الجمعة

1446-11-11

|

2025-5-9

الصفات الإلهية (1)

د. علي محمد الصلابي

الحلقة: الحادية عشر

شعبان 1441ه/ أبريل 2020م

تنقسمُ الصفاتُ الإلهيّةُ إلى عقليةٍ وخبريةٍ، وإلى ذاتيةٍ وفعليةٍ اختياريةٍ، فالصفاتُ العقليةُ والخبريةُ جاء بها القرآن الكريم وتحدّثت بها السنة.
1 ـ الصفات العقلية: وهي التي يمكِنُ أن يُسْتَدَلَّ عليها بالعقل: كالعلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والرحمة، والحكمة، والعلوّ، ونحوها.
2 ـ الصفات الخبرية: وهي التي لا يستطيعُ العقلُ إدراكَها مِنْ غير طريق النصوص، فطريقُ إثباتها ورودُ خبرِ الصادقِ بها فقط، وذلك كالوجه، واليدين، والعين، والاستواء على العرش، ونحو ذلك، فهـذه الصفاتُ يجب الإيمانُ بها كالصفات العقلية من غير تمثيلٍ، ولا تعطيل، ولا تحريفٍ، ولا تكييف، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى :11] .
كما تقسم إلى:
1 ـ الصفات الذاتية: وهي التي لا تنفكُّ عنها الذاتُ، بل هي لازمةٌ لها أزلاً وأبداً، وذلك كالحياةِ، والعلمِ، والقدرةِ، والقُوّة، والمُلْك، والعظمة، والكبرياء، والمجد، والعلو، والجلال، والوجه، وغيرها.
• بعضُ الصفاتِ الذاتيّة:
أ ـ صفةُ الحياةِ: إنّ الله تعالى له الحياةُ الدائمةُ التامّةُ، التي لا يعتريها نقصٌ بوجهٍ من الوجوه، ولهـذا قال: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة :255] .
وصفةُ الحياة ثابتةٌ بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية:
فالآيات منها قوله تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة :255] وقوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [غافر :65] وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان :58] .
أما الأحاديث، فمنها حديثُ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: «اللهمَّ لكَ أسلمتُ، وبِكَ آمنتُ، وعليكَ توكّلتُ، وإليكَ أنبتُ، وبكَ خاصمتُ، اللهم إني أعوذ بعزّتِك لا إلهَ إلاَّ أنتَ أنْ تُضِلَّني، أنتَ الحيُّ الذي لا يموتُ، والجنُّ والإنسُ يموتون».
ومن معاني (الحي) أنَّ حياته صفةٌ ذاتيةٌ، بخلاف المخلوقين، فإنَّ حياتهم من فضلِ الله عزّ وجلّ عليهم، ومعيشتُهم من عطائه وجودِهِ وكرمهِ، فاللهُ تعالى متّصفٌ بالحياةِ، وهي صفةٌ لذاته جلّ وعلا.
ومن معانيها أيضاً أنّه يمنحُ الحياةَ للأحياء في الدنيا، ويمنحُ أهلَ الجنّةِ حياتهم الأبديـة الأزليـة السرمديـة التي لا زوال لهـا، بل هي خلودٌ أبديٌّ بلا مـوتٍ ولا فناءٍ.
ب ـ صفةُ العلمِ: والعلمُ يقتضي نفيَ الجهلِ، وعلمُه سبحانه علمٌ شاملٌ كاملٌ، محيطٌ بالماضي والحاضر والمستقبل، وعلمٌ مطابِقٌ للواقع، قال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *}[الملك: 14] قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}[البقرة: 255] وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}[النساء: 166] .
فالله سبحانه وتعالى أحاطَ بكلِّ شيءٍ علماً، ووسعَ كلَّ شيْءٍ رحمةً وحكمةً {لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ *} [ ال عمران: 5] {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *} [الانعام :59].
كما أنَّ علمه لا يسبقُه جهل، فلا يلحقه أيضاً نسيان {لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى *} [طه :52] وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ *} [الاعراف :7] .
هو يعلمُ دقائقَ التفاصيل، والظواهر، والبواطن، والكليات، والجزئيات، والمعنويات، والماديات، ولقد كتبَ مقاديرَ كلِّ شيءٍ في كتابٍ عنده، ولذا يقول سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *} [الاسراء :85] .
فهـذا العلمُ:
يوجِبُ الخشيةَ منه وتعظيمه، ولذا قيل: مَنْ كانَ باللهِ أعرفَ كان منه أخوفَ.
ويوجبُ مراقبته، لأنَّ كلَّ شيءٍ بعلمه، وسمعه، وبصره، وتحت سلطانه.
ويوجبُ محبته، لأنَّ كمالَ العلمِ محبوبٌ للنفوس الشريفةِ التّواقة.
ويوجبُ محبَّةَ العلم والسعيَ فيه، وتحصيله، والتلذذ به، لأنَّ الله يحبُّ العلمَ والعلماءَ، ويكرهُ الجهلَ والُجهلاءَ، ويوجِبُ الصبَر على التعلّم وذلِّه، لأنه عبادةٌ.
وكذلك علمُ الدنيا والكونِ والإنسانِ وألوانِ المعارف الإنسانية محبوبةٌ، وعلمُ الشريعةِ والوحيِ والآخرة محبوبٌ، لأنّه يثمِرُ معرفةَ الله، والقربَ منه، ومعرفةَ ما يريدُ وما يحبُّ، وما يكره سبحانه وتعالى.
وكذلك علمُ الدنيا والكون والإنسان وألوان المعارف الإنسانية هي محبوبةٌ، لأنّها تزيدُ العبدَ بصيرةً بِخَلْقِ اللهِ وقدرتهِ وحكمتِهِ وعظمتِهِ، وتيسِّرُ الانتفاعِ بهـذا الكونِ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية :13] .
إنَّ صفة العلم مستمدّةٌ من اسمه العليم، وهـذا الاسمُ الشريفُ العظيمُ يولِّدُ في النفس تسليماً لما يفعله الله في كونه، وأن ذلك حاصل بعلمِهِ وإرادتِهِ وحكمتِهِ، فالحكمةُ هي العلم، والقدرةُ هي قرينُ العلم {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *} [التحريم :2] {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ *} [الروم :54] فكلُّ شيءٍ بقدرٍ، وكلُّ قَدَرٍ بحكمةٍ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [التغابن :11] .
إنّ الإيمانَ بالربِّ (العليم) ليجعلُ العبدَ أقربَ إلى ربِّه، وأكثرَ استشعاراً لمعيّته.
قال الشاعر (من الكامل):
وهُوَ العليمُ أحاطَ عِلْماً بالّذي في الكونِ مِنْ سَرٍّ ومِنْ إعلانِ
وبكلِّ شيءٍ علمُه سبحانَهُ قاصي الأمورِ لديه قبلَ الدَّاني
لا جَهْلَ يَسْبِقُ عِلْمَهُ كلا ولا يُنْسَى كَمَا الإنسانُ ذو نِسْيانِ
ج ـ صفةُ القدرة: القديرُ سبحانه هو كاملُ القدرةِ، فبقدرته أوجدَ الموجودات، وبقدرته دبّرَها، وبقدرته سوَّاها وأحكمَها، وبقدرته يحيي ويميتُ، ويبعثُ العبادَ للجزاءِ، وبقدرته سبحانه يقلِّبُ القلوب على ما يشاءُ ويريد. قال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ *} [القيامة :4] وقال: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ *} [المؤمنون :95] .
ومن السنة المطهرة حديثُ جابرٍ بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارةَ في الأمور كلِّها، كما يعلِّمُنا السورةَ من القرآن، يقول: «إذا هَمَّ أحدُكُم بالأمرِ فليركعْ ركعتينِ مِنْ غيرِ الفريضة، ثم لِيَقُلْ: اللهمَّ إنِّي أستخيرُكَ بعلمِكَ، وأسْتقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ...».
د ـ صفةُ الإرادةِ: الإرادةُ والمشيئةُ بمعنًى واحد، فالإرادةُ التي تعني المشيئةَ هي الإرادةُ الكونية، وأمّا الإرادةُ الشرعية فتختلِفُ عن الإرادةِ الكونية، وسيأتي الحديثُ عنها مفصّلاً بإذن الله.
والآيات والأحاديث في بيان الإرادة الكونية كثيرةٌ جداً، منها قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *}[المائدة: 6] وقوله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185] .
وأما الأحاديث فمنها حديثُ معاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ يُردِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّيْن».
هـ إثباتُ صفةِ السمع والبصر: والمعلومُ والمقدّرُ عند أهلِ السنَّةِ أنَّ السميعَ لا يكونُ إلا بسمعٍ، والبصير لا يكونُ إلا ببصرٍ، كما لا يكونُ القديرُ والحكيمُ إلا بقدرةٍ وحكمةٍ.
والآيات في إثبات صفتي السمع والبصر كثيرةٌ، وكذلك الأحاديثُ أيضاً، ولذلك سنستدل ببعض الآيات قال تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [غافر :56] وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *} [النساء :134] .
و ـ إثباتُ صفة الكلام: أهلُ السنّةِ متّفقون على أنَّ اللهَ يتكلّم بمشيئته، وأنَّه لم يزل متكلّماً إذا شاء، وكيف شاء، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة :253] وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا *} [النساء :164] .
فالله عزّ وجلّ من صفاته صفةُ الكلامِ، وهي صفةٌ قائمةٌ به، غيرُ بائنةٍ عنه، لا ابتداءَ لاتّصافه بها ولا انتهاء، يتكلَّم بها بمشيئته واختياره، وكلامُه تعالى أحسنُ الكلام، ولا يشابِهُ كلامَ المخلوقين، إذ الخالقُ لا يقاسُ بالمخلوق، ويكلِّم به مَنْ شاء، ويسمِعُه على الحقيقةِ مَنْ شاء من ملائكته ورسله، ويسمِعُه عبادَه في الدار الآخرة بصوتِ نفسِه، كما كلّم موسى وناداه حين أتى الشجرةَ بصوتِ نفسِه، فسمعَه موسى، كما أنَّ كلامه تعالى لا يشبِهُهُ كلامُ المخلوقين، فإنَّ صوته لا يشبِهُ أصواتهم، وكلماتهُ تعالى لا نهايةَ لها، ومن كلامِهِ: القرآن والتوراةُ والإنجيلُ، فالقرآن كلامُه، سورهُ، وآياتهُ، وكلماتهُ.
والقرآن الكريم كلام الله، منه بدأ، وإليه يعود، فهو كلامُ الله، حروفهُ: ومعانيه، والدليل أنّه مِنْ كلام الله قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} [التوبة :6] .
والقرآن منزلٌ من عند الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان :1].
والقرآن غيرُ مخلوقٍ، والدليل قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الاعراف :54] فجعل الأمرَ غيرَ الخلقِ، والقرآن من الأمرِ، لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى :52] وقوله: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق :5] .
ز ـ علو الله على خلقه: إنّ الله تعالى وصفَ نفسَه بالعلوِّ في السماء، ووصفه بذلك محمَّدٌ خاتمُ الأنبياء، وأجمعَ على ذلك جميعُ العلماء من الصحابة الأتقياء، والأئمة الفقهاء، وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين، وجمعَ اللهُ عليه قلوبَ المسلمين، وجعله مغروزاً في طِباع الخلقِ أجمعين، فتراهم عندَ نزولِ الكربِ بهم يلحظون السماءَ بأعيِنهم، ويرفعونَ نحوَها للدعاءِ أيديهم، وينتظرونَ مجيءَ الفرجِ مِنْ ربِّهم، وينطقون ذلك بألسنتهم، لا ينكِرُ ذلك إلا مبتدعُ غالٍ في بدعته، أو مفتونٍ بتقليدهٍ واتباعه على ضلالته، قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج :4] وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الانعام :18] ومعاني العلوِّ جميعُها ثابتةٌ له سبحانه: علوُّ الذاتِ، وعلوُّ القدرةِ، وعلوُّ القهرِ والغلبةِ، وعلوَّ الحُجَّةِ.
فهو علوُّ ذاتٍ، وعلوُّ صفاتٍ، ولذا وصفَ نفسَه بأنه {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه :5] فالعلوُّ الكامِلُ له وحدَه سبحانه، والعلوُّ الدائم له وحده سبحانه، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «حَقٌّ على اللهِ أنْ لا يرتفِعَ شيءٌ مِنَ الدُّنيا إلا وَضَعَهُ».
ومن علوِّه أنْ جعلَ الرفعةَ لكتابِهِ ولدينِهِ ولأوليائِهِ الصادقين، كما قال تعالى: {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى *} [طه :68] وقال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ *} [الزخرف :4] وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ يرفَعُ بهذا الكتابِ أقواماً، ويضعُ به آخرين».
ومع علوِّه سبحانَه، فهو قريبٌ مجيبٌ سميعٌ، ولذا يناديه العبدُ نداءً خفياً {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا *} [مريم :3] .
ويخبِرُ عن نفسِه أنَّه يسمعُ السِّرَّ وأخفى، والسرُّ ضدُّ الجهرِ، وما هو أخفى من السرِّ هو الخطراتٌ التي لا يعيها صاحبُها، ولا يدرِكُها، والمعاني المكنونة التي لا يحيطُ المرءُ بها حتى عن نفسِه وذاته، فهناك عالَمُ الأسرار، وهناك عالَمُ اللاشعور واللاوعي، وهناك الخفايا الخَلْقية، التي لم يصل إليها العلمُ، وهناك الخفايا المستقبلية، فهو مع علوِّه واستوائه على عرشِهِ محيطٌ بذلك كله، لا تخفى عليه خافيةٌ، ولذا سمَّى نفسَه بذي المعارج {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ *} [المعارج :3] وفسَّره بقوله: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج :4] .
وذكر نزولَ الملائكةِ والروحِ ونزولَ الوحي، كما ذكر ارتفاعَ الأشياءِ وصعودَها إليه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء :158] .
قال الشاعر: (من الوافر):
إذا ضاقتْ بكَ الأحوالُ يوماً فَثِقْ بالواحِدِ الصَّمَدِ العَلِيِّ
ح ـ إثباتُ صفةِ الوَجْهِ: نثبِتُ للهِ صفةَ الوجهِ دونَ تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ، وهو وجهٌ يليقُ به سبحانه، قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ *} [الرحمن :27] وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *} [القصص :88] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نفقةً تبتغي بها وَجْهَ اللهِ إلاّ أُجِرْتَ عليها».
ط ـ إثباتُ صفةِ اليدين: قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة :64] وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [:ص: 75] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المقسطينَ عند الله على منابرَ مِنْ نورٍ، عن يمينِ الرحمنِ عزّ وجلَّ، وكلتا يديهِ يمينٌ، الذين يَعْدِلُون في حُكْمِهِم وأهليهم وما ولوا».
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى صفة اليدِ بالإفرادِ والتثنيةِ والجمعِ: فبالإفرادِ مثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك :1] وبالتثنية كقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة :64] وبالجمع كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس :71] .
والتوفيقُ بين هذه الوجوهِ أن نقولَ:
الوجهُ الأوّلُ مفرَدٌ مضافٌ، فيشمَلُ كلَّ ما ثبتَ للهِ من يدٍ، ولا ينافي التثنية.
وأمّا الجمعُ فهو للتعظيمِ، لا لحقيقةِ العددِ الذي هو ثلاثةٌ فأكثر، وحينئذٍ لا ينافي التثنية، على أنّه قد قيل: إنّ الجمعَ اثنان، فإذا حُمِلَ الجمعُ على أقلِّه فلا معارضةَ بينه وبين التثنية أصلاً.
ي ـ إثباتُ صفةِ العين: وإثباتُ صفة العينِ على ما يليقُ باللهِ تعالى، ولا يُفْهَمُ منها أنَّ لله عينٌ جارحةٌ كأعيننا، بل له سبحانه وتعالى عينٌ حقيقيةٌ تليقُ بعظمتِهِ وجلالِهِ، وللمخلوقِ عينٌ حقيقةٌ تناسِبُ حالَه وحدوثَه وضعفَه، وهذا شأنُ جميعِ الصفاتِ التي فيها المشاركةُ اللفظيةُ مع صفاتِ المخلوق.
والعينُ صفةٌ لله تعالى بلا كيفٍ، وهي من الصفاتِ الخبريةِ الذاتية، قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *} [طه :39] وذكِرُ العينِ مفردةً لا يدلُّ على أنّها عينٌ واحدةٌ فقط، لأنَّ المفردَ المضاف يرادُ بهِ أكثر من واحدٍ، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [ابراهيم :34] وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر :14]، وهنا ذكرت بصيغةِ الجمع مضافةً إلى ضمير الجمع.
ك ـ إثباتُ صفةِ النفس: قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام :54] وقال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة :116] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقولُ الله تعالى: أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإنْ ذكرني في نفسِهِ ذكرتُهُ في نفسِي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرتهُ في ملأٍ خيرٍ منهم».
فالله جلّ وعلا أثبتَ في كتابه أنَّ له نفساً، وكذلك قد بيّنَ على لسانِ نبيّه صلى الله عليه وسلم أنّ له نفساً، كما أثبتَ النفسَ في كتابه، ونثبِتُها له على الوجه اللائق به.

يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022