الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

إثبات وجود الخالق... دليل الآفاق

د. علي محمد الصلابي

الحلقة: السابعة

شعبان 1441ه/ مارس 2020م


قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *} [فصلت :53] .
فقوله: {سَنُرِيهِمْ آياتنَا فِي الآفَاقِ} أي: علامات وحدانيتنا وقدرتنا، وقوله (في الآفاق) يعني أقطار السماوات والأرض: من الشمس، والقمر، والنجوم، والليل، والنهار، والرياح، والأمطار، والرعد، والبرق، والصواعق، والنبات، وغير ذلك مما فيها من عجائب خلق الله.
وفي حديثِ العلماء عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ما يدلُّ على آيات الله في الافاق، والتي منها:
1 ـ نقص الأوكسجين في الارتفاعات:
قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ *} [الانعام :125] تنصُّ هـذه الاية الكريمة على الإنسان عندما يصّعّد في السماء ـ أي يرتفع في أعالي الجو ـ يضيقُ صدرُهُ، ويشعر بالاختناق، وهـذه حقيقةٌ علميةٌ سببها أنَّ نسبة الأوكسجين تقلُّ كلَّما ارتفعنا إلى أعلى، كما يقلُّ الضغطُ الجويُّ، وهـذان السببان يجعلانِ الإنسانَ يشعر بضيق النفس.
2 ـ حركة النجوم والكواكب في مداراتها:
كان الناسُ يرونَ أنَّ الأرضَ مركزُ الكون، ويدور حولها الشمسُ والقمرُ والنجومُ السيّارة، ويرونَ نجوماً ثابتة طوال السنة، فيصفونها بالثبات، ثم حدث في عصر (غاليلو) رأيٌ يعتِبرُ أنَّ الأرض هي التي تدورُ حولَ الشمس، وأنَّ الشمسَ هي مركزُ الكونِ.
أمّا القرآن الكريمُ فقد رفضَ قبلَ ذلك جميعَ الاراءِ التي تزعمُ أنَّ للكونِ مركزاً ثابتاً، قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ *} [يس :40] وكانَ ذلكَ في عصره سَبْقٌ علميٌّ. وقال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ *} [الواقعة :75 ـ 76] .
فقد وجدَ العلماءُ أنَّ مواقعَ النجومِ ومساراتها ليست اعتباطيةً، فالكوكبُ وُضعَ في مسارٍ بحيثُ لا تؤدّي قوى التجاذبِ الكونيّةِ الكثيرةِ والقوى النابذةِ الناشئةِ عن الدوران إلى اضطرابٍ كوني، ولقد اختِيْرَ له المسارُ الذي يحقّق له التوازنَ بين تلك القوى الكثيرة.
ووجد العلماء أيضاً أنَّ أبعادَ المجموعة الشمسية تتبعُ سلسلةً حسابيةً، وأنّى للعربيِّ الجاهلي الذي كان يرى النجومَ مبعثرةً في صفحةِ السماءِ أن يعرفَ من تِلقاءِ نفسه أنَّ لمواقعِها شأنٌ عظيمٌ.
3 ـ دوران الأرض والجبال:
قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل :88] لقدكان الناس قديماً يرون أنّ الأرضَ وجبالَها ثابتةٌ، بل يضربون المثلَ بثباتها، فجاء القرآن الكريم ليخالفَ ما ألفه الناسُ، واستقرّ في أذهانهم، وتحدَّثَ عن ظاهرةٍ كونية، فقال عن الجبال: إنّها تمرُّ مرَّ السحاب، أي إنَّ الجبال كالسحاب، فكما أنَّ السحابَ لا يتحرّكُ ذاتياً إلا إذا كان هناك شيءٌ يدفعه إلى التحرك، والذي يحرِّكُ السحابَ ويدفعُه هي الرياح، فكذلك الجبالُ لا تتحرَّكُ بنفسِها، لأنها أوتادُ الأرضِ، ولكن تتحرك، وحركتُها تابعةٌ لحركة الأرض، فالأرضُ تتحرّكُ وتدورُ، وإلا فكيفَ تتحرَّكُ الجبالُ، وتمرُّ مرَّ السحاب، وهـذا من صنع الله الذي أتقن كل شيء، حينئذٍ يكون هناك يقينٌ ثابتٌ
4 ـ حاجز بين بحرين مالحين:
قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَان فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ *} [الرحمن :19 ـ 22]. تتحدّثُ الآيات الكريمةُ عن بحرين يتلاقيان، وفي مكان تلاقيهما يوجدُ حاجزٌ، والظاهر أنها تتحدّث عن بحرين حقيقيين مالحين، وليس عن بحرٍ ونهرٍ، لأنّه قال: والمرجان {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ *} وهو الخرز الأحمر ـ لا يخرجُ إلا من المياه المالحة، فالاية الكريمةُ إذاً تتحدَّثُ عن حاجزٍ حقيقي بين بحرين مالحين في مكان تلاقيهما، والبحرانِ يتلاقيانِ في المضايق، لأنه، إن لم يكن هناك مضيقٌ، فليس من مسوِّغٍ لاعتبارهما بحرين، بل يكونان بحراً واحداً، إنَّ هـذا الذي أثبتته الاية الكريمةُ مستغربٌ جداً في عرف الناس، إذ الانطباع السائد أنَّ المياه المتلاقية لا حواجز بينها، وما كان أحد يعرف هـذه الحقيقة، ولا تخطرُ له على بالٍ، إلى أن اكتُشِفَتْ عام 1962 م، وثبت أنّ ما قاله القرآن الكريم حقيقةٌ مدهشَةٌ.
5 ـ اهتزاز الأرض وزيادتها بالمطر:
قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *} [الحج :5] إن العلمَ يؤكّد أنَّ الأرضَ تهتزُّ فعلاً بنزول الغيثِ عليها، فالحبوبُ والبُصَيلاتُ والدّرناتُ والحُوَيصلاتُ والبكترية والجراثيمُ كلُّها تبدأُ بالحركة والانقسامات الخلوية، وامتصاص الماء، وتحليل الغذاء المعقّد إلى وحدات أقل ارتباطاً، وأكثر عدداً، وأكبر حجماً، وبامتلاء مسامِّ الأرضِ بالماء تتحرّك جُزيئات الطينِ، وتبدأُ عمليةُ تأيُّنٍ عجيبةٍ في جُزَيئات التربةِ، وتنشطُ الديدانُ الأرضيّةُ في شَقِّ الأنفاقِ الأرضيةِ، وابتلاع كمياتٍ كبيرةٍ من التربة المتلاصقة، وإخراجها بعدَ ذلك مفككةً، كلُّ هـذه النشاطات تؤدي إلى زيادةِ حجم التربة، ويمكنُنا رؤية صورةٍ مصغّرةٍ لهـذه العمليات بتخمير العجين، وزيادة حجمه، نتيجة نشاط خلايا الخمائر، وفي التربة تحدثُ ضروبٌ كثيرةٌ لمثل هـذا النشاط، مِنْ كلّ ما سبق نجدُ التوافقَ بين ما عرفه العلم وما وصفه القرآن الكريم.
6 ـ أوهن البيوت:
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} [العنكبوت :41] إنَّ قوله سبحانه: وقوله بعد ذلك: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ *} [العنكبوت :43] يشيرانِ إلى أنَّ وَهْنَ بيت العنكبوتِ المتحدَّث عنه وَهْنٌ غيرُ ظاهرٍ ولا معروف لدى عامة الناس، وقد ضُرِبَ هـذا الوهنُ مثلاً لموالاة الكافرين بعضهم لبعض، فماذا وجد العلماءُ عند دراسة العنكبوت؟ وجدوا أنَّ الروابطَ بين أفراد العنكبوت في غاية التفكّك، فالأُنثى كثيراً ما تأكل الذكرَ بعد الإلقاح، وقد تأكلُ أبناءها، والأبناءُ يأكُل بعضُهم بعضاً، فهو بيتٌ متفكّكٌ متداعٍ، وذلك مثلُ موالاةِ الكافرين بعضهم بعضاً.

يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022