ملابسات مقتل الفاروق رضي الله عنه وقضية الشورى؛ عبقرية سياسية في أسلوب انتقال الحكم
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة التاسعة والثمانون
1 ـ مقتل عمر رضي الله عنه:
قال عمرو بن ميمون: إِنِّي لقائم ما بيني وبينه إِلا عبد الله بن عبَّاس غداة أصيب، وكان إِذا مرَّ بين الصَّفَّين، قال: استووا؛ تقدَّم، فكبَّر، وربَّما قرأ سورة يوسف، أو النَّحل، أو نحو ذلك في الرَّكعة الأولى، حتَّى يجتمع النَّاس فما هو إِلا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني ـ أو أكلني ـ الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمرُّ على أحدٍ يميناً، ولا شمالاً إِلا طعنه، حتَّى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعةٌ، فلمَّا رأى ذلك رجلٌ من المسلمين طرح عليه بُرْنساً، فلمَّا ظنَّ العلج: أنَّه مأخوذٌ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرَّحمن بن عوف فقدَّمه للصَّلاة بالنَّاس، فَمَنْ يلي عمر فقد رأى الَّذي أرى، وأمَّا نواحي المسجد فإِنَّهم لا يدرُون، غير أنَّهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، فصلَّى بهم عبد الرَّحمن صلاةً خفيفةً، فلمَّا انصرفوا؛ قال عمر: يا بن عبَّاس ! انظر من قتلني. فجال ساعةً، ثمَّ جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله ! لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الَّذي لم يجعل منيَّتي بيد رجلٍ يدَّعي الإِسلام، قد كنت أنت، وأبوك ـ يريد العبَّاس، وابنه عبد الله ـ تحبَّان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العبَّاس أكثرهم رقيقاً، فقال عبد الله: إِن شئت فعلت، أي: إِن شئت قَتَلنا. قال: كذبت ـ أي: أخطأت ـ بعدما تكلَّموا بلسانكم، وصلَّوا قبلتكم، وحجُّوا حجَّكم. فاحتُمل إِلى بيته، فانطلقنا معه، وكأنَّ النَّاس لم تصبهم مصيبةٌ قبل يومئذٍ، فأتي بنبيذٍ فشربه، فخرج من جوفه، ثُمَّ أُتي بلبنٍ، فشربه فخرج من جُرْحه، فعلموا: أنَّه ميِّتٌ، فدخلنا عليه، وجاء النَّاس، فجعلوا يثنون عليه.. وقال: يا عبد الله بن عمر ! انظر ما عليَّ من الدَّين، فحسبوه؛ فوجدوه ستَّة وثمانين ألفاً، أو نحوه، قال: إِنْ وفَّى له مال ال عمر؛ فأدِّه من أموالهم، وإِلا فسل في بني عدي بن كعب، فإِنْ لم تفِ أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إِلى غيرهم، فأدِّ عنِّي هذا المال، وانطلق إِلى عائشة أمِّ المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السَّلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإِنِّي لستُ اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطَّاب أن يبقى مع صاحبيه.. فسلَّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثمَّ دخل عليها، فوجدها قاعدةً تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطَّاب السَّلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنَّه به اليوم على نفسي ! فلمَّا أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجلٌ إِليه، فقال: ما لديك ؟ قال: الَّذي تحبُّ يا أمير المؤمنين ! أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيءٍ أهمَّ إِليَّ من ذلك.. فإِذا أنا قضيت فاحملني، ثمَّ سلِّم، فقل: يستأذن عمر بن الخطَّاب، فإِنْ أذنت لي، فأدخلوني، وإِن ردَّتني؛ ردُّوني إِلى مقابر المسلمين، قال: فلمَّا قبض؛ خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلَّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطَّاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأُدخل، فوُضع هنالك مع صاحبيه.
وجاءت رواياتٌ أخرى فصَّلت بعض الأحداث الَّتي لم تذكرها رواية عمرو بن ميمون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ طعن في السَّحر، طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسيَّاً.
وقال أبو رافع ـ رضي الله عنه ـ: كان أبو لؤلؤة عبداً للمغيرة بن شعبة، وكان يصنع الأرحاء، وكان المغيرة يستغلُّه كلَّ يومٍ أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر، فقال: يا أمير المؤمنين ! إِنَّ المغيرة قد أثقل عليَّ غلَّتي، فكلِّمْه أن يخفِّف عنِّي ! فقال عمر: اتَّقِ الله، وأحسنْ إِلى مولاك، ومن نيَّة عمر أن يلقى المغيرة، فيكلِّمه يخفِّف عنه، فغضب العبد، وقال: وسع كلَّهم عدلُه غيري ؟ ! فأضمر على قتله، فاصطنع خنجراً له رأسان، وشحذه، وسمَّه، ثمَّ أتى به الهرمزان، فقال: كيف ترى هذا ؟ قال: أرى أنَّك لا تضرب به أحداً إِلا قتلته. قال: فتحيَّن أبو لؤلؤة عمر، فجاءه في صلاة الغداة حتَّى قام وراء عمر، وكان عمر إِذا أقيمت الصَّلاة يتكلَّم يقول: أقيموا صفوفكم، فقال كما كان يقول: فلمَّا كبَّر؛ وجأه أبو لؤلؤة وجأةً في كتفه، ووجأةً في خاصرته، فسقط عمر، قال عمرو بن ميمون ـ رحمه الله ـ: سمعته لمَّا طُعن يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا *} [الأحزاب: 38].
2 ـ ابتكاره طريقةً جديدةً في اختيار الخليفة من بعده:
استمرَّ اهتمام الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ بوحدة الأمَّة، ومستقبلها، حتَّى اللَّحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من الام جراحاته البالغة، وهي بلا شكٍّ لحظاتٌ خالدةٌ، تجلَّى فيها إِيمان الفاروق العميق، وإِخلاصه، وإِيثاره، وقد استطاع الفاروق في تلك اللَّحظات الحرجة أن يبتكر طريقةً جديدةً لم يُسْبَقْ إِليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدَّولة الإِسلاميَّة، لقد مضى قبله الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ولم يستخلف بعده أحداً بنصٍّ صريحٍ.
ولقد مضى أبو بكر الصِّدِّيق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصَّحابة، ولمَّا طُلِبَ من الفاروق أن يستخلف، وهو على فراش الموت؛ فكَّر في الأمر مليَّاً، وقرَّر أن يسلك مسلكاً اخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك النَّاس، وكلُّهم مقرٌّ بأفضليَّة أبي بكرٍ، وأسبقيَّته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادراً، وخصوصاً: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وجَّه الأمَّة قولاً، وفعلاً إِلى أنَّ أبا بكرٍ أولى بالأمر من بعده، والصِّدِّيق لمَّا استخلف عمر كان يعلم أنَّ عند الصَّحابة أجمعين قناعةً بأنَّ عمر أقوى، وأفضل من يحمل المسؤوليَّة بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصَّحابة، ولم يخالف رأيه أحدٌ منهم، وحصل الإِجماع على بيعة عمر.
وأمَّا طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشُّورى في عددٍ محصورٍ، فقد حصر ستَّةً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلُّهم بدريُّون، وكلُّهم توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وكلُّهم يصلحون لتولِّي الأمر، ولو أنَّهم يتفاوتون، وحدَّد لهم طريقة الانتخاب، ومدَّته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة، وحدَّد الحكم في المجلس، والمرجِّح إِن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحدٍ أن يدخل، أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحلِّ، والعقد.
وهذا بيانُ ما أجمل في الفقرات السَّابقة:
أ ـ العدد الَّذي حدَّده للشُّورى، وأسماؤهم:
أمَّا العدد؛ فهو ستَّةٌ، وهم: عليُّ بن أبي طالبٍ، وعثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً. وترك سعيد بن زيد بن نفيل، وهو من العشرة المبشَّرين بالجنَّة؛ لأنَّه من قبيلته بني عديٍّ.
ب ـ طريقة انتخاب الخليفة:
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم، ويتشاوروا، وفيهم عبد الله بن عمر، يحضرهم مشيراً فقط، وليس له من الأمر شيء، ويصلِّي بالنَّاس أثناء التَّشاور صهيب الرُّومي، وأمر المقداد بن الأسود، وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات.
جـ مدَّة الانتخابات، أو المشاورة:
حدَّدها الفاروق ـ رضي الله عنه ـ بثلاثة أيَّامٍ وهي فترةٌ كافيةٌ، وإِن زادوا عليها؛ فمعنى ذلك: أنَّ شقَّة الخلاف ستتَّسع، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرَّابع إِلا وعليكم أميرٌ.
د ـ عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:
لقد أمرهم بالاجتماع، والتَّشاور وحدَّد لهم: أنَّه إِذا اجتمع خمسةٌ منهم على رجلٍ، وأبى أحدهم؛ فليضرب رأسه بالسَّيف، وإِن اجتمع أربعةٌ، فرضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما.
وهذه من الرِّوايات الَّتي لا تصحُّ سنداً فهي من الغرائب الَّتي ساقها أبو مخنف مخالفاً فيها النُّصوص الصَّحيحة، وما عرف من سير الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ فما ذكره أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم ـ أي: أهل الشُّورى ـ فإِن اجتمع خمسةٌ، ورضوا رجلاً، وأبى واحدٌ؛ فاشدخ رأسه بالسَّيف، وإِن اتَّفق أربعةٌ، فرضَوا رجلاً منهم، وأبى اثنان؛ فاضرب رؤوسهما: فهذا قولٌ منكرٌ، وكيف يقول عمر ـ رضي الله عنه ـ هذا وهو يعلم أنَّهم هم الصَّفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الَّذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم، وقدرهم.
وقد ورد عن ابن سعدٍ: أنَّ عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيَّامٍ فإِن استقاموا؛ وإِلا فادخلوا عليهم، فاضربوا أعناقهم، وهذه الرِّواية منقطعةٌ، وفي إِسنادها (سماك بن حرب) وهو ضعيفٌ، وقد تغيَّر باخرةٍ.
والصَّحيح في هذا ما أخرجه ابن سعدٍ بإِسنادٍ رجاله ثقاتٌ: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قال لصهيبٍ: صلِّ بالنَّاس ثلاثاً، وليخل هؤلاء الرَّهط في بيتٍ، فإِذا اجتمعوا على رجلٍ فمن خالفهم فاضربوا رأسه.
فعمر ـ رضي الله عنه ـ أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرَّهط، ويشقَّ عصا المسلمين، ويفرِّق بينهم، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: « من أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ، يريد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرِّق جماعتكم، فاقتلوه ».
هـ الحكم في حال الاختلاف:
لقد أوصى عمر بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس، وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإِن رضي ثلاثةٌ رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم؛ فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأيُّ الفريقين حكم له؛ فليختاروا رجلاً منهم، فإِن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الَّذين فيهم عبد الرَّحمن بن عوف، ووصف عبد الرَّحمن بن عوف بأنَّه مسدَّدٌ رشيدٌ، فقال عنه ـ ونعم ذو الرَّأي ـ: عبد الرَّحمن بن عوف مسدَّدٌ رشيدٌ، له من الله حافظٌ، فاسمعوا منه!
و ـ جماعة من جنود الله تراقب الانتخابات، وتمنع الفوضى:
طلب عمر أبا طلحة الأنصاري، وقال له: يا أبا طلحة ! إِنَّ الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ أعزَّ الإِسلام بكم، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار، فاستحثَّ هؤلاء الرَّهط حتَّى يختاروا رجلاً منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إِذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرَّهط في بيتٍ حتَّى يختاروا رجلاً منهم.
هكذا ختم حياته ـ رضي الله عنه ـ ولم يشغله ما نزل به من البلاء، ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاماً صالحاً للشُّورى لم يسبقه إِليه أحدٌ، ولا يشكُّ أن أصل الشُّورى مقرر في القران والسُّنَّة القوليَّة والفعليَّة، وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، ولم يكن عمر مبتدعاً بالنِّسبة للأصل، ولكنَّ الَّذي عمله عمر هو تعيين الطَّريقة الَّتي يختار بها الخليفة، وحَصْر عددٍ معيَّنٍ جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرَّسول صلى الله عليه وسلم ولا الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بل أوَّل من فعل ذلك عمر، ونعم ما فعل ! فقد كانت أفضل الطُّرق المناسبة لحال الصَّحابة في ذلك الوقت.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf