الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

(دور التربية في الإصلاح عند الشيخ الإبراهيمي)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 214

بقلم: د.علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1443 ه/ ديسمبر 2021

وكانت التربية في نظر الشيخ ـ وفي نظر الجمعية ـ هي الوسيلة المُثلى لغرس التعاليم الإسلامية التجديدية، ومعها النزعة العروبية الوطنية في عقول الناشئة وفي قلوبهم، ومقاومة تيار «الفرنسة» الذي يعمل منذ احتل الجزائر على أن يجرِّدها من هويتها الإسلامية والعربية، وذلك بفرض الفرنسية لغة وحيدة في التعليم وإبعاد العربية تماماً عن هذا المجال، وحذف الدين الإسلامي من مجال التربية والتعليم حذفاً تاماً، باعتبار أن الدولة «علمانية» «لائكية»، وأنها لا تعلّم الدين في مدارسها.

فكان المطلوب هنا عملاً مضاداً لما يهدف إليه المستعمر، تقوم التربية فيه على أساس أن الدين هو الأساس، والعربية هي اللسان.

فإذا كان التعليم الفرنسي السائد يقصد إلى فرنسة الجزائريين، فإن التعليم الذي قاده من قبل ابن باديس وقاده من بعده الإبراهيمي يقصد إلىإعادة «أسلمة» الجزائريين و«تعريبهم»، أو إلى إبقاء الإسلام والعروبة عند من بقيا عنده. وكان شعار جمعية العلماء منذ البداية: الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا. ولذلك كان تركيزهم المستمر والدؤوب على ضرورة «التعليم العربي»، الذي يجب أن تتاح له فرصة بجوار «التعليم الفرنسي» السائد والمهيمن على الساحة كلها، وكانت مناهج هذا التعليم وكتبه ولغته ومعلِّموه وإدارته والجو المدرسي العام ؛ كلها تصبُّ في هذا الاتجاه، حتى الأناشيد التي تحفّظ للطلاب تغرس فيهم هذه المعاني، وتنمِّي فيهم هذه المشاعر مثل النشيد المعروف الذي ألَّفه الإمام ابن باديس نفسه ويحفظه الجميع:

شعب الجزائر مسلم

وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله

أو قال مات، فقد كذب

ومن حسن حظ الجزائر: أن الله تعالى وهبها رجلاً مربياً من الطراز الأول، ومنحه من المواهب والملكات ما قاد به كتيبة التربية على بصيرة ووعي بالهدف المنشود، والمنهج المقصود، وأعدَّ له من الرجال الكفاة من يذلِّل بهم الصعاب، ويتخطى بهم العقاب، إنه الإمام ابن باديس الذي كان هدية الله للجزائر، كما يتحدث عنه الإبراهيمي.

يقول الإبراهيمي في إحدى مقالاته أو دراسته عن جمعية العلماء ومؤسسها:

وعبد الحميد بن باديس باني النهضة وإمامها ومدرِّب جيوشها: عالم ديني، ولكنه ليس كعلماء الدين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي في قرونه الأخيرة، جمع الله فيه ما تفرَّق في غيره من علماء الدين في هذا العصر، وأربى عليهم بالبيان الناصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والعقل اللمَّاح، والفهم الغوَّاص على دقائق القران وأسرار التشريع الإسلامي، والاطلاع الواسع على أحوال المسلمين ومناشئ أمراضهم، وطرق علاجها، والرأي السديد في العِلميات والعمليات، من فقه الإسلام وأطوار تاريخه، والإلمام الكافي بمعارف العصر، مع التمييز بين ضارها ونافعها، مع أنَّه لا يحسن لغة من لغاتها غير العربية.

وكان مع التضلع في العلوم الدينية واستقلاله في فهمها، إماماً في العلوم الاجتماعية. يكمل ذلك كله: قلم بليغ شجاع يجاري لسانه في البيان والسحر، فكان من أخطب خطباء العربية وفرسان منابرها، كما كان من أكتب كتّابها، وهو من بيت عريق في المجد والملك والعلم، يتصل نسبه الثابت المحقَّق بالمعز بن باديس، مؤسس الدولة الباديسية الصنهاجية، إلى صنهاجة القبيلة البربرية العظيمة التي حدَّثناكم عن دولها واثارها بالجزائر، والمعز بن باديس ؛ وهو الذي تولى الدولة الصنهاجية بالقيروان بعد والده، ويزعم بعض النسَّابين أنها يمنية وصلت إلى شمال أفريقيا في إحدى الموجات التي رمى بها الشرقُ الغربَ من طريق برزخ السويس في الأولين، كما رماه بالموجه الهلالية في الاخرين.

هذا الرجل النابغة يشهد التاريخ أنَّه واضع أساس النهضة الفكرية في الجزائر، وقد سلك لها المسلك العلمي الحكيم، وهو مسلك التربية والتعليم، وأعانه على ذلك استعداده الفكري وكمال أدواته، فتصدّر للتعليم حوالي سنة 1914م ببلدة قسنطينة التي هي مستقر أسرته من المائة السابعة للهجرة، وعمره إذ ذاك دون الخامسة والعشرين، فجمع عليه عشرات من الشبان المستعدين، فعلّمهم وربَّاهم، وطبعهم على قالبه، ونفخ فيهم من روحه، وبيانه، تطوّعاً واحتساباً، لا يرجو إلا جزاء ربه، ولا يقصد غير نفع وطنه.

وكان ـ رحمه الله ـ يؤثر التربية على التعليم، ويحرص على غرس الفضائل في نفوس تلامذته قبل غرس القواعد الجافة في أدمغتهم، ويدرِّبهم على أن ينهجوا نهجه في العمل للعروبة والإسلام، فما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تخرج على يده وعلى طريقته جيل من الشبان، تتفاوت حظوظهم من العلم النظري، ولكنهم طراز واحد في العمل، وصحَّة التفكير، والانقطاع للجهاد.

وكان من طريقته في التربية: أن يرمي إلى تصحيح الفكر، وصقل العقل، وترقية الروح، وتقوية الخلق، وتسديد الاتجاه في الحياة، وأنه يستخرج من قواعد العلوم التعليمية قواعد للاجتماع، وينتزع منها دروساً في التربية والأخلاق.

وقد استطاع ابن باديس أن يخرج للأمة الجزائرية في الزمن اليسير جيلاً يفهم الحياة ويطلبها عزيزة شريفة، ويتدرَّع إليها بالأخلاق المتينة، وقد كان يدربهم على الأعمال النافعة، كما يدرِّب القائد المخلص جنوده، ويعدّهم لفتح مصر، أو لقاء مصرع، ولتلامذته إلى اليوم سمات بارزة في إتقان الدعوة الإصلاحية التي أعلنتها جمعية العلماء في حياته، وفي صدق الاتجاه، وفي إتقان صناعة التعليم على طريقته، وهم الرعيل الأوَّل في الثورة الفكرية الجارفة التي نقلت الجزائر من حال إلى حال.

وقد كان تعليمه والافاق التي فتحها ذهنه الجبَّار، وأسلوبه في الدروس والمحاضرات ؛ كل ذلك كان ثورة على الأوضاع التعليمية المعروفة في بلادنا، حيث ابتدأ التعليم، وتوسَّط فيه، وفي جامع الزيتونة حيث انتهى، ولم يكن علمه نتيجة دراسته التقليدية في البلدين المحدودة بسنوات معدودة، وكتب مقروءة على نحو ما في الأزهر، وإنما كان علمه نتيجة استعداد قوي، وذكاء خارق، وفهم دقيق، وذهن صيود لشوارد المعاني، غوَّاص إلى نهايتها، كما وصفناه في أول الحديث.

وبعد الشيخ ابن باديس: قاد الإبراهيمي سفينة التربية والتعليم، فكان يعلِّم بنفسه أحياناً، ويوجِّه المعلِّمين، ويؤلف في التربية، حتى أنه صنَّف كتاباً باسم «مرشد المعلمين»، قدَّمه أحد أبناء الجمعية «الأستاذ محمد العُسيري» فقال:

وضع أستاذنا الجليل محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء منذ سنوات برنامجاً حافلاً للتعليم العربي بجميع أنواعه، وضمَّنه أصولاً عظيمة من علم التربية، وقد سألناه منذ عامين: أن يجرِّد لنا فصولاً عملية تتعلق بالسنوات الست الابتدائية ففعل، وسلّمه لنا لنطبعه وننتفع به، وطالعناه فلم نجده كالبرامج المعتادة، وإنما هو «معلم مكتوب». فهو يأخذ بيد المعلِّم ويسير به خطوة بخطوة إلى الغاية لا يضل عنها ولا يجور، وكأنما هو «ملقِّن» من وراء المعلم يملي عليه الكلام ويرشده إلى كيفية العمل، لذلك اثر جماعة من قدماء المعلمين تسميته «مرشد المعلمين» .

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022