ثالثاً: البيعة العامة:
1 - الاجتماع بالمسجد النبوي:
بعد أن تمت بيعة أبي بكر رضي الله عنه البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة، كان لعمر رضي الله عنه في اليوم التالي موقفاً في تأييد أبي بكر حينما اجتمع المسلمون للبيعة[1] العامة: قال أنس بن مالك: لمّا بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهداً عهده إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا - يقول يكون آخرنا - وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله صلى الله عليه وسلم فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه»، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة. فتكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال: «أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أُرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله»[2].
وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة[3].
وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها، وقد قرر الصّدِّيق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، وركّز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد[4]، ومن خلال الخطبة والأحداث التي تمت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن للباحث أن يستنبط بعض ملامح نظام الحكم في بداية عهد الحكم الرشيد والتي من أهمها:
2 - مفهوم البيعة:
عرّف العلماء البيعة بتعريفات عدة، منها تعريف ابن خلدون: العهد على الطاعة لولي الأمر [5]، وعرفها بعضهم بقوله: البيعة على التعاقد على الإسلام[6]، وعرفت كذلك بأنها أخذ العهد والميثاق والمعاقدة على إحياء ما أحياه الكتاب والسنة، وإقامة ما أقامه وكان المسلمون إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده، تأكيداً للعهد والولاء، فأشبه ذلك الفعل البائع والمشتري، فسمي هذا الفعل بيعة، ونتعلم بأن مبايعة الأمة للصّدِّيق بأن الحاكم في الدولة الإسلامية إذا وصل إلى الحكم عن طريق أهل الحل والعقد وبايعته الأمة بعد أن توفرت فيه الشروط المعتبرة، فيجب على المسلمين جميعاً مبايعته والاجتماع عليه، ونصرته على من يخرج عليه، حفظاً على وحدة الأمة وتماسك بنيانها أمام الأعداء في داخل الدولة الإسلامية وخارجها[7].
قال صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»[8]، فهذا الحديث فيه حث على وجوب إعطاء البيعة والتوعد على تركها، فمن مات ولم يبايع عاش على الضلال ومات على الضلال[9].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه، ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»[10]، فالشارع الحكيم قد رتّب القتل وأمر به، نتيجة الخروج على الإمام مما يدل على حرمة هذا الفعل، لأنه يطالب بيعة أخرى، بالبيعة الأولى التي هي فرض على المسلمين[11].
والذي يأخذ البيعة في حاضرة الدولة هو الرئيس، وأما في الأقاليم فقد يأخذها الرئيس وقد يأخذها نوابه، كما حدث في بيعة الصّدِّيق رضي الله عنه، فأهل مكة والطائف أخذها نواب الخليفة.
والذين تجب بيعتهم للإمام هم أهل الحل والعقد، وأهل الاختيار من علماء الأمة وقادتها، وأهل الشورى وأمراء الأمصار، وأما سائر الناس، وعامتهم فيكفيهم دخولهم تحت بيعة هؤلاء، ولا يمنع العامة من البيعة بعد بيعة أهل الحل والعقد[12]، وهناك من العلماء من قال لابد من البيعة العامة، لأن الصّدِّيق، لم يباشر مهامه كرئيس للمسلمين إلا بعد البيعة العامة له من المسلمين[13].
والبيعة بهذا المعنى الخاص الذي تمّ للصديق لا تعطى إلا لرئيس الدولة، لما يترتب على هذه البيعة من أحكام.
خلاصة القول: إن البيعة بمعناها الخاص هو إعطاء الولاء والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين الطرفين، الإمام من جهة وهو الطرف الأول، والأمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني، فالإمام يبايع على الحكم بالكتاب والسنة، والخضوع التام للشريعة الإسلامية عقيدة وشريعة ونظام حياة، والأمة تبايع على الخضوع والسمع والطاعة للرئيس في حدود الشريعة.
فالبيعة خصِّيصة من خصائص نظام الحكم في الإسلام تفرد به عن غيره من النظم الأخرى في القديم والحديث، ومفهومه أن الحاكم والأمة كليهما مقيد بما جاء به الإسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحداهما سواء كان الحاكم أو الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد الخروج على أحكام الشريعة، أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسنة، أو القواعد العامة في الشريعة، ويعد فعل مثل ذلك خروجاً على الإسلام، بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة الإسلامية، بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم ينفي عنهم صفة الإيمان[14].
قال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
فهذا مفهوم البيعة من خلال عصر أبي بكر الصّدِّيق[15].
• والبيعة عقد لا يحتمل الإكراه.
• ويحتمل الشروط المسبقة.
• ولا إمامة إلا بعد عقد البيعة.
• وأنه لا عقد بيعة إلا برضا الأمة واختيارها:
• ولا رضا بلا شورى بين المسلمين في أمر الإمامة وشؤون الأمة.
• وأنه لا شورى بلا حرية.
• وأنه السيادة والطاعة المطلقة لله ورسوله[16].
3 - نظرية العقد الاجتماعي:
بنظرة متأملة في نشأة الديمقراطية الغربية المعاصرة نجد أن أساسها نظرية العقد الاجتماعي التي صاغها جون جاك روسو لتكون بمثابة أصل تنطلق منه الديمقراطية التي أراد الغرب أن يتخذها منهجاً لسياسته وحكمه، وبأدنى نظرة في هذه النظرية على وجه الإجمال نجد أنها لا تبتعد عن فكرة البيعة في الإسلام، بل يبدو بوضوح أنها مستقاة منها ولا يبعد ذلك، لأن أوروبا دخلها العلم قديماً - في أيام صراعها في القرون الوسطى مع البابا ورجال الإقطاع عن طريق العرب والمسلمين في الأندلس - التي بلغت في العلم والتطور شأواً بعيداً، إذ قد أنشئت مدرسة طليطلة للترجمة سنة 1130م وقامت بترجمة أشهر مؤلفات العرب وكتب اليونان التي كان المسلمون ترجموها إلى لغاتهم.
فما البيعة في الإسلام إلا تعاقد بين الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد وبين المرشح للخلافة "رياسة الدولة" ينبني عليه من كلا الطرفين التزام للآخر ويعطيه حقاً عليه.
وللفرد في الأمة صفتان:
صفة شخصية باعتباره مواطناً له حق الحماية وعليه السمع والطاعة، وصفة اجتماعية باعتباره عضواً في الأمة.
والشريعة الإسلامية طبقاً لقواعد نظرية العقد فيها تسمح بانعقاد العقد بإرادة المنفرد بالصفتين، يحلُّ التعاقد بكل منهما طرفاً في التعاقد، ويترتب على التعاقد كل الآثار، وهذه الصفة التي دخل بها الإنسان في الجماعة وإن فقد فيها الكثير من حريته غير المحدودة، إلا أنه كسب فيها حريته المدنية واحترام ملكيته، وأحل العدالة محل الغريزة في سلوكه، وأضفى على تصرفاته أساساً أخلاقياً، وأي اعتداء على الفرد يعتبر اعتداء على الجماعة كلها لأنها جسد واحد. وهذه الصورة الكريمة الوضاءة التي افترضها "جون جاك روسو" صاحب صياغة نظرية العقد الاجتماعي في قوله: "وبمجرد أن تتَّحد جماعة في جسد سياسي فإن أي اعتداء على أي فرد فيها يعتبر اعتداء على الجسد" لا أثر لها إلا في مجتمعات الرسالات السماوية التي تقوم على أساس من الطهر والعفاف ويقظة الضمير في خشية الله، ولذا فقد كانت هذه الصورة واضحة في صدر الإسلام وقد صورها الرسول صلى الله عليه وسلم وقررها في قوله فيما صح عنه فيما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[17]، وحديث: «مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»[18].
أ - رأي عبد الرازق السنهوري في عقد الإمامة:
يرى القانوني المصري الشهير السنهوري في أطروحته التي قدّمها في العشرينيات في باريس عام 1926م أن عقد الإمامة: عقد حقيقي مستوفٍ بشرائطه من وجهة النظر القانونية، وإن الغاية منه أن يكون هو المصدر الذي يستمد منه الإمام سلطته. إنه تعاقد بينه وبين الأمة مبنى على الرضاء، وهو عقد حقيقي، غايته تولية الخليفة السلطة العليا، إنه عقد بين الخليفة والأمة وذلك يعني أن سلطة الخليفة مستمدة من الأمة وأن المسلمين قد سبقوا بقرون عديدة إلى نظرية التعاقد وما يلحقها من نظرية سيادة الأمة[19].
ب - أما ضياء الدين الريس، فيرى أن نظرية التعاقد لدى المسلمين تبقى متفوقة عن مثيلتها لدى روسو، ذلك أن العقد الذي تحدث عنه روسو كان مجرد افتراض، لأنه بناه على حالة تخيلها في عصور ماضية سحيقة لا يوجد عليها برهان تاريخي، بينما نظرية العقد الإسلامية تستند إلى واقع تاريخي ثابت هو تجربة الأمة من خلال العصر الذهبي للإسلام[20].
هذا ما يؤكد إجماع المسلمين على الجانب السياسي الاجتماعي من أن الموجب لعقد الإمامة أو طريق ثبوتها هو اختيار الأمة، ويلخص ذلك قولهم أن الإمامة عقد، وإن البيعة صفة، أو رمز ذلك التعاقد بين الإمام والأمة، ويؤصّل بعضهم هذا التعاقد في بيعة العقبة الثانية، فقد كانت بيعة سياسية وضرباً من الحلف العسكري من أجل إقامة نظام سياسي، نظام دولة ذات سيادة[21].
ج - الواضح في الخطبة الأولى لأبي بكر: أن المسلمين هم الذين ولَّوه، وأن طاعتهم له مشروطة بالتزامه الخضوع للشريعة، وأنهم هم الرقباء عليه والمسؤولون عن تقويمه إذا اعوج [22].
ولقد ردَّد الخلفاء الراشدون بعده هذه المفاهيم، نفسها، وتلقوا البيعة العامة من عامة الناس في المسجد وما اعتبروا أن لسلطانهم مصدراً آخر غير الخضوع للشريعة ورضا الناس عنهم، وأنهم رغم ما حصل من انقلاب في صلب الحكم الإسلامي، فقد ظلت المشروعية واضحة لدى عامة المسلمين فضلاً عن خاصتهم بأنها إنما تستمد من الخضوع للدستور "للشريعة" من الشورى "البيعة العامة". ولذلك حافظ ملوك الاستبداد على صورة الخلافة بعد أن كادت حقيقتها تضمحل، ومن تلك الشكليات البيعة الصورية، تأكيداً وشكلياً لمعنى سياسي عقائدي استقر في ضمير الأمة، وهو أن الإمام إنما يستمد مشروعية حكمه من رضا الناس وتمثيل إرادتهم عن طريق مبايعة جماعة أهل الحل والعقد له[23].
الخلاصة: أن الإمامة عقد بين الأمة والحاكم، يلتزم فيها الحاكم إنفاذ الشريعة والنصح للأمة ومشاورتها، وتلتزم له، إن هو وفي بذلك السمع والطاعة، وينتج من ذلك، أن الأمة هي مصدر كل سلطاته وأن لها عليه السيادة، كل ذلك في إطار الدستور "الشريعة"[24].
4 - الفروق الأساسية بين العقد الاجتماعي والبيعة في الإسلام:
من هذه الفروق:
أ - إن فكرة العقد الاجتماعي تقوم في الحقيقة على الخيال، فالعقد فيها مفترض غير واقعي من حيث أنه لم يكتمل مفهومه السياسي إلا إذا افترضنا أن جميع الشعب وكافة طوائفه مشتركة فيه وهذا ما لم يحصل قط.
بينما عقد البيعة على الإمامة في الإسلام واقعي فقد كانت تتم البيعة فعلاً، فبمبايعة أفراد الشعب للإمام أمر واقعي وليس أمراً مفترضاً في الخيال، من حيث أن البيعة تتم من خلال أهل الحل والعقد أولا تتابعهم العامة على ما عقدوا عليه.
ب - نظرية العقد الاجتماعي تعطي الحاكم سلطة تحديد مدى ما يتنازل عنه الأفراد من الحريات ومدى ما يتحملونه من التزامات وقيود مما قد يؤدي إلى الاستبداد، بينما الرئيس في الإسلام ليست له سلطة تحديد ما للأفراد من حريات وحقوق لأن ذلك أمراً تنظمه النصوص من الكتاب والسنة وقواعد الإسلام العامة.
ج - إن التعاقد السياسي المفترض في نظرية العقد الاجتماعي ما هو إلا اتفاق بين الفرد والجماعة على انضمام الفرد للجماعة، فهو أمر شخصي مقصود به دخوله في الجماعة فالمصلحة فيه فردية ولم يكن وسيلة لإبداء رأي الأمة في شأن عام من شؤونها.
بينما البيعة وسيلة للتعبير عن رأي الأمة وإن لم يشارك في التعبير كل الأفراد وإنما ممثلون عنهم[25].
5 - كيفية اختيار رئيس الدولة:
أ - حقائق لابد من ذكرها:
قبل الحديث عن اختيار رئيس الدولة لابد من ذكر الحقائق الثلاثة التالية:
الحقيقة الأولى:
إن الشريعة الإسلامية توجب على المسلم أن يكون مواطناً في دولة الإسلام، وتحت إمرة رئيس تلك الدولة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»[26].
أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم ولقد كانت سيرة الصحابة رضوان الله عليهم تطبيقاً حياً لهذا النص وأمثاله.. ولهذا رأيناهم انصرفوا على تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أسلم الروح إلى الرفيق الأعلى، إلى سقيفة بني ساعدة لاختيار - الخليفة الأول - حتى إذا تمت البيعة للصديق رضي الله عنه أقبلوا على جهاز المصطفى صلى الله عليه وسلم وما حملهم على ذلك إلا الخشية من أن يبقوا دون دولة أو من غير دولة[27].
الحقيقة الثانية:
أن الرسول قد انتقل إلى جوار ربه سبحانه وتعالى دون أن ينص على استخلاف أحد.
الحقيقة الثالثة:
أن نصوص الشريعة لم تأت على ذكر الطريقة التي يتم بها اختيار رئيس الدولة، سكتت عن ذلك من غير نسيان، وتركت اختيار رئيس الدولة للأمة لتمارس بكل إرادتها الطريقة التي تراها محققة لمصلحتها على ضوء ما يقدمه عصرها وواقعها من تجارب نافعة ورأي مفيد، وهذه رائعة من روائع الإسلام الدالة على أنه الدين الذي تجد فيه الإنسانية سعادتها في كل العصور والأمصار.
ب - الأمة في النظام الإسلامي: هي صاحبة الحق في اختيار الحاكم كونها مسؤولة عن تنفيذ الشرع: وبيان ذلك بأن القرآن الكريم خاطب الأمة بتنفيذ أحكام القانون الإسلامي في المعاملات والعقوبات ونحوها، وجعلها مسؤولة عن هذا التنفيذ من هذه الخطابات:
• قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278].
• وقوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38].
• وقوله: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [النور: 2].
فهذه النصوص، وأمثالها في القرآن كثيرة، خطابات للأمة بمجموعها، تجعلها مسؤولة عن تنفيذ القانون الإسلامي، وكان من المتعذر عليها في الواقع بصورتها الجماعية مباشرة جميع سلطاتها وقيامها بواجب التنفيذ، فإنه من الواجب عليها الإنابة فيه بأن تختار الرئيس أو الحاكم ليزاول ما تملكه من سلطة نيابة عنها، وينفذ ما هي مكلفة به شرعاً، وهكذا ظهرت النيابة عن الأمة، إذ من المعروف أن مالك السلطة أو الحق ليس من اللازم عليه شرعاً أن يستعمل حقه بنفسه بل له أن يوكل أو ينيب غيره في مباشرة ما يملكه.
ثم إن الأحاديث النبوية التي زخرت بها السنة تؤيد هذا الحق للأمة، حيث أوجبت على الأمة تنصيب إمام عليها، ومنعت بقاءها بدون إمام والسوابق الدستورية في ذلك كثيرة، حيث أجمع الصحابة على أن الاختيار من الأمة هو طريق ثبوت الرئاسة، ولم يعلم أن أحداً منهم نازع في ذلك[28].
جـ - وسيلة إسناد السلطة للحاكم من قبل الأمة:إذا كانت الأمة هي صاحبة الحق في اختيار الحاكم فكيف تباشر هذا الحق على صعيد الواقع؟ أيقوم به أفراد الأمة مباشرة؟ أم يقوم بهذا الحق طائفة منهم بتحويل منها؟
هـ: طريقة الانتخاب غير المباشر:
وتقوم هذه الطريقة على أساس أن يقوم أهل الحل والعقد بالمفاضلة بين المرشحين لمنصب الإمامة إلى أن يستقر رأيهم أو رأي أكثريتهم على اختيار واحد من المرشحين، وبهذا الاختيار تنعقد الإمامة للرئيس الجديد، وبعدها يتولى الرئيس المنتخب أخذ البيعة من عامة الناس وبالطريقة التي تراها الدولة مناسبة، وذلك تأكيداً لبيعة أهل الحل والعقد له، وإعلاناً للدخول في طاعته[29].
وهذه الطريقة في الانتخاب تجد سندها في السوابق الدستورية الثابتة في عصر الخلفاء الراشدين، فقد تم انتخاب الخلفاء الراشدين - وعصرهم خير العصور فهماً للإسلام وتطبيقاً له - من قبل طائفة من الأمة، وهم أهل الحل والعقد، وتابعهم بعد ذلك الناس الموجودين في المدينة، فبايعوا من اختاره أهل الحل والعقد للرئاسة، ولم ينتخبهم جميع المسلمين في جميع المدن الإسلامية[30]، ولم ينقل لنا اعتراض على هذه الكيفية لا من الخلفاء الراشدين أنفسهم ولا من غيرهم، فيكون ذلك إجماعاً منهم على صحة الانتخاب غير المباشر في إسناد السلطة للحاكم، كما نجد سندها في أن صاحب الحق - وهي الأمة التي لها حق الاختيار - لها أن تنيب طائفة.