنها تدعوهم لسؤاله هو فزاد استغرابهم وتعجبهم وغيظهم إنهم يسألونها مستنكرين، وهي تسخر منهم وتقابل سؤالهم بصمت، وتشير إلى وليد لم تمض على ولادته إلا ساعات ليتولى هو الكلام معهم، ولهذا سألوها مستنكرين (كيف نكلم من كان في المهد صبياً)؟ كيف نسأل طفلاً وهل يفهم سؤالنا؟ وإذا فهم سؤالنا هل يقدر أن يجيبنا؟ وما عهد عن طفل في المهد وليد قبل ساعات أو أيام الكلام والواضح المفهوم. و(كان) هنا تامة بمعنى (وجد) وفاعلها: ضمير مستتر يعود على ابنها (صبياً) حال.
والمعنى: كيف نكلم من وجد في المهد صبياً؟ والمراد بالمهد هنا حجر أمه، لأنهم يشاهدونها وهي تحمله. والمهد والمهاد: المكان الممهد الموطأ. وأما (المهد) فقد ورد في القرآن ثلاث مرات، في سياق الحديث عن عيسى عليه السلام.
وكان عيسى عليه السلام وهو في حضن أمه لم تمض على ولادته إلا عدة ساعات يعي ما يجري حوله وعياً معجزياً، ويسمع كلام القوم إلى أمه سمعاً معجزياً، وكان هذا الوعي والسماع معجزة من الله.
ولما سمع سؤالهم لأمه (كيف نكلم من كان في المهد صبياً)؟ كان يعلم أن أمه لن تجيب على السؤال؛ لأنه هو الذي أمرها ألا تجيب عن أيّ سؤال، فتطوع هو للإجابة، وقدم نفسه إلى القوم وعرفهم على نفسه وعلى ما سيكون منه في المستقبل.
وفتح القوم عيونهم مبهورين مما يشاهدون وأصغوا سمعهم مشدوهين مما يسمعون، وسيطرت المفاجأة على كيانهم كله، أهذه حقيقة أم خيال؟ أحقاً يشاهدون طفلاً يتكلم؟ أحقاً هذا صوت طفل عمره ساعات يدخل آذانهم ومسامعهم؟ أم هم متخيلون واهمون؟
إنها حقيقة قاطعة، وإن كلام هذا الطفل معجزة، يسمعه هؤلاء القوم المؤمنون، فيزداد إيمانهم بالله عزَّ وجل.