الإثنين

1446-06-22

|

2024-12-23

أولاً: إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما: 
كانت الدولة الرومانية إحدى الدولتين المجاورتين للجزيرة العربية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تحتل أجزاء كبيرة من شمال الجزيرة، وكان أمراء تلك المناطق يُعيَّنون من قبل الدولة الرومانية وينصاعون لأوامرها. 

بعث النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم -الدعاة والبعوث إلى تلك المناطق، وأرسل دحية الكلبي -رضي الله عنه- بكتاب إلى هرقل ملك الروم، يدعوه فيه إلى الإسلام، ولكنه عاند وأخذته العزة بالإثم، وكانت خطة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واضحة المعالم لهز هيبة الروم في نفوس العرب، ومن ثم تنطلق جيوش المسلمين لفتح تلك الأراضي، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- في العام السابع للهجرة جيشاً، واشتبك مع نصارى العرب والروم في معركة مؤتة، واستشهد قادة الجيش على التوالي: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وتولى قيادة الجيش بعدهم سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه، فعاد بالجيش إلى المدينة النبوية، وفي العام التاسع للهجرة خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بجيش عظيم إلى الشام ووصل إلى تبوك، ولم يشتبك جيش المسلمين بالروم ولا القبائل العربية، وآثر حكّام المدن الصلح على الجزية، وعاد الجيش إلى المدينة بعدما مكثوا عشرين ليلة بتبوك وفي العام الحادي عشر ندب النبي -صلى الله عليه وسلم -الناس لغزو الروم بالبلقاء وفلسطين، وفيهم كبار المهاجرين والأنصار، وأمّر عليهم أسامة رضي الله عنهم قال الحافظ بن حجر: جاء أنه كان تجهيز جيش أسامة -رضي الله عنه- يوم السبت قبل موت النبي -صلى الله عليه وسلم- بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر، ودعا أسامة -رضي الله عنه- فقال: سرْ إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش، وطعن بعض الناس في إمارة أسامة رضي الله عنه، فردّ عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله! إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإنّ هذا لمن أحبّ الناس إليَّ بعده. ومرض النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد البدء بتجهيز هذا الجيش بيومين، واشتدّ وجعه عليه الصلاة والسلام، فلم يخرج هذا الجيش، وظل معسكراً بالجرف، ورجع إلى المدينة بعد وفاة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وتغيرت الأحوال مع انتقال الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم -إلى رحمة ربه، وصارت كما تصف أم المؤمنين عائشة الصديقة -رضي الله عنها- بقولها: لما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتدت العرب قاطبة، واشرأبت للنفاق! والله قد نزل بي، ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم -كأنهم معزى في حش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة ولما تولى الخلافة الصديق أمر رضي الله عنه رجلاً في اليوم الثالث من مُتَوفّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أن ينادي في الناس: ليُتمَّ بعث أسامة رضي الله عنه، ألا لا يبيتنَّ في المدينة أحد من جند أسامة -رضي الله عنه- إلاّ خرج إلى عسكره بالجرف، ثم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس، إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطيق، إن الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قُبض وليس لأحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة -ضربة سوط فما دونها-. ألا وإن لي شيطاناً يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم، وأنتم تغدون وتروحون في أجل قد غُيّب عنكم علمه، فإنه ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في جهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قوماً نسوا آجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فإيّاكم أن تكونوا مثلهم، الجد الجد، والوحا الوحاء، والنجا النجاء، فإن وراءكم طالباً حثيثاً مرّه سريع. احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلاّ بما تغبطون به الأموات. وقام أيضاً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله لا يقبل من الأعمال إلاّ ما أُريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، فإنما أخلصتم لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكّروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس، وأين هم اليوم، أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب، قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا رميماً، قد تولت عليهم العالات ... وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا ونسي ذكرهم، وصاروا كلا شيء، إلا أن الله -عز وجل- قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدنيا دنيا غيرهم، وبعثنا خلفاً بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن انحدرنا كنا مثلهم، أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ صاروا تراباً، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم، أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصّنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور، ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا). [مريم:98]؟ أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم فردوا على ما قدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقاوة أو السعادة بعد الموت، ألا إن الله لا شريك، له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيراً، ولا يصرف به عنه سوءاً، إلاّ بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مدينون، وأن ما عنده لا يُدرك إلاّ بطاعته. أما آن لأحدكم أن تُحسر عنه النار ولا تبعد عنه الجنة؟! 

وفي هذه الخطبة دروس وعبر منها: 
أ-بيان طبيعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس خليفة عن الله بل عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه بشر غير معصوم لا يطيق مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنبوته ورسالته، ولذلك فهو في سياسته متبع وليس بمبتدع؛ أي أنه على نهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحكم بالعدل والإحسان. 
ب-بيان واجب الأمة في مراقبة الحاكم لتعينه في إحسانه وصلاحه وتقوّمه وتنصحه في غير ذلك، ليظل على الطريق متبعاً غير مبتدع. 
جـ- بيان أن النبي -صلى الله عليه وسلم -عدل بين الأمة فلم يظلم أحداً، ولذلك ليس لأحد عند النبي -صلى الله عليه وسلم- مظلمة صغيرة أو كبيرة، ومعنى هذا أنه سوف يسير على نفس النهج، ينشر العدل ويبتعد عن الظلم، ومن ثم على الأمة أن تعينه على ذلك، وإذا رآه أحد غاضباً فعليه أن يجتنبه حتى لا يؤذي أحداً، فيخالف ما رآه في سياسة الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، والشيطان الذي يعتري الصديق يعتري جميع بني آدم، فإنه ما من أحد إلاّ وقد وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحد إلاّ وقد وكّل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن، قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا إلاّ أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلاّ بخير، وقد جاء في الحديث أيضاً: لما مرّ به بعض الأنصار وهو يتحدث مع صفية ليلاً، فقال: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. ثم قال: إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئاً. إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوماً كالرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا حق. 
د-حرص الصديق على وعظ المسلمين وتذكيرهم بالموت وحال الملوك الذين مضوا، وحثهم على العمل الصالح ليستعدوا للقاء الله -عز وجل- ويستقيموا في حياتهم على منهج الله تعالى، وهنا نلحظ توظيف الصديق لقوة البيان في خطبه وفي حديثه للأمة، وقد كان رضي الله عنه أفصح خطباء النبي صلى الله عليه وسلم. يقول عنه الأستاذ العقاد: أما كلامه فهو من أرجح ما قيل في موازين الخلق والحكمة، وله من مواقع الكلم أمثلة نادرة تدل الواحدة منها على ملكة صاحبها، فيغني القليل منها عن الكثير، كما تغني السنبلة الواحدة عن الجرين الحافل، فحسبك أن تعلم معدن القول من نفسه وفكره حين تسمع كلمة كقوله: (احرص على الموت توهب لك الحياة) أو قوله: أصدق الصدق الأمانة وأكذب الكذب الخيانة. الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، فهي كلمات تتسم بالقصد والسداد، كما تتسم بالبلاغة وحسن التعبير، وتنبئ عن المعدن الذي نجمت منه، فتغني عن علامات التثقيف التي يستكثر منها المستكثرون؛ لأن هذا الفهم الأصيل هو اللباب المقصود من التثقيف، وكانت له رضي الله عنه لباقة في الخطاب إلى جانب البلاغة في الكلام. 

ثانياً: ما تمّ بين الصديق والصحابة في أمر إنفاذ الجيش: 
اقترح بعض الصحابة على الصديق -رضي الله عنه- بأن يبقى الجيش فقالوا: إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب -كما ترى - قد انتفضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين وأرسل أسامة من معسكره من الجرف عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس، وقال: إنّ معي وجوه المسلمين وجلتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمين أن يتخطفهم المشركون. 
ولكن أبا بكر خالف ذلك وأصرّ على أن تستمر الحملة العسكرية في تحركها إلى الشام، مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج، ولم يرتح أسامة وهيئة أركان حربه لإصرار الخليفة على رأيه، وقد بذلوا لدى الخليفة عدة محاولات كي يقنعوه بصواب فكرتهم، وعندما كثر الإلحاح على أبي بكر، دعا عامة المهاجرين والأنصار إلى اجتماع في المجلس لمناقشة هذا الأمر معهم، وفي هذا الاجتماع دار نقاش طويل متشعب، وكان أشد المعارضين لاستمرار حملة الشام عمر بن الخطاب، مبدياً تخوّفه الشديد على الخليفة وحرم رسول الله، وكل المدينة وأهلها من أن تقع في قبضة الأعراب المرتدين المشركين، وعندما أكثر وجوه الصحابة بهذا الصدد على الخليفة وخوّفوه مما ستتعرض له المدينة من أخطار جسام إن هو أصرّ على تحريك جيش أسامة لغزو الروم أمر بفض الاجتماع الأول، بعد أن سمع الصديق لرأيهم واستوضح منهم إن كان لأحدهم ما يقول، وذلك حتى يعطي إخوانه وأهل الرأي كامل الفرصة لبيان رأيهم ثم دعاهم إلى اجتماع عام آخر في المسجد، وفي هذا الاجتماع طلب من الصحابة أن ينسوا فكرة إلغاء مشروع وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بنفسه وأبلغهم أنه سينفذ هذا المشروع حتى لو تسبب تنفيذه في احتلال المدينة من قبل الأعراب المرتدين، فقد وقف خطيباً وخاطب الصحابة قائلاً: والذي نفس أبي بكر بيده! لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته. 
نعم لقد كان أبو بكر مصيباً فيما عزم عليه من بعث أسامة مخالفاً بذلك رأي جميع المسلمين؛ لأن في ذلك أمراً من رسول الله، وقد أثبتت الأيام والأحداث سلامة رأيه وصواب قراره الذي اعتزم تنفيذه. 
وطلبت الأنصار رجلاً أقدم سناً من أسامة يتولى أمر الجيش، وأرسلوا عمر بن الخطاب ليحدث الصديق في ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: فإن الأنصار تطلب رجلاً أقدم سناً من أسامة -رضي الله عنه- فوثب أبو بكر رضي الله عنه، وكان جالساً، وأخذ بلحية عمر رضي الله عنه، وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتأمرني أن أعزله، فخرج عمر رضي الله عنه إلى الناس فقالوا: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت بسببكم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
ثم خرج أبو بكر الصديق -رضي الله عنه -حتى أتاهم، فأشخصهم، وشيعهم، وهو ماش راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر رضي الله عنهم، فقال له أسامة رضي الله عنه: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لتركبن أو لأنزلن. فقال: والله لا تنزل، و والله لا أركب. وما عّلي أن أغبر قدميَّ في سبيل الله. 
ثم قال الصديق -رضي الله عنه- لأسامة رضي الله عنه: إن رأيت تعينني بعمر -رضي الله عنه- فافعل، فأذن له. ثم توجه الصديق -رضي الله عنه- إلى الجيش فقال: يا أيها الناس! قفوا أوصيكم بعشر، فاحفظوها عني: 
لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلاّ لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منه شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فأخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله وأوصى الصديق أسامة -رضي الله عنهما- أن يفعل ما أمر به النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: اصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم. ابدأ ببلاد قضاعة، ثم إيت آبل، ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تعجلنَّ لما خلَّفت عن عهده، ومضى أسامة -رضي الله عنه -بجيشه، وانتهى إلى ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم -من بث الخيول في قبائل قضاعة، والغارة على آبل، فسَلِم وغنم، وكان مسيره ذاهباً وقافلاً أربعين يوماً. 
وقدم بنعي رسول الله على هِرَقل وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبراً واحداً، فقالت الروم: ما بال هؤلاء يموت صاحبهم ثم أغاروا على أرضنا، وقال العرب: لو لم يكن لهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه. 

ثالثاً: أهم الدروس والعبر والفوائد من إنفاذ الصديق جيش أسامة: 
1-الأحوال تتغير وتتبدل والشدائد لا تشغل أهل الإيمان عن أمر الدين: 
ما أشد التحول وأخطره! وما أسرعه كذلك! سبحان الله الذي يقلّب الأحوال كيفما يشاء ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ). [البروج:16]، (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ). [الأنبياء:23]. تأتي وفود العرب مذعنة منقادة، مطيعة، وبهذه الكثرة حتى سمّي العام التاسع عام الوفود، ثم تتقلب الأحوال فيُخشى من أن تأتي القبائل العربية للإغارة على المدينة المنورة عاصمة الإسلام، بل قد جاءت للإغارة للقضاء -على حسب زعمها الباطل - على الإسلام والمسلمين، ولا غرابة في هذا، فإن من سنن الله الثابتة في الأمم أن أيامها لا تبقى ثابتة على حالة، بل تتغير وتتبدل، وقد أخبر بذلك الذي يقلب الأيام ويصرِّفها -عز وجل- بقوله: ( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). [آل عمران:140]. 
قال الرازي في تفسيره: والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس، لا يدوم مسارها ولا مضارها. فيوم يحصل فيه سرور له، والغم لعدوه، ويوم آخر بالعكس من ذلك، ولا يبقى شيء من أحوالها، ولا يستقر أثر من آثارها. 
وجاءت صيغة المضارع (نُدَاوِلُهَا) للدلالة على تجدّد سنة مداولة الأيام من الأمم واستمرارها. وفي هذا قال القاضي أبو السعود: وصيغة المضارع الدالة على التجدّد والاستمرار للإيذان بأن تلك المداولة سنة مسلوكة بين الأمم قاطبة سابقتها ولاحقتها وقد قيل: الأيام دول والحرب سجال. 
وقال الشاعر: 

فيومٌ لنا ويومٌ علينا 
ويومٌ نُساء ويومٌ نُسرّ 
 

فالصديق يعلّم الأمة إذا نزلت بها الشدة وألمّت بها المصيبة أن تصبر، فالنصر مع الصبر، وألاّ تيأس ولا تقنط من رحمة الله (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). [الأعراف:56]. وليتذكر المسلم دائماً أن الشدة مهما عظمت، والمصيبة مهما اشتدت وكبرت فإن من سنن الله الثابتة، ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (.[الانشراح:5-6]. وإن المسلم لأمره عجيب في هذه الدنيا؛ فقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك في قوله: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له". 
ومن الدروس المستفادة من بعث جيش أسامة: أن الشدائد والمصائب مهما عظمت وكبرت لا تشغل أهل الإيمان عن أمر الدين. إن وفاة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم -لم تشغل الصديق عن أمر الدين وأمر ببعث أسامة في ظروف كالحة مظلمة بالنسبة للمسلمين، ولكن ما تعلمه الصديق من رسول الله من الاهتمام بأمر الدين مقدم على كل شيء، وبقي هذا الأمر حتى ارتحل من هذه الدنيا. 

2-المسيرة الدعوية لا ترتبط بأحد، ووجوب اتباع النبي: 
وفي قصة إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة -رضي الله عنهما- نجد أن الصديق -رضي الله عنه- بيّن بقوله وعمله أن مسيرة الدعوة لم ولن تتوقف، حتى بموت سيد الخلق، وإمام الأنبياء وقائد المرسلين -صلى الله عليه وسلم -وأثبت مواصلة العمل الدعوي بالمبادرة إلى تنفيذ هذا الجيش؛ إذ نادى مناديه في اليوم الثالث من وفاة رسول الله بخروج جند أسامة -رضي الله عنه -إلى عسكره بالجرف. وقد كان الصديق -رضي الله عنه- قبل ذلك قد بيّن في خطبته التي ألقاها إثر بيعته عن عزمه على مواصلة بذل الجهود لخدمة هذا الدين، وقد جاء في رواية قوله: فاتقوا الله أيها الناس! واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم، وإنَّ كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه. والله! لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله. إن سيوف الله لمسلولة، ما وضعناها بعد، ولنجاهدنّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبغينّ أحد إلاّ على نفسه. 
ومن الدروس المستفادة من قصة إنفاذ الصديق جيش أسامة -رضي الله عنهما- أنه يجب على المسلمين اتباع أمر النبي -صلى الله عليه وسلم -في السراء والضراء؛ فقد بين الصديق من فعله أنه عاضٌّ على أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم –بالنواجذ، ومنفِّذها مهما كثرت المخاوف وشدّت المخاطر، وقد تجلّى هذا أثناء هذه القصة عدة مرات منها: 
أ-لما طلب المسلمون إيقاف جيش أسامة -رضي الله عنه- نظراً لتغيّر الأحوال وتدهورها أجاب رضي الله عنه بمقولته الخالدة: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته. 
ب-ولمّا استأذنه أسامة -رضي الله عنهما- في الرجوع بجيشه من الجرف إلى المدينة خوفاً على الصديق وأهل المدينة، لم يأذن له، بل أبدى عزمه وتصميمه على تنفيذ قضاء النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم -بقوله: لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أردّ قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدّم رضي الله عنه بموقفه هذا صورة تطبيقية لقول الله عز وجل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا). [الأحزاب:36]. 
جـ- وعندما طُلب منه تعيين رجل أقدم سناً من أسامة -رضي الله عنه -أبدى غضبه الشديد على الفاروق -رضي الله عنه- بسبب جرأته على نقل مثل هذا الاقتراح، وقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يابن الخطاب! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه!!. 
د-وتجلّى اهتمام أبي بكر الصديق -رضي الله عنه -باتباع النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- كذلك في خروجه لتشييع الجيش، ومشيه مع أسامة -رضي الله عنه- الذي كان راكباً. ولقد كان الصديق -رضي الله عنه- في عمله هذا مقتدياً بما فعله سيد الأولين والآخرين رسولنا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه مع معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: لما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى اليمن، فقد روى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: لما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى اليمن، خرج معه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصيه، ومعاذ -رضي الله عنه-راكب، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم -يمشي تحت راحلته. قال الشيخ أحمد البنا تعليقاً على هذا الحديث: وقد فعل ذلك أبو بكر -رضي الله عنه- بأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- مع صغر سنة، فقد عقد له النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته لواء على جيش، ولم يسافر إلاّ بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فشيعه أبو بكر -رضي الله عنه- ماشياً، وأسامة -رضي الله عنه -راكباً، اقتداءً بما فعله النبي بمعاذ رضي الله عنه. 
س- وظهرت عناية أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بالاقتداء بالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أيضاً في قيامه بتوصية الجيش عند توديعهم؛ إذ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصي الجيوش عند توديعهم، ولم يقتصر الصديق على هذا؛ بل إن معظم ما جاء في وصيته لجيش أسامة كان مقتبساً من وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- للجيوش. 
ولم يقف أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في الاقتداء بالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فيما قاله وفعله فحسب؛ بل أمر أمير الجيش أسامة -رضي الله عنه- بتنفيذ أمره، ونهاه عن التقصير فيه فقد قال له رضي الله عنهما: اتبع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم. ابدأ ببلاد قضاعة، ثم إيت آبل، ولا تقصرنَّ شيئاً من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أخرى أنه قال رضي الله عنه: امض يا أسامة للوجه الذي أُمرت به، ثم اغز حيث أمرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم -من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة فإن الله سيكفي ما تركت، وفي رواية عند ابن الأثير: وأوصى أسامة -رضي الله عنه -أن يفعل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
لقد انقاد الصحابة -رضي الله عنهم- لرأي الصديق وشرح الله صدورهم لذلك، وتمسكوا بأمر الرسول الكريم، وبذلوا المستطاع لتحقيقه فنصرهم الله تعالى، ورزقهم الغنائم، وألقى في قلوب الناس هيبتهم، وكفّ عنهم كيد الأعداء وشرهم. 
وقد تحدث توماس آرنولد عن بعث جيش أسامة فقال: بعد وفاة محمد -صلى الله عليه وسلم -أرسل أبو بكر -رضي الله عنه- الجيش الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم -قد عزم على إرساله إلى مشارف الشام، على الرغم من معارضة بعض المسلمين، بسبب الحالة المضطربة في بلاد العرب إذ ذاك، فأسكت احتجاجهم بقوله: أرى قضاءً قضى به رسول الله، ولو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت جيش أسامة -رضي الله عنه -كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم.... ثم قال: وكانت هذه هي أولى تلك السلسلة الرائعة من الحملات التي اجتاح العرب فيها سورية وفارس وإفريقية الشمالية، فقوضوا دولة فارس القديمة، وجرّدوا الإمبراطورية الرومانية من أجمل ولاياتها. 
وهكذا نرى أن الله تعالى قد ربط نصر الأمة وعزها باتباع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فمن أطاعه فله النصر والتمكين، ومن عصاه فله الذل والهوان، فسرّ حياة الأمة في طاعتها لربها واقتدائها بسنّة نبيها صلى الله عليه وسلم. 

3- حدوث الخلاف بين المؤمنين ورده إلى الكتاب والسنّة: 
ومما نستفيد من هذه القصة أنه قد يحدث الخلاف بين المؤمنين الصادقين حول بعض الأمور، فقد اختلفت الآراء حول تنفيذ جيش أسامة -رضي الله عنه- في تلك الظروف الصعبة، وقد تعددت الأقوال حول إمارته ولم يجرهم الخلاف في الرأي إلى التباغض والتشاجر، والتدابر، والتقاطع، والتقاتل، ولم يصر أحد على رأي بعد وضوح فساده وبطلانه، وعندما ردّ الصديق الخلاف إلى ما ثبت من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم - ببعث أسامة وبيّن رضي الله عنه أنه ما كان ليفرّط فيما أمر به رسول -صلى الله عليه وسلم -مهما تغيّرت الأحوال وتبدلت، واستجاب بقية الصحابة لحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما وضحه لهم الصديق، كما أنه لا عبرة لرأي الأغلبية إذا كان مخالفاً للنص، فقد رأى عامة الصحابة حبس جيش أسامة وقالوا للصديق: إن العرب قد انتقصت عليك وإنك لا تضع بتفريق الناس شيئاً، فأولئك الناس لم يكونوا كعامة الناس، بل كانوا من الصحابة الذين هم خير البشر وجدوا على الأرض بعد الأنبياء والرسل عليه السلام، لكن الصديق -رضي الله عنه- لم يستجب لهم، مبيناً أن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجل وأكرم، وأوجب وألزم من رأيهم كلهم، وقد تجلت هذه الحقيقة في حادثة وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ رأى عامة الصحابة رضي الله عنهم وفيهم عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمت ورأى عدد قليل من الصحابة -رضي الله عنهم- أنه صلى الله عليه وسلم قد مات، منهم أبو بكر رضي الله عنه، وقد رأينا أن أبا بكر تمسك بالنص وبين خطأ من قال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يمت. 
قال الحافظ بن حجر: تعليقاً على رأي الأكثرية حول وفاته صلى الله عليه وسلم: فيُؤخذ منه أن الأقل عدداً في الاجتهاد قد يصيب ويخطئ الأكثرية، فلا يتعين الترجيح بالأكثر، فخلاصة الكلام أن مما نستفيده من قصة تنفيذ الصديق جيش أسامة -رضي الله عنهما- أن تأييد الكثرة لرأي ليس دليلاً على إصابته، ومما يُستفاد من هذه القصة انقياد المؤمنين وخضوعهم للحق إذا اتضح لهم، فعندما ذكّرهم الصديق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمر بتنفيذ جيش أسامة، وهو الذي عين أسامة أميراً على الجيش، انقاد أولئك الأبرار للأمر النبوي الكريم.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022