الصفات الإلهية(3)
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الثالثة عشر
شعبان 1441ه/ أبريل 2020م
1.بعضُ الصفاتِ التي تُطْلَقُ من بابِ المقابلةِ:
وردَتَ في القرآن الكريمِ أفعالٌ أطلقها الله عزّ وجلّ على نفسِه على سبيلِ الجزاءِ والعدلِ والمقابلةِ، وهي فيما سيقت فيه مدحٌ وكمالٌ، ولكن لا يجوزُ أن يشتقَّ للهِ تعالى منها أسماءٌ، ولا تطلقُ عليه في غيرِ ما سيقتْ فيه من الآيات، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء :142] وقال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [ ال عمران: 54] وقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة :67] وقال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة :14 ـ 15] .
فلا يطلَقُ على اللهِ لفظُ (مخادعٍ، ماكرٍ، ناسٍ، مستهزىءٍ)، ونحو ذلك ـ تعالى الله عنه علواً كبيراً ـ ولا يقال: (اللهُ يستهزِىءٌ، ويخادِعُ، ويمكرُ، وينسى)، على سبيل الإطلاقِ، وقد أخطأَ الذين عدُّوا ذلك من أسمائه الحسنى خطأً كبيراً، لأنَّ الخداعَ والمكرَ يكونُ مدحاً ويكون ذمّاً، فلا يجوزُ أن يطلقَ على الله إلا مقيّداً بما يزيلُ الاحتمالَ المذمومَ منه، كما ورد مقيّداً في الآيات.
2ـ الله منزهٌ عن كلِّ صفة نقص:
• يُنَزَّهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عن الغفلةِ والنسيانِ بأي وجهٍ من الوجوه، لأنّه عالمُ الغيبِ والشهادةِ، وعلمُه محيطٌ بكلِّ شيءٍ، فلا يعرضُ له ما يعرِضُ لعلم المخلوقِ من خطأٍ بعضِ المعلومات، أو نسيانها، أو الذهول عنها، قال تعالى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى *} [طه :52] . ومنَّزهٌ عن الاحتياج إلى الرزق والطعام، لأنه هو الرزاقُ لجميع الخلقِ، الغنيُّ عنهم، وكلُّهم فقراءُ إليه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ *إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ *} [الذاريات :56 ـ 58] وقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الانعام :14] .
• والله مُنَزَّهٌ عن ظُلْمِ العبادِ، بأن يزيدَ في سيئاتهم، أو ينقصَ من حسناتهم، أو يعاقبهم على ما لم يفعلوا، فإنَّ الظلمَ لا يفعله إلا مَنْ هو محتاجٌ إليه، أو مَنْ هو موصوفٌ بالجَـوْرِ، أمّا الله فهو الغنيُّ عن خلقـه من جميـعِ الوجـوهِ، الحكـمُ العـدلُ الحميدُ، فما له وظلم العباد؟ قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ *} [فصلت :46] .
• والله منزَّهٌ عن العبث في الخلق والأمر، فلم يخلق سبحانه وتعالى شيئاً عبثاً ولا باطلاً، ولا شرعَ إلا حكمةً عظيمةً، لأنه حكيمٌ حميدٌ، من تمام حكمته وحمده إتقانُ المصنوعاتِ وإحكامُها، وإحكامُ الشرائع على أكملِ وجهٍ وأتمّه.
3 ـ صفاتُ الله كلُّها صفاتُ كمالٍ: لا نقصَ فيها بوجهٍ من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك، ولله عزَّ وجلَّ المثل الأعلى قال تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يؤْمِنُونَ بِالآخرة مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [النحل :60] وقال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [الروم :27] والمثل الأعلى هو الوصفُ الأعلى، إنّ الخلقَ مضطرون إلى العلم بأنَّ الخالقَ سبحانه وتعالى أجلُّ وأكبرُ وأعلى وأعلمُ وأعظمُ وأكملُ من كلِّ شيء، فهذا مستقرٌّ في فطر الناس، وهو علم ضروري في حقِّ من سَلِمَتْ فطرته، فدلالةُ الفطرةِ على الصفات واضحةٌ وبينةٌ، فإنَّ كلَّ حادثٍ لابدَّ له من محدث، وهذا المحدِثُ لابدَّ أن يكونَ قادراً، عالماً، مريداً، حكيماً، فالفعل يستلزِمُ القدرةَ، والإحكامُ يستلزم العلم، والتخصيصُ يستلزِم الإرادةَ، وحُسْنُ العاقبةِ يستلزم الحكمةَ.
وفي الفطرةِ الإقرارُ لله تعالى بالكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجهٍ من الوجوه. وكذلك في الفطرة تنزيه الله عن النقائص والعيوب، ومن القضايا البدهية المستقرة في الفطرة أنّ الذي يعلمُ، والذي قدّر، والذي يتكلَّم ويبصر: أكملُ من الفاقد لذلك، ولهذا يذكر الله تعالى هذه المسألة بخطابِ الاستفهام الإنكاري، ليبيِّن أنها مستقِرَّةُ في الفطرةِ، وأنّ النافي لها قال قولاً منكراً في الفطرة، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *} [النحل :17] . فالتسويةُ منكرَةٌ في الفطرة، ويُنْكَرُ ذلك على مَنْ سوَّى بينهما، فالذي ليست لديه صفاتُ كمالٍ، لا يمكِنُ أن يكون ربّاً، ولا معبوداً، وأنَّ العلم بذلك فطري، كما قال الخليل قال تعالى {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا *} [مريم :42] وقال تعالى عَنْ عجلِ بني إسرائيل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ *} [الاعراف :148] .
4 ـ من لوازم استحقاقِ الله تعالى لصفاتِ الكمال تفرُّدُه بالحُكْمِ: فمن الآيات القرآنية التي أوضحَ تعالى بها صفاتِ مَنْ له الحُكم والتشريع قوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى :10] ثم قال مبيِّناً صفاتِ مَنْ له الحُكم: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [الشورى :10 ـ 12] ذكر سبحانه وتعالى صفاتِ الربِّ الذي تفوَّضُ إليه الأمور، ويُتَوَكَّلُ عليه، وإنّه فاطر السماوات والأرض وخالقها، على غير مثالٍ سابقٍ، وأنّه هو الذي خلقَ للبشر أزواجاً، وخلقَ لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة. وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى :11] وأنه: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى :12] وأنه سبحانه وتعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: 12] و(يَقْدِر) أي يضيقه على مَنْ يشاء، وهو بكلِّ شيءٍ عليم، فعلى المسلمِ أن يتفقَّه صفاتِ مَنْ يستحقُّ أن يشرِّعَ ويحلِّل ويحرّمَ.
5 ـ نفيُ معاني أسمائه الحسنى مِنْ أعظمِ الإلحاد فيها: قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الاعراف :180] لأنّها لو لم تكن تدلُّ على معانيَ وأوصاف لم يَجُزْ أن يُخْبَرَ عنها بمصادرِها، ويُوْصَفَ بها، ولكنّ الله أخبرَ عن نفسِه بمصادرها، وأثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ *} [الذاريات :58] فعُلِمَ أنَّ القوي من أسمائه، ومعناه الموصوفُ بالقوة. وكذلك قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر :10] فالعزيزُ مَنْ له العزّةُ، فلولا ثبوتُ القوة والعزةِ لم يسمَّ قوياً ولا عزيزاً، وهكذا في سائر أسمائه.
وحقيقةُ الإلحادِ فيها ـ أي في أسمائه تعالى ـ العدولُ عن الصوابِ فيها، وإدخالُ ما ليس من معانيها فيها:
أ ـ كأن تسمّى بعضُ المعبوداتِ باسمٍ من أسماء الله تعالى، أو يقتبَسَ لها اسمٌ من بعض أسمائه تعالى: كتسمية المشركين بعضَ أصنامهم «اللات» أخذاً من «الإله» و«العُزّى» أخذاً من «العزيز» وتسميتهم الأصنامَ أحياناً «الهة» وهذا إلحادٌ واضحٌ كما ترى، لأنّهم عدلوا بأسمائه تعالى إلى معبوداتهم الباطلة.
ب ـ وكتسمية تعالى بما لا يليق به، كتسمية النصارى له «أب»، وإطلاقِ الفلاسفةِ عليه «موجباً لذاته» أو «علّة فاعلةً بالطبع» ونحو ذلك.
ج ـ وكوصف الله تعالى بما يُنَّزَّهُ عنه سبحانه، كقولِ اليهود (ولعنوا بما قالوا): إنّه فقيرٌ، وقولهم: إنَّه استراحَ بعدَ أن خلقَ خلقه، وقولهم: أيضاً (غلت أيديهم): يدُ اللهِ مغلولةٌ، وغير ذلك من الألفاظ التي يطلقها أعداءُ الله قديماً وحديثاً.
د ـ وكتعطيل أسمائه تعالى عن معانيها، وهي الصفاتُ، وجحدِ حقائقها، كما فعل بعضُ الفرق المبتدعةِ، حيث جعلوا أسماءَ اللهِ ألفاظاً مجرّدةً، لا تدل على الصفات، كقولهم: سميعٌ بلا سمعِ، وعليمٌ بلا علمٍ.
هـ وكتشبيه الله تعالى بصفات خلقه.
6 ـ آثار الصفات الإلهية في النفس والكون والحياة: ومشهدُ الأسماء والصفات من أجلِّ المشاهدِ، والمطَّلِعُ على هذا المشهدِ يعرِفُ أنَّ الوجودَ متعلِّقٌ خلقاً وأمراً بالأسماء الحسنى، والصفات العلى، ومرتبِطٌ بها، وإنَّ العالمَ بما فيه من بعض اثارِها ومقتضياتها. فاسمه «الحميد، المجيد» يمنعُ تركَ الإنسان سدًى مهمَلاً معطَّلاً، لا يؤمَرُ ولا يُنْهَى، ولا يُثاب ولا يُعاقب. وكذلك اسمه «الحكيم» يأبى ذلك، فكلُّ اسمٍ من أسمائه له موجباتٌ، وله صفاتٌ، فلا ينبغي تعطيلُها عن كمالها ومقتضياتها.
والربُّ تعالى يُحِبُّ ذاتَه وأوصافَه وأسماءه، فهو عفوٌّ يحبُّ العفوَ، ويحبُّ المغفرةَ، ويحبُّ التوبةَ، ويفرحُ بتوبةِ عبدِهِ حينَ يتوبُ إليه فرحاً لا يخطرُ بالبال، وكان تقدير ما يغفره، ويعفو عن فاعله، ويحلمُ عنه، ويتوبُ عليه، ويسامحه بموجب أسمائه وصفاته، وحصولِ ما يحبُّه ويرضاه من ذلك.
وما يحمد به نفسَه، ويحمده به أهلُ سماواته وأهل أرضه، وما هو من موجباتِ كماله، ومقتضى حمده، وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمدهُ ومجدُه يقتضيان اثارهما:
ومن آثارهما: مغفرةُ الزلات، وإقالةُ العثراتِ، والعفو عن السيئاتِ، والمسامحةُ على الجنآيات، مع كمالِ القدرةِ على استيفاءِ الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية، ومقدار عقوبتها، فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قوته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته. كما قال الله على لسان عيسى عليه السلام في القرآن: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [النساء :118] أي: فمغفرتُك عن كمالِ قدرتك، وحكمتُك ليست كمن يغفرُ عَجْزاً، ويسامِحُ جهلاً بقدر الحق، بل أنتَ عليمٌ بحقك، قادِرٌ على استيفائه، حكيمٌ في الأخذِ منه.
فمن تأمّلَ سريانَ اثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر، تبيّنَ له أنّ مصدرَ قضاء هذه الجنآيات من العبيد، وتقديرها: هو مِنْ كمالِ الأسماء والصفات والأفعال، وغايتها أيضاً مقتضى حمده ومجده، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته، فلله في كلِّ ما قضاه وقدّره الحكمةُ البالغةُ والآيات الباهرةُ.
والله سبحانه دعا عبادَه إلى معرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بشكره ومحبته وذكره، وتعبّدهم بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، لأنّ كلَّ اسمٍ له تعبُّدٌ مختصُّ به، علماً، ومعرفة، وحالاً.
وأكملُ الناسِ عبوديةً المتعبِّدُ بجميع الأسماءِ والصفاتِ، التي يطّلعُ عليها البشرُ، فلا تحجبُه عبوديةُ اسمٍ عن اسمٍ آخر، كما لا يحجبُه التعبُّدُ باسمه «القدير» عن التعبُّدِ باسمه «الحليم الرحيم»، أو تحجبُه عبوديةُ اسمه «المعطي» عن عبودية اسمه «المانع»، أو عبودية اسمه «الرحيم والعفو والغفور» عن اسم «المنتقم»، أو التعبد بأسماءِ «البر والإحسان واللطف» عن أسماء «العدل والجبروت والعظمة والكبرياء» وهذه طريقةُ الكمال من السائرينَ إلى الله، وهي طريقةُ مشتقةٌ من قلب القرآن الكريم قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الاعراف :180] والدعاء بها يتناولُ دعاءَ المسألةِ، ودعاءَ الثناء، ودعاءَ التعبُّدِ. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظّهم من عبوديتها.
فالله سبحانه وتعالى يُحبُّ موجِبَ أسمائه وصفاته، فهو «عليمٌ» يحبُّ العلمٍ، وهو «جَوَادٌ» يحبُّ الجود، «وترٌ» يحبُّ الوتر، «جميل» يحبُّ الجمال، «عفوٌّ» يحب العفوَ وأهلَه، «حييٌّ» يحبُّ الحياءَ وأهلَه، «بَرٌّ» يحبُّ الأبرار، «شكور» يحبُّ الشاكرين، «صبورٌ» يحبُّ الصابرين، «حليمٌ» يحبُّ الحلمِ.
فلمحبته سبحانه للتوبةِ والمغفرةِ، والعفوِ، والصفحِ: خلقَ مَنْ يغفِرُ لهم، ويتوبُ عليهم، ويعفو عنهم، وقدّر عليهم ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له، ليترتّب عليه المحبوبُ له، المرضي له.
وظهور أسماء الله وصفاته في هذه الحياة، وفي النفس البشرية، وفي الكون كله: واضحٌ، لايحتاجَ إلى دليل، إلا أنّ الاهتداء إلى تلك الاثار، أو الانتباه لها، يتوقّفُ على توفيق الله تعالى، بل إنّ التوفيقَ نفسَه من اثارِ رحمته التي وسعتْ كلَّ شيءٍ.
فلو فكّر الإنسانُ في هذا الكونِ الفسيحِ وفي نفسِه لرجعَ من هذه الجولة الفكرية بعجائب، واستفاد منها فوائد، ما كان يحلُمُ بها، ولو تأملنا هذه الاية الكريمة لرأينا أموراً يعجز الإنسان عن التعبير عنها، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ *فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ *} [طه :115 ـ 116] .
ومما يؤكد أهمية هذا التوحيد هو ما تثمره أسماءُ الله وصفاتُه في قلب المؤمن من زيادةٍ في الإيمانِ، ورسوخٍ في اليقين، وما تجلبه له من النورِ والبصيرةِ التي تحصّنه من الشبهاتِ المضلّة والشهواتِ المحرّمة.
فهذا العلم إذا رسخَ في القلب أوجبَ خشيةَ الله لا محالةَ، فكلُّ اسمٍ من أسماء الله له تأثيرٌ في القلبِ والسلوكِ، فإذا أدركَ القلبُ معنى الاسم، وما يتضمنه، واستشعر ذلك، تجاوبَ مع هذه المعاني، وانعكست هذه المعرفةُ على تفكيره وسلوكه.
ولكلِّ صفة عبوديةٌ خاصّةٌ، هي من موجباتها ومقتضياتها، فالأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضاها بثمارها من العبودية، وهذا مطرِّدٌ في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح، فمثلاً:
عِلْمُ العبد بتفرّد الربِّ تعالى بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، يثمِرُ له عبوديةَ التوكّل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً.
وعلمُه بسمعه وبصره، وعلمه أنّه لا يخفى عليه مثقالُ ذرّةٍ في السماوات ولا في الأرض، وأنّه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور، يثمِرُ له حفظَ لسانِهِ وجوارحِهِ، وخطراتِ قلبه عن كلِّ ما لا يرضي الله، وأن يجعلَ تعلّق هذه الأعضاء بما يحبُّه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك الحياءَ باطناً، ويثمِرُ له الحياءُ اجتنابَ المحرّمات والقبائح. ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره، وإحسانه ورحمته توجب له سعةَ الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواعِ العبودية الظاهرةِ والباطنةِ بحسب معرفته وعلمه.
وكذلك معرفته بجلال الله وعزِّه تثمر له الخضوعَ والاستكانةَ والمحبةَ، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباتها.
وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبَّةً خاصةً بمنزلة أنواع العبودية، فرجعت تلك العبوديةُ كلُّها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها.
وهذه الأحوال التي تتّصف بها القلوب هي أكمل الأحوال، وأجلّ وصف يتصف به القلب وينصبغ به، ولا يزالُ العبدُ يمرّن نفسَه عليها، حتى تنجذبَ نفسُه وروحُه بدواعيه منقادةً راغبةً، وبهذه الأعمال القلبية تَكْمُلُ الأعمالُ البدنيةُ، فنسألُ الله أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته، والإنابة إليه، فإنّه أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين.
يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf