ارتباط لا إله إلا الله بالولاء والبراء
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الخامسة
شعبان 1441ه/ مارس 2020م
ولمّا كان أصلُ الموالاة: الحبُّ، وأصلُ المعاداةِ: البغضَ، وينشأُ عنهما من أعمالِ القلوبِ والجوارحِ ما يدخلُ في حقيقةِ الموالاةِ والمعاداةِ كالنُّفْرَةِ، والأُنْسِ، والمعاونة، وكالجهادِ، والهجرة، ونحو ذلك، فإنَّ الولاءَ والبراءَ مِنْ لوازمِ (لا إله إلا الله) قال الله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ *} [ال عمران: 28] .
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} [المائدة :51] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوثقُ عُرى الإيمانِ الحبُّ في الله والبغضُ في الله».
ولقد ضربَ نبيُّ الله إبراهيم عليه السلام نموذجَ الأسوة الحسنة في ولائه لربِّ العالمين، حيثُ كان عليه السلام أسوةً حسنةً، وقدوةً طيبةً في ولائه لربه ودينه وعباد الله المؤمنين، وبرائه ومعاداته لأعداءِ الله، ومنهم أبوه.
لقد كانت سيرةُ نبيِّ الله إبراهيم عليه السلام مع قومه، كأيِّ نبيٍّ رسولٍ، حيث دعاهم بالتي هي أحسن إلى عبادة الله وتوحيده، وإفرادِه بالعبادة، والكفرِ بكلِّ طاغوتٍ يُعْبَدُ من دون الله.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صَدِّيقًا نَبِيًّا *إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا *يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا *يَاأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا *يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا *قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي ياإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا *قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا *وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا *فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا *} [مريم :41 ـ 49] .تلك هي نقطةُ البَدْءِ في دعوة خليل الرحمن، دعوةٍ بالحسنى، مبتدئاً بأقرب الناسِ إليه، فإنْ لم يكن هناك تجاوبٌ مع هـذه الدعوة فالاعتزالُ لهـذا الباطل وأصحابه، علّ في ذلك ردعاً وزجراً وتفكراً في هـذا الأمر الجديد، ونجاة للداعي من مشاركة أهل الباطل في باطلهم، إذا كان لا بدّ له من مخالطتهم ومعاشرتهم، وعدم تمكّنه من الهجرة في أرضهم.
ثم يمضي القرآن في بيان دعوة إبراهيم عليه السلام، مبيّناً أنّه استخدمَ مع قومه كلَّ حجة ودليل، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ *إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ *قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ *قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ *قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ *أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ *فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ *} [الشعراء :70 ـ 77] .
ولمّا لم يجدوا حجةً، وإنّما هو التقليدُ الأعمى لفعل الاباء والأجداد، قال لهم إبراهيم عليه السلام: أنا عدو الهتكم هـذه، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة :4] .
وعقيدة إبراهيم عليه السلام هـذه هي التي عبّر عنها علماؤنا الأجلاء بقولهم: «لا موالاة إلا بالمعاداة، ولا تصحُّ الموالاةُ إلا بالمعاداة» كما قال تعالى عن إمام الحنفاء المحبين، أنه قال لقومه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ *} [الشعراء :77]، فلم تصحَّ لخليل الله هـذه الموالاةُ والخُلّةُ إلا بتحقيق هـذه المعادلة، فإنّه لا ولاءَ إلا لله، ولا ولاءَ إلا بالبراءِ مِنْ كلِّ معبودٍ سواه، قال تعالى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ *وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجَعُونَ *} [الزخرف :26 ـ 28]، أي جعلَ هـذه الموالاة للهِ، والبراءةَ مِنْ كلِّ معبودٍ سواه، كلمةً باقيةً في عقبه، يتوارثها الأنبياءُ بعضُهم عن بعضٍ، وهي كلمةُ (لا إله إلا الله)، وهي التي ورَّثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة.
وقد كان من نتيجة هـذه المعاداةِ وهـذا البراء القويِّ أَنْ أجمعَ الطغاةُ على قتل إبراهيم ـ كما هو حال كل طاغية على مر عصور التاريخ في إبادة الدعاة إلى الله لا لشيء إلا لأنهم يدعونهم إلى عبادة الله وحده ـ وجمعوا له ناراً عظيمة، فكانت رعايةُ اللهِ وحفظُهُ تحوطان خليله الصادق عليه الصلاة والسلام، فصارت النارُ برداً وسلاماً عليه، قال تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ *فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ *} [الصافات: 97 ـ 98] لقد عدلوا عن الجدال والمناظرة لمّا انقطعوا وغُلِبوا، ولم تبقَ لهم حجةٌ ولا شبهةٌ إلى استعمال قوتهم وسلطانهم لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم، فكادهم الربُّ جلّ جلاله، وأعلى كلمته ودينه وبرهانه، كما قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ *قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ *وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ *}[الأنبياء: 68 ـ 70].
وجاءت التوجيهاتُ الربانيّة لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم باتباع ملّة إبراهيم عليه السلام.
قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [النحل :123] .
وقال تعالى: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [ ال عمران: 95] .
وقال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [البقرة :135] .
وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ *} [ ال عمران: 68] .
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً *} [النساء :125] .
وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج :78] .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] .
فهـذه الأخبار مِنَ اللهِ لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم عَنْ فعلِ إبراهيم عليه السلام من أجلِ الاقتداءِ به في الإخلاص والتوكل على الله وحده، وعبادةِ الله وحدَه، والبراءِ من الشركِ وأهلهِ، ومعاداةِ الباطلِ وحزبه.
والأمثلةُ على أنّ مِنْ لوازمِ (لا إله إلا الله) الولاءَ والبراءَ كثيرةٌ، كقصة نوح عليه السلام مع زوجه، وغيرها من القصص.
لقد جمعت (لا إله إلا الله) صُهيباً الرومي، وبلالاً الحبشي، وسلمانَ الفارسي، وأبا بكر العربي القرشي، وتوارت عصبيةُ القبيلةِ والجنسِ والأرض، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنّها منتنةٌ»، وقال: «ليسَ مِنّا مَنْ دعا إلى عصبيةٍ، وليسَ منّا مَنْ قاتلَ على عصبيةٍ، وليس مِنّا مَنْ ماتَ على عصبيةٍ».
وتبقى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الأخيار رضوان الله عليهم منارَ هدًى وإصلاحٍ لمن سلكَ ذلك السبيل، ورضي بذلك النهجِ القويم.
يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf