في معنى توحيد الربوبية
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: التاسعة
شعبان 1441ه/ أبريل 2020م
1 ـ معنى توحيد الربوبية:
معنى توحيدُ الربوبية هو الاعتقادُ الجازِمُ بأنّ اللهَ جلَّ جلاله ربُّ كلِّ شيءٍ ومالكُه وخالقُه، ومدبِّرُ أمرِه ورازقُه، وأنّه وحدَه الذي ينفعُ ويضرُّ، ويحيي ويميت، وأنّه سبحانه وحدَه المتصرِّفُ بهـذا الكون، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانعَ لما أعطى، ولا معطيَ لما منعَ، بيده الخير، وإليه ترجع الأمور، وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
2 ـ توحيد الألوهية من لوازم توحيد الربوبية:
توحيد الربوبية لا يكفي وحده في حصولِ الإسلام، بل لا بدَّ أن يأتيَ العبدُ مع ذلك بلازمه من توحيد العبادة، لأنّ الله تعالى حكى عن المشركين أنّهم مقرّون بتوحيد الربوبية لله وحده، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ *} [الزمر :38] وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُون قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُون بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [المؤمنون :84 ـ 92] وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ *}[يوسف: 106] وغير ذلك من الآيات في القرآن الكريم، مما يدلُّ على اعتراف الكفّار بخالقهم، وإقرارهم به، وإنّما عبدوا من دون الله ما عبدوا ليجعلوهم وسائط وشفعاء بينهم وبين الله، ومع ذلك يتخلَّون عنهم إذا نزلت بهم الشدائد، ووقت الاضطرار، وهـذا الإقرار لم يغنِ عنهم شيئاً، ولم ينتفعوا به، إذ لم يصبحوا به مسلمين، ولم يَعْصِمْ أموالهم، ولا دماؤهم، ولا أعراضهم، لأنَّهم أنكروا توحيد الألوهية (توحيد العبادة)، وأشركوا بربهم، ولم يلتزموا بلازمٍ ما أقرّوا به، إذ إنَّ توحيد الربوبية يلزم منه توحيد الألوهية. وهو إفراد اللهِ عزّ وجلّ بجميع أنواع العبادات.
إنَّ المؤمنَ يشعرُ بطمأنينةٍ كبيرةٍ وهو يتأمَّلُ في ملكوتِ الله تبارك وتعالى، فيرى عظمةَ اللهِ في خلقه، وحكمتَه البالغةَ في تدبيره {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [الملك :22] .
والحديثُ عن عظمةِ الله يملأُ القلبَ سكينةً، والتدبّرُ في ملكوته يملؤه إيماناً، فَحَقَّ للشاعِرِ أن يتساءل بعد جولةِ تأمُّلٍ في مخلوقاتِ الله سبحانه، فيقول (من الكامل):
قُلْ للوليدِ بكى وأجْهَشَ بالبكا ء لدى الولادةِ ما الذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبانَ يَنْفُثُ سُمَّه فاسألْه مَنْ ذا بالسُّمومِ حَشَاكا
واسألْه كيفَ تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهـذا السُّمُّ يملأُ فاكا
واسألْ بطونَ النَّحْلِ كيف تَقَاطَرَتْ شَهْداً، وقُلْ للشهدِ مَنْ حَلاَّكا
بل سائلِ اللَّبنَ المُصَفَّى كا نَ بَيْنَ دمٍ وَفَرْثِ ما الّذي صَفَّاكا
واسألْ شُعاعَ الشَّمْسِ يدنو وهي أبـ عدُ كلِّ شيْءٍ ما الَّذي أدناكا
يا أيُّها الإنسانُ مهلاً ما الذي باللهِ جلَّ جلالُه أغراكا؟
إن التأمُّل في خلق الله عز وجل وملكوته يقودُ إلى رسوخ الإيمان بالله سبحانه، ولهـذا قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيات لأُِولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *}[ال عمران: 190 ـ 191] فتأمَّلْ وسبحْ وتعبّدْ لمن خلقَك وذرأك وإليه المصير.
إنَّ من أبـرز صفاتِ الله عزّ وجلّ الـدّالـةِ على ربوبيتـه صفـة الخلق، وما تميّزتْ به من إتقانٍ، وبديعِ صُنعٍ، لا يكونُ إلاَّ من ربِّ العالمين، فاللهُ عزَّ وجلَّ هو الذي خلقَ المخلوقاتِ، ومن عظيم إتقانه أنْ سنَّ لها قوانين وسنناً ثابتةً، منها العام، ومنها الخاص، عليها مدارُ انضباطها، وهـذه السنن لا يمكنُ إضافتها لغير الله سبحانه وتعالى، لأنَّه هو المتفرّدُ بالربوبية وحدَه لا شريكَ له.
3 ـ السنن العامة:
فالسنن العامة تخضَعُ لها جميعُ الكائناتِ في وجودِها المادي، وما يمرُّ بها مِنْ حوادثَ مادية، كنموِّ الإنسان، وحركتِهِ، ومرضِهِ، وما شابه ذلك، وما تقعُ مِنْ حوادثَ كونية، كنزول المطر، وتعاقبِ الليل والنهارِ وغيرها من متعلّقات الوجود المادي لمخلوقات الله عز وجل.
ولقد وجّه الأنبياءُ والرسلُ أقوامَهم إلى المشاهدةِ والنظرِ، والتأمّل والتفكّر: في مثل هـذه السنن التي تتضمّن دلالاتٍ كبيرةٍ على عظمةِ الخالق، وحُسن تدبيره، وبديع خلقه لأمره، وتدبيره عز وجل، وفق سننه ونظامه وقوانينه، التي وضعها بقدرته وحده لا شريك له، ومن ذلك قول نوح عليه السلام لقومه، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا *وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا *وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا *ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا *وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا *لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا *} [نوح :15 ـ 20] .
4 ـ السنن الخاصة:
وأما السنن الخاصة، فهي تتعلّق بخضوع البشر لها باعتبارهم أفراداً وأمماً وجماعات خضوعاً يتعلّق بتصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، وما يكونون عليه من أحوالٍ، وما يترتّب على ذلك من نتائج كالسعادة والشقاء، والعزّ والذل، والقوّة والضعف، والنصر والهزيمة، ونحوِ ذلك من الأمور الاجتماعية في الدنيا، وما يترتّب عليها من جزاءٍ في الآخرة، سواء كان عذاباً أو نعيماً، ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *} [الاعراف :128] أي الخاتمة المحمودةُ، أو النهاية في الدنيا والآخرة لمن أتقى، وكذلك ما ورد في القرآن الكريم حول غزوة أحد مثل قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} [ ال عمران: 160] .
5 ـ سمات السنن الإلهية:
من سماتِ هـذه السنن بنوعيها: الثباتِ والاطرادِ والعمومِ، قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً *} [الاحزاب :62]، أي لن تجدَ لها تحويلاً وتغييراً، بل هي ثابتةٌ دائمةٌ، فما من نبيٍّ إلا أرشدَ قومه إلى هـذه السنن، بُغيةَ توحيدِ الخالق، وخاصّةً النوع الثاني منها، التي تتعلّق بالأحوال الاجتماعية، ففي الاعتبار والاتعاظ بها تتحقّق الاستقامة المطلوبةُ في سلوكِ البشر، وتتحقق الضوابطُ المرجوّة في سبيل تحقيق العبودية الخالصة لله عزّ وجلّ، لذا كان من أهداف إيراد القصص في القرآن الكريم الاتعاظُ بما جاء فيها من ذكر لهـذه السنن، كسنّة الأخذ بالأسباب، وسنّة التدافع، وسنّة في نصر المؤمنين، وسنّة الله في الفتنة والابتلاء، وسنة الله في الظلم والطغيانوغيرها.
6 ـ توحيد الربوبية أعظم برهان على توحيد الألوهية:
إنّ توحيدَ الربوبيةِ هو أعظمُ برهانٍ ودليلٍ على توحيدِ الألوهية، وهو بالنسبة له كالمقدّمة بالنسبة للنتيجة، فمن اعتقدَ أنّ لهـذا الكونِ العظيم الواسعِ خالقاً، ومدبراً، وقاهراً، ومتصرفاً فيه، يفعلُ ما يشاء، وله القدرةُ الكاملُة على تبديله وتغييره، وأنّه الرازقُ لجميع المخلوقاتِ بيدِه النفعُ والضرُّ، ويمنع ويعطي، ويميـت ويحيـي، وينجّي عند الشدائد والكربات، ويجيبُ المضطر عند اضطراره، من اعتقدَ ذلك صِدْقاً تولّدَ في قلبه حُبُّ ذلك الخالق العظيم.
وهـذه المحبةُ لابدَّ أن تثمِرَ خضوعاً وانكسِاراً وتذللاً، وانقياداً وطاعةً وعبوديةً ورِقاً لمالك هـذا الكون.
وكثيراً ما يذكِّرُ الله سبحانه في كتابه الناسَ جميعَهم بأنّه هو المنعم عليهم، والمتفضل عليهم بالخلق والرزق وجميع النعم، فيرشدهم بذلك لعبادته وحده لا شريك له، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *} [فاطر:3] .
يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf