الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

أثر الإيمان بالملائكة في حياة الإنسان

الحلقة: الثامنة عشر (الأخيرة)

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1441 ه/ يونيو 2020

للإيمانِ بالملائكة أثرٌ في حياة المسلم يتمثّل فيما يلي:
1 ـ إن الإيمان بالملائكة يقوي الشعور لدى المسلم بعظمة الله عز وجل فالملائكةُ كما اتضح من صفاتهم ووظائفهم خلقٌ عظيمٌ في القدرةِ عظيمٌ في السرعةِ عظيمٌ في الطاعةِ وهذه العظمةُ تعكِسُ عظمةَ الباري سبحانه فهو الله الواحد الأحد بديعُ السماوات والأرض ولا يعدو الملائكة أن يكونوا جنداً من جنود لتنفيذ أمره وعبادةً له سبحانه.
والمقصود أنّ العلم بهذه المخلوقات العظيمة ـ وهي ملائكة الرحمن عليهم السلام ـ والتدبر في صفاتهم التي أخبرنا الله بها في القران وثبتت في السنة يجعل القلبَ مضطراً إلى تعظيم خالقه وهيبته وخوفه ورجائه فإنَّ خالق هذه المخلوقات العظيمة ولا شكَّ يستحقُّ أن يُعْبدَ وحدَه سبحانه وتعالى وأن يُتّقى بأن يذكر فلا ينسى ويطاع فلا يعصى. قال تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ *} الحج: 74 ـ 76 وقال تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْركُونَ *} [الزمر 67[.
وقد احتجّ العلماءُ بأحوالِ الملائكةِ مع الله عز وجل على وجوب إفرادِ الله سبحانه وتعالى بالعبادةِ وتعظيمه قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَال ربُكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ *} سبأ: 23.
وهذه الايةُ قيل: إنّها تَقْطَعُ عروقَ شَجْرِ الشِّرْكِ وهذه الاية تبِّينُ حالَ الملائكةِ الذين هم أقوى وأعظم من عُبِدَ من دون الله فإذا كان هذا حالُهم مع الله تعالى وهيبتهم منه وخشيتهم له فكيف يدعوهم أحدٌ من دون الله وإذا كانوا لا يُدْعَوْنَ مع الله لا استقلالاً ولا واسطةً فغيرُهم ممّن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يدعى ولا يعبد ففيه الردُّ على المشركين جميعاً الذين يدعون مع الله مَنْ لا يداني الملائكة ولا يساويهم في صفة من صفاتهم.
2 ـ تحقيق الإيمان:
قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ *} البقرة: 285.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمانُ أن تؤمنَ باللهِ وملائكتهِ وكتبه ورسله واليوم الاخر وتؤمن بالقدر خيره وشره».
فمن امنَ بالملائكةِ فقد حقّق ركناً واجباً من أركان الإيمان ويلزمه أن يأتيَ ببقية الأركان والكفر بهم ولا شك كفر باللهِ يوجِبُ زوالَ بقية الأركان كما قال تعالى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا *} النساء: 136.
3 ـ معرفة الكثير من أسرار الكون والخلق مما يزيد الإيمان في قلب المؤمن:
يتعرّفُ الإنسان على كثيرٍ من أسرار الكون إذا تدبر الايات التي ذكر الله فيها الملائكة وما وكلوا به من أعمال فينشرح صدره ويزداد إيمانه فإذا رأى السحابَ عرف أنّ له ملائكة تسوقه وهذه الجبال لها ملائكة تتولاها كذلك والنطفة في الرحم والميت في قبره ستأتيه ملائكة ويوم القيامة سيرى الملائكة فيحبُّ الملائكة ويزداد لله خشية وتعظيماً، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيْضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ *وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ *} فاطر: 27-28.
4 ـ الحصول على الأمن والطمأنينة
فالأمنُ في الدنيا والطمأنينةُ والحياةُ الطيبة في الدنيا والاخرة متوقّفةٌ على تحقيق الإيمان ومن ذلك الإيمان بالملائكة عليهم السلام قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *} الانعام: 82. وقال تعالى {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى *وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى *قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا *قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى *} [طه 123 ـ 126[.
وهناك أمن اخر وطمأنينة حسية في الدنيا تحصل لمن حقق الإيمان بالملائكـة وذلك أنّ الإنسـانَ إذا عرف أنّ الله تعالى قـد وكّل بـه ملائكـةً يحفظونه من أمر الله وبأمر الله ويحفظونه من أعدائـه أطمأنّت نفسُه وسكن قلبه وعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنّه إنْ ذكرَ الله ببعض الأذكـارِ المشروعة كأية الكرسي وقـل هو الله أحد والمعوذتين ونحو ذلك أرسل الله تعالى ملائكةً يحفظونـه من أعدائـه فلا يضرّه جني ولا دواب ولا سحر إذا عرف ذلك ركنَ إلى اللهِ تعالى وتوكّل عليه وابتعدَ عمّا لا ينفعه من الذهاب إلى الكهان والسحرة ونحوهم لأنهم لا يزيدونه إلا خوفاً كمـا قـال تـعـالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا *} الجن، 6.
وأينما كنتَ وأينما توجّهتَ في برٍ أو بحرٍ وأرضٍ أو سماءٍ وليلٍ أو نهارٍ فإنّ معك ملائكة لا يفارقونك أبداً فاحرص على الأذكار المشروعة حتى تحصل على الأمن والطمأنينة ولذلك أرسل الله الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الغزو لتثبيتهم كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ *وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ *إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُل بَنَانٍ *}الأنفال: 9 ـ 12.
5 ـ الإيمان بالملائكة يعكس مركز الإنسان الكبير في الكون:
فالملائكة الذين هم أشدُّ منّا قوةً وأقوى سريرة قد أُمروا بالسجود لآدم عليه السلام وسُخِّروا لتدبير أمور حياتنا في الدنيا والقيام بشؤوننا في الاخرة وفي هذا تنبيهٌ للإنسان الذي جعله الله خليفةً في الأرض أن يعرف قيمته وقدره وأن يتصّرف بناء على ذلك فيسلك الصراط المستقيم ويتجنّب طريق الغواية والضلال.
قال الشاعر:
قد رشحّوك لأمرٍ لو فطنتَ له فاربأْ بنفسِك أنْ ترعى مع الهَمَلِ
6 ـ الإيمان بالملائكة يدفع الإنسان إلى التشبه بهم في الإقدام على الطاعات والابتعاد عن المعاصي:
فحينما يعلم الإنسان أنّ الملائكةَ يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يحمله ذلك التشبه بهم والسير على نهجهم فتقوى بذلك روحه المعنوية ويتدّرجُ في مدارج الكمال وقد نبّه الإمام الغزالي إلى هذا المعنى في بيانه لأسرارِ العبادات ففي بيانه لأسرارِ الصوم قال إنّ المقصودَ به الاقتداء بالملائكة في الكفِّ عن الشهوات بحسب الإمكان فإنّهم منزهون عن الشهوات وكلّما قمعَ الإنسان الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحقَ بأُفق الملائكة والملائكة مقرّبون من الله عز وجل والذي يقتدي بهم ويتشبّه بأخلاقهم يَقْرُبُ من الله عز وجل كقربهم فإنَّ الشبيه من الشبيه قريبُ، وفي بيانه لأسرار الحج يقول واعلم أنكَ بالطوافِ متشبِّهٌ بالملائكة الحافّين حول العرش الطائفين حوله.
7 ـ إن الإيمان بالملائكة يدفع الإنسان إلى الاستحياء من الله تعالى والبعد عن معصيته في السر والعلن:
فإذا امن الإنسانُ بأنّ الملائكة تغشاه في مجالسه وتتولى كتابة أعماله وأنّهم يتعقبونه في صحوه وغفلته وفي سفره وحضره فلن يستسهلَ الإقدام على المعصية أو اقتراف الخطيئة.
8 ـ إن الإيمان بالملائكة يولد لدى المرء الإنس ويبعد عنه اليأس:
فحينما يصاب المؤمنُ بالضيق أو يتعرّض للأذى أو يقابَلُ بالعداء والسخرية من أعداء دينه يجد من الملائكة الأنيسَ والرفيقَ الذي يواسيه ويصبّره ويشجعه على مواصلة السير والثبات على الحق فيقدم مَنْ ثَمَّ على مواجهة الأعداء إذ يعلم أنَّ الله تعالى معه يؤيده بجنود من عنده يكونون عوناً له وناصراً.
9 ـ الانتباه إلى أنّ هذه الحياة الدنيا فانية لا تدوم:
حين يتذكر الإنسان ملك الموت المأمور بقبض الأرواح حين يتوفاها ومن ثَمّ فلا تستحق هذه الحياةُ الدنيا أن ينشغل بها الإنسان عن الاخرة ويكفيه منها المتاع الطيب الحلال الذي أباحه الله.
10 ـ عمل الحساب للأخرة:
حين يتذكر الإنسان ترحيبَ الملائكة بالمؤمنين في الجنة وتعذيبهم للكفار في النار فيجب أن يكون ممن أنعم الله عليهم بجنته ورضوانه ووقاهم عذاب السّموم.

يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب :
الإيمان بالملائكة
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC170.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022