أ ـ في الطَّائف:
في حصار الطَّائف وقعت جراحاتٌ في أصحاب النبيِّ وشهادةٌ، ورفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أهل الطَّائف الحصار، ورجع إلى المدينة، وممَّن استشهد من المسلمين في هذه الغزوة عبد الله بن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ رُمِي بسهمٍ، فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم.
وعندما قدم وفد ثقيف للمدينة ليعلنوا إسلامهم، فما إن ظهر الوفد قرب المدينة حتّى تنافس كلٌّ من أبي بكرٍ، والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفاز الصِّدِّيق بتلك البشارة، وبعد أن أعلنوا إسلامهم، وكتب لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتابهم، وأراد أن يؤمِّر عليهم أشار أبو بكر بعثمان بن أبي العاص ـ وكان أحدثهم سنّاً ـ فقال الصِّديق: يا رسول الله! إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التففه في الإسلام، وتعلُّم القرآن، فقد كان عثمان بن أبي العاص كلَّما نام قومه بالهاجرة، عمد إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأله في الدين واستقرأه القرآن حتّى فقه في الدِّين، وعلم، وكان إذا وجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نائماً عمد إلى أبي بكرٍ، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وعجب منه، وأحبَّه.
وعندما علم الصِّدِّيق بصاحب السَّهم الذي أصاب ابنه كانت له مقولة تدلُّ على عظمة إيمانه، فعن القاسم بن محمَّد، قال: رُمِيَ عبد الله بن أبي بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ بسهمٍ يوم الطائف، فانتقضت به بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأربعين ليلةً، فمات، فقدم عليه وفد ثقيف، ولم يزل ذلك السَّهم عنده، فأخرجه إليهم، فقال: هل يعرف هذا السَّهْمَ منكم أحدٌ؟ فقال سعيد بن عبيد، أخو بني عجلان: هذا سهمٌ أنا بَرَيْتُهُ، ورشته، وعقبته، وأنا رميت به. فقال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: فإنَّ هذا السَّهم الذي قتل عبد الله بن أبي بكرٍ، فالحمد لله؛ الذي أكرمه بيدك، ولم يُهِنك بيده، فإنَّه أوسع لكما.
ب ـ في تبوك:
خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجيشٍ عظيمٍ في غزوة تبوك، بلغ عدده ثلاثين ألفاً، وكان يريد قتال الرُّوم بالشَّام، وعندما تجمَّع المسلمون عند ثنيَّة الوداع بقيادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، اختار الأمراء، والقادة، وعقد الألوية، والرَّايات لهم، فأعطى لواءه الأعظم إلى أبي بكرٍ الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وفي هذه الغزوة ظهرت بعض المواقف للصِّدِّيق منها:
1ـ موقفه من وفاة الصَّحابي عبد الله ذي البجادين رضي الله عنه:
قال عبد الله بن مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ: قمت في جوف الليل، وأنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلةً من نارٍ من ناحية العسكر، قال فاتَّبَعْتُها أنظر إليها، فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأبو بكرٍ، وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكرٍ، وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: «أدليا إليّ أخاكما». فدلَّياه إليه، فلمّا هيَّأه بشقِّه قال: «الّلهمَّ إنِّي أمسيتُ راضياً عنه، فارضَ عنه». قال الرَّاوي (عبد الله بن مسعود): يا ليتني كنتُ صاحب الحفرة.
وكان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ إذا أدخل الميتُ اللَّحد، قال: باسم الله، وعلى ملَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وباليقين وبالبعث بعد الموت.
2ـ طلب الصِّدِّيق من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدُّعاء للمسلمين:
قال عمر بن الخطاب: خرجنا إلى تبوك في قيظٍ شديدٍ، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطشٌ، حتى ظننَّا أنَّ رقابنا ستقطع، حتّى إنَّ الرَّجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه، فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكرٍ الصدِّيق: يا رسول الله! إنَّ الله قد عوَّدك في الدُّعاء خيراً، فادع الله، قال: «أتحبُّ ذلك»؟. قال: نعم، فرفع يديه، فلم يردَّهما حتّى قالت السَّماءـ أي: تهيَّأت لإنزال مائها ـ فأطلَّت ـ أي: أنزلت مطراً خفيفاً ـ ثمَّ سكبت، فتملؤوا ما معهم، ثمَّ ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.
3ـ نفقة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ في تبوك:
حثَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصَّحابة في غزوة تبوك على الإنفاق بسبب بُعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كلٌّ حسب مقدرته، وكان عثمان ـ رضي الله عنه ـ صاحب القِدْح المُعَلَّى في الإنفاق في هذه الغزوة.
وتصدَّق عمر بن الخطاب بنصف ماله، وظنَّ: أنَّه سيسبق أبا بكرٍ بذلك، ونترك الفاروق يحدِّثنا بنفسه عن ذلك، حيث قال: أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوماً أن نتصدَّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ بكل ما عنده، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ما أبقيت لأهلك؟». قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبداً.
كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً، ولكن حال الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ أفضل منه؛ لأنَّه خالٍ من المنافسة مطلقاً، ولا ينظر إلى غيره.
المراجع:
علي محمد الصلابي، الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، ص. ص (88-95).
السيرة النبوية لابن هشام (4/193).
تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص 670.
محمَّد أحمد عاشور، خطب أبي بكرٍ الصدِّيق، ص 118.
مصنف عبد الرزاق (3/497) .
سنن أبي داود، كتاب الزكاة رقم (1678) وحسَّنه الألباني.
الفتاوى لابن تيمية (10/72، 73).
المصدر : كتابات