التوعية ركيزة أساسية في الفكر الإصلاحي عند الشيخ الإبراهيمي
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 213
بقلم: د.علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1443 ه/ ديسمبر 2021
كانت التوعية في نظر الشيخ ـ كما هي في نظر جمعية الإصلاح منذ نشأت ـ تقوم على فهم الدين فهماً صحيحاً، بحيث تنشأئ مسلماً سليم العقيدة، صحيح العبادة، مستقيم السلوك، عزيز النفس، قوي الجسم، حر الإرادة، مستنير العقل، محباً للخير، غيوراً على أهله ووطنه ودينه، عالماً بمن هو صديقه ومن هو عدوُّه.
وكان إنشاء هذا الجيل هو قُرَّة عين الشيخ وإخوانه، وكان هو معقد الأمل في تحقيق النصر المنشود على الاستعمار الفرنسي، وما خلَّفه من اثار في الأنفس والعقول والحياة، وكان الاستعمار الفرنسي اللعين يعرف تمام المعرفة أن هذا الجيل هو الخطر الحقيقي على وجوده وبقائه في الجزائر، ولذا كان له بالمرصاد، وكان يعوّق طريقه بكل ما يمكنه، ولكن الإبراهيمي كان ماضياً في سبيله، مستعيناً بربه، مشدود الأزر بإخوانه من العلماء وشعبه الجزائري الأبيّ.
وكانت جولات الشيخ في طول البلاد وعرضها، ودروسه وخطبه ومحاضراته، وأحاديثه الخاصة والعامة، ومقالاته في «البصائر» ؛ كلها تدور حول إيقاظ الوعي الديني الحقيقي، وتنقية الفكر الإسلامي من الخرافات والأباطيل والبدع التي شوَّهت وجه الدين الجميل، وأضافت إليه من الزوائد والشوائب ما كدَّر صفاءه، ولوَّث نقاءه، ومن المحدثات ما عسَّر الدين الذي أراد الله به اليُسر ولم يرد به العُسر، وما جعل فيه من حرج.
وكل عمل من هذا السبيل يهدم لبنة من لبنات الاستعمار المخرِّب، ويضع لبنة من لبنات الجزائر العربية المسلمة جزائر الغد، ويغرس الامال في أنفس الجزائريين بقدر ما يغرس المخاوف في قلوب الفرنسيين.
أ ـ أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:
ويتحدث العلامة الإبراهيمي عن التخريب الهائل الذي مارسته فرنسا في الجزائر منذ احتلالها، فيقول: كانت الجزائر قبل احتلال الفرنسيين لها في سنة 1830م دولة مستقلة غنية، تملك خصائص الدول في ذلك العصر، وأهمُّها العلم بالدين والدنيا، وفيها من الأوقاف الإسلامية الدارَّة على العلم والدين ووجوه البر ما لا يوجد مثله في قُطر إسلامي اخر، ومنذ تغلب عليها الاستعمار الفريد في الخبث، وهو يعمل جاهداً على قتل شخصيَّتها بالقضاء على الدين واللغة العربية، وكان أوَّل عمل قام به هو مصادرة الأوقاف الإسلامية والمعاهد التابعة لها من مساجد ومدارس وزوايا، وتحويلها إلى كنائس وثكنات واصطبلات وميادين ومرافق عامة، ثم أصدرت قانوناً لا نعرف له نظيراً في تاريخ البشرية العاقلة، يقضي باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في وطنها وبين أهلها، يتوقَّف تعليمها على إذن خاص وشروط ثقيلة، وزادت تلك الشروط على الأيام ثقلاً وعنتاً، حتى أصبحت في السنوات الأخيرة لا تطاق، وأصبح معلِّم العربية يقف في قفص الاتهام مع اللصوص والسفاكين، وتجري عليه العقوبات مثلهم بالسجن والتغريم والتعذيب.
ثم دأب الاستعمار «من مائة ونيف وعشرين سنة» على طمس كل أثر للإسلام والعربية، وقطع كل صلة بينهما وبين الشرق، ليتم له مسخ الأمة الجزائرية، وإدماجها في الأمة الفرنسية، ولكن المناعة الطبيعية في هذه الأمة، وتصلّبها في المحافظة على التراث الإسلامي المقدس، وعلى خصائصها الشريفة، دفع عنها ذلك البلاء وأنقذها من ذلك المصير.
ب ـ توعية الشعب وتنويره:
ويشرح الشيخ ما تقوم به جمعية العلماء من تنوير وتوعية للشعب الجزائري، وتحرير عقله ووجدانه وإرادته من الأوهام والضلالات، وشغله بمعالي الأمور عن سفاسفها، ووصله بالحق بدلاً من ركضه وراء الباطل، عن طريق المساجد والأندية وغيرها، فيتحدث عن مبدأ جمعية العلماء وغاياتها فيقول: مبدأ جمعية العلماء يرمي إلى غاية جليلة، فالمبدأ هو العلم، والغاية هي تحرير الشعب الجزائري، والتحرير في نظرها قسمان:
ـ تحرير العقول والأرواح، وتحرير الأبدان والأوطان، والأول أصل للثاني، فإذا لم تتحرَّر العقول والأرواح من الأوهام في الدين وفي الدنيا، كان تحرير الأبدان من العبودية والأوطان من الاحتلال متعذراً أو متعسراً، حتى إذا تمَّ منه شيء اليوم، ضاع غداً، لأنه بناء على غير أساس، والمتوهم ليس له أمل، فلا يرجى منه عمل.
لذلك بدأت جمعية العلماء ـ من أوَّل يوم نشأتها ـ بتحرير العقول والأرواح بالدروس والمحاضرات، حتى بلغت من ذلك أقصى غاية من الجهد وأقصى غاية من النتائج، وأصبح الشعب في جملته صافي الفكر، مستقل العقل، متوهج الشعور، مشرق الروح، فاهماً للحياة، واسع الأمل فيها، عاملاً للحرية والاستقلال، مؤمناً بماضيه، عاملاً على ربط الحاضر بالماضي، ووصله بالوطن العربي الأكبر، متبصراً في وزن رجاله، لا ينطلي عليه غش الغشاشين ولا تدجيل الدجَّالين. ومعلوم أن هذه المعاني لا تدخل النفوس دفعة واحدة، وإنمَّا تكمل بالتدرُّج. والذي وصل إليه الشعب الجزائري من هذا هو نتيجة نيف وعشرين سنة من أعمال جدّية متواصلة، ولكنَّه لا يتم عادة في أقل من خمسين سنة.
ج ـ أعمال جمعية العلماء في التعليم والتوعية:
ويعدِّد الشيخ ما قامت به جمعية العلماء من أعمال مجيدة للشعب فيقول:
ـ زادت الجمعية على هذا العمل العام اخر خاصاً، وهو العمل على تخريج جيل جديد، يتلقى هذه المعاني في الصغر، ويثبتها بالعلم الصحيح، لتحارب الاستعمار بسلاح من نوع سلاحه وهو العلم، فأسَّست في هذين العقدين من السنين نحو مائة وخمسين من المدارس الابتدائية للعربية والدين، وشيَّدتها بمال الأمة وصيرتها ملكاً للأمة، وهي تضم اليوم ما يقرب من خمسين ألف تلميذ من حملة الشهادات الابتدائية من مدارس الجمعية.
ـ بما أن المساجد التي هي تراث الأجداد صادرتها الحكومة الفرنسية وصادرت أوقافها من يوم الاحتلال، فأحالت بعضها كنائس وبعضها مرافق عامة، وهدمت كثيراً منها لتوسيع الشوارع والحدائق، واحتفظت بالباقي لتتخذ منه حبالة تجرّ أشباه الموظفين الدينيين، وما زالت إلى الان هي التي تعيِّن الأئمة والخطباء، والمؤذنين والقومة، ولكنَّها تستخدمهم في الجاسوسية والمخابرات، وتجري عليهم المرتبات من الخزينة العامة، لذلك التفتت الجمعية إلى هذه الناحية الحيوية، وشيَّدت بمال الأمة نحو سبعين مسجداً في أنحاء القطر، لأداء الشعائر وإلقاء الدروس الدينية، والحكومة الفرنسية تنظر إلى هذه المساجد نظرتها إلى الحصون المسلحة.
ـ في الجزائر مئات الالاف من الشبان العرب المسلمين، فاتهم التعليم الديني والعربي، ولا تلقاهم الجمعية في المدارس ولا في المساجد، والاعتناء بهم واجب، فأنشأت لهم الجمعية عشرات من النوادي المنظمة الجذَّابة، تلقي عليهم فيها المحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية، وأدَّت هذه النوادي أكثر ممَّا تؤدِّيه المدارس والمساجد من التربية والتوجيه.
ـ أنشأت الجمعية للعمال الجزائريين في باريس وغيرها من مدن فرنسا عشرات من النوادي، وزوَّدتها بطائفة من الوعاظ والمعلِّمين من رجالها، يتعلَّم فيها أولئك العملة ضروريات دينهم ودنياهم، ويتعلم فيها أبناؤهم اللغة العربية تكلُّماً وكتابة، ويتربَّون على الدين والوطنية، وقد استفحل أمر هذه النوادي واتت ثمراتها قبل الحرب الأخيرة، ثمَّ قضت عليها الحرب، ثم حاولت الجمعية تجديدها بعد الحرب، غير أن التكاليف المالية تضاعف واحدها إلى الالاف، فكان ذلك وحده سبباً للعجز.
ـ أنقذت الجمعية عشرات الالاف من أبناء الجزائر من الأمية بوسائل دبرتها ونجحت فيها نجاحاً عجيباً، وإن هذا العمل من غرر أعمالها، لأن الأمية تشلُّ الشعوب.
د ـ الميدان الداخلي:
كان أمام الشيخ البشير ـ ومن قبله الشيخ ابن باديس ـ ميدانان للكفاح، ميدان الاستعمار الخارجي، وميدان الاستعمار الداخلي، استعمار العقول والنفوس والضمائر بالأوهام والضلالات والبدع، فاختار الشيخان البدء بالميدان الداخلي، فهو أحق وأولى بالاهتمام.
وعلَّل ذلك الشيخ الإبراهيمي فقال: كانت الحكمة لاختيارنا الميدان الأوَّل للهجوم، أنَّ موضوع النزاع ديني، ونحن علماء دين يعترف لنا بالإمامة العلمية حتى الاستعمار وأعوانه، ولا يستطيع الاستعمار أن ينتصر لأوليائه في نزاع ديني انتصاراً سافراً، وإنَّما ينتصر لهم بوسائل أخرى لا تؤثر في هدفنا الذي نرمي إليه، وهو انتزاع الأمة من هؤلاء المستغلين لها باسم الدين، وإنقاذها من جبروتهم، وإننا إذا جرّدناهم من سلطانهم الوهمي، كانت معنا على الاستعمار الخارجي الحقيقي، ومن لم يكن الشعب معه كان مخذولاً في كل ميدان.
بدأنا هذه الحركة بجنب حركة التعليم الديني العربي، وأطلقنا عليها اسمها الحقيقي وهو: «الإصلاح الديني»، وهو اسم يهيج الاستعمار الخارجي في الدرجة الثانية، فكان من تفاوت التهيُّج فسحة، سرنا فيها خطوات إلى النجاح، وكانت أعمالنا تسير في دائرة ضيقة، لأنَّ الاستعداد لظهور جمعية العلماء لم يتمّ إذ ذاك، وكان مبدأ «العمليات» بدروس دينية ومحاضرات.
ورأى المرحوم عبد الحميد بن باديس: أنه لابد من جريدة تظاهر الفكرة، وتخدمها، فأنشأ جريدة «المنتقد»، وهي أول جريدة إصلاحية بالشمال الأفريقي، فكانت أرفع صوت وأفعل وسيلة لنشر الإصلاح الديني، فارتاع لها الاستعمار الفرنسي وعطّلها في مدَّة قريبة بما يملك من قوانين، فأصدر المرحوم جريدة أخرى باسم «الشهاب» كانت أسدّ رماية، وأوسع خطى من سابقتها، وسكت عنها الاستعمار، فنقلها صاحبها من جريدة إلى مجلة، طال عمرها بضع عشرة سنة، ورافقت سنوات الإرهاص لجمعية العلماء، فسجَّلت خطوات الحركة، وكانت لها مواقف رائعة في عدَّة ميادين، فخدمت العلم والدين والسياسة، وتردَّد صداها في المغارب الثلاثة، فتركت في كل قطر أثراً حميداً في النفوس، وفضحت الاستعمار الفرنسي فضائح لا ينسى خزيها.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: