الفتح الإسلامي زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه... قراءة في عوامل ومقومات نجاح التوسع الإسلامي:
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة السابعة والثمانون
أولا: اهتمامه بحدود الدَّولة:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ من خوفه على المسلمين وحدود الدَّولة الإِسلاميَّة لاتِّساعها، وكرهه لقتال الرُّوم يقول إِذا ذكر الرُّوم: والله لوددت: أنَّ الدَّرب جمرةٌ بيننا وبينهم لنا ما دونه، وللرُّوم ما وراءه. وقال الشَّيء نفسه حول حدود الدَّولة الإِسلاميَّة نحو الفُرْسِ: لوددت أنَّ بين السَّواد، وبين الجبل سدَّاً لا يخلصون إِلينا، ولا نخلص إِليهم، حسبنا من الرِّيف السَّواد، وإِنِّي أوثر سلامة المسلمين على الأنفال، فأمر بإِقامة قواعد عسكريَّة إِسلاميَّة لها عدَّة وظائف، ومهامٍّ، والَّتي سبق، وأشرنا إِلى بعضٍ منها، بالإِضافة إِلى كونها مراكز حربيَّة في مواقع استراتيجيَّة متقدِّمة على الحدود بينها وبين البلاد المفتوحة لتردَّ أيَّ عدوانٍ خارجيٍّ، وكمراكز تجمُّع للجند، ولنشر الإِسلام، وكان في طليعتها مدينتا البصرة والكوفة في مجاورة الدَّولة الفارسيَّة، والفسطاط بمصر، وثغور أخرى بسواحلها، وسواحل الشَّام لردِّ هجمات الرُّوم من البحر، وجنَّد أربعة أجنادٍ فيما بعد، فيقال: جند حمص، وجند دمشق، وجند الأردن، وجند فلسطين، حيث كانت لاختصاصهم، حتَّى عرفوا بها، وصارت لهم علامةً زائدةً على النَّسب يتميَّزون بها عند أمرائهم لتسهيل عمليَّة إِدارتهم في المهمَّات العسكريَّة، ولرعاية شؤونهم، والَّتي كانت منها العطاء.
هذا إِلى جانب المعسكرات، والتَّحصينات الَّتي بالثُّغور، والَّتي سبق إِجلاء العدوِّ عنها، واستولى عليها المسلمون، واتَّخذوها قواعد عسكريَّةً لهم، وأسكنوا بها جندهم لحماية حدود الدَّولة الإِسلاميَّة.
ثمَّ صار المسلمون كلَّما تقدَّموا في الفتح؛ أقاموا في نهاية توسُّعهم ثغراً يحرس الحدود، يشحن بالجند المرابطين، ويتولَّى أمره قائدٌ من أكفأ القوَّاد، ومن أهمِّ تلك الإِجراءات الَّتي اتَّخذها الفاروق ـ رضي الله عنه ـ بإِقليم العراق، والمشرق المسالح الَّتي أقيمت بين المسلمين، والفرس، فحينما بلغ اجتماع الفرس على يزدجرد للقائد المثنَّى بن حارثة، والمسلمين؛ كتبوا إِلى الخليفة عمر بذلك، فجاءهم الرَّدُّ بقوله: أمَّا بعد: فاخرجوا من بين ظهراني الأعاجم، وتفرَّقوا في المياه الَّتي تلي الأعاجم على حدود أرضكم، وأرضهم... فنفَّذ المثنَّى الأمر، كما أوصى الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ سعداً قبل القادسيَّة بقوله: وإِذا انتهيت إِلى القادسيَّة؛ فتكون مسالحك على أنقابها.
وفي جلولاء كتب عمر ـ رضي الله عنه ـ إِلى سعد: إِنْ هزمَ الله الجندين: جند مهران وجند الأنطاق؛ فقدِّم القعقاع بن عمرو بثغر حلوان بجنود المسلمين لحماية المنطقة، والحفاظ عليها من تقدُّم الأعداء، وحتَّى يكون ردءاً لإِخوانه من جند المسلمين الغازي منهم، والمقيم.
لذا كان القائد سعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ بالعراق يطلب من الجند، ويحثُّهم على التَّقدُّم نحو الفرس مخبراً إِيَّاهم: أنَّ الثُّغور، والفروج قد سدَّت بقوله: ليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، كفاكموهم أهل الأيَّام، وعطَّلوا ثغورهم، وأفنوا ذاتهم. والملاحظ: أنَّ هذه المسالح في عهد الفاروق لا تنشأ إِلا بأمرٍ من القيادة العليا المركزيَّة للإِدارة العسكريَّة، وذلك في قول الخليفة عمر لقادة المسالح: أشغلوا فارس عن إِخوانكم، وحوِّطوا بذلك أمَّتكم، وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين فارس، والأهواز حتَّى يأتيكم أمري.
وقد بلغت ثغور الكوفة وحدها في عهد الفاروق أربعة ثغور، هي: ثغر حلوان، وعليه القعقاع بن عمرو التَّميمي، وثغر ماسبذان، وعليه ضرار بن الخطَّاب الفهري، وثغر قرقيسيا وعليه عمر بن مالك الزُّهري، وثغر الموصل، وعليه عبد الله بن المعتم العبسي. وكان لكلِّ قائدٍ من هؤلاء من ينوب عنه في ثغره لإِدارته إِذا توجَّه لمهمَّةٍ ما.
ومن الجدير بالذِّكر: أنَّ جند المسلمين لا يبنون الثُّغور حصناً، ولا يمصِّرون مدينةً إِلا وأقاموا المسجد في المقدِّمة؛ لما له من دورٍ دعويٍّ، وتربويٍّ، وجهاديٍّ، كما هو معروف، وأمَّا فيما يتعلَّق بحماية الحدود بين الرُّوم والمسلمين في الجبهة الشَّاميَّة في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ فقد بدأت عنايته بها أيضاً منذ الفتح الإِسلامي لبلاد الشَّام، حيث اتَّخذ لذلك إِجراءاتٍ دفاعيَّةً كثيرةً، ومتعدِّدةً لحماية المنطقة، منها بناء المناظر، وإِقامة الحرس، واتِّخاذ المسالح بها، وتحصين المدن السَّاحليَّة إِلى جانب الرِّباطات الدَّائمة بالإِضافة إِلى الحصون المفتوحة، وترتيب المقاتلة فيها، أي: الجند الغازي، وسياسة التَّهجير، أو النَّواقل، وجمعه السَّاحل الشَّامي كلَّه تحت إِدارةٍ عسكريَّةٍ موحَّدةٍ، ففي السَّنة الَّتي سار فيها عمر بنفسه إِلى بلاد الشَّام لتوقيع الصُّلح مع أهل بيت المقدس تفقَّد بعض الثُّغور الشَّاميَّة، ووضع بها الحاميات، والمسالح، ورتَّب بها أمراء الأجناد، والقادة، وسدَّ فروجها، ومسالحها، وأخذ يدور بها ليرى احتياجاتها الدِّفاعيَّة، ثمَّ رجع إِلى المدينة، وخطب النَّاس قبل رجوعه قائلاً: ألا قد وُلِّيت عليكم، وقضيت الَّذي عليَّ في الَّذي ولاني الله من أمركم، إِن شاء الله قسطنا بينكم فيئكم، ومنازلكم، ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم، فجنَّدنا لكم الجنود، وهيَّأنا لكم الفروج، وبوَّأنا لكم، ووسَّعنا عليكم ما بلغ فيئكم، وما قاتلتم عليه من شامكم، وسمَّينا لكم أطعامكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم، وأرزاقكم، ومغانمكم، فمن عَلِمَ عِلْمَ شيءٍ ينبغي العمل به فبلَّغنا؛ نعمل به إِن شاء الله، ولا قوَّة إِلا بالله.
وعندما فتح أبو عبيدة بن الجرَّاح ثغر إِنطاكية بالحدود الشَّاميَّة الشَّماليَّة؛ كتب إِليه الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ قائلاً: أنْ رتِّب بإِنطاكية جماعةً من المسلمين أهلَ نيَّاتٍ، وحِسْبَةٍ، واجعلهم بها مرابطةً، ولا تحبس عنهم العطاء.
فنقل أبو عبيدة قوماً من أهل حمص، وبعلبك مرابطةً بها لحماية حدود المنطقة من أيِّ عدوانٍ خارجيٍّ، وعيَّن على الثَّغر حبيب بن مسلمة الفهري الَّذي اتَّخذ من ثغر إِنطاكية قاعدةً لانطلاقه لغزو ما خلف الحدود الإِسلاميَّة، فمنها كان يأتي المدد للخطوط الأماميَّة في الجبهة الرُّوميَّة، وكان منها غزوه للجرجومة الَّتي صالح أهلها على أن يكونوا أعواناً للمسلمين، وعيوناً، ومسالح في جبل اللِّكام ضدَّ الرُّوم، وكذلك عندما سار أبو عبيدة إِلى ثغر بالس رتَّب به جماعة من المقاتلين، وأسكنه قوماً من عرب الشَّام الَّذين أسلموا بعد قدوم المسلمين لحفظ الثَّغر، وضبطه من هجمات الرُّوم.
ومن التَّحصينات، والوسائل الدِّفاعيَّة الَّتي اتَّخذها الوالي معاوية بن أبي سفيان لحماية الحدود الإِسلاميَّة لسواحل الشَّام في نهاية عهد عمر بن الخطَّاب، وبداية عهد الخليفة عثمان بن عفَّان ـ رضي الله عنهما ـ هو قيامه ببناء عدَّة حصونٍ مثل طرسوس، ومرقية، وبلنياس، وبيت سليمة، بالإِضافة إِلى قيامه بتطوير الحصون الَّتي استولى عليها الجند المسلمون بسواحل الشَّام، وشحنها جميعاً بالجند المقاتلة، وأقطعهم القطائع بها، وبنى المناظر، ووضع بها الحرس لمراقبة اقتراب العدوِّ، فتقوم كلُّ منظرةٍ بإِشعال النَّار لإِخبار الأخرى الَّتي تليها إِلى أن يصل الخبر إِلى المدينة، والثَّغر، والمسلحة في زمنٍ قليلٍ، فيسرعون نحو الجبهة الَّتي أقبل منها العدوُّ للتَّصدِّي له، ومنعه من التَّسلُّل.
وفيما يتعلَّق بحماية الحدود بين المسلمين والرُّوم في الجبهة المصريَّة لإِدارة عمر ـ رضي الله عنه ـ فقد شملتها الرِّعاية، والعناية كمثيلاتها من الجبهات الأخرى، فقد أمر عمرو بن العاص ببناء الفسطاط كقاعدةٍ عسكريَّةٍ أولى لإِيواء جند المسلمين بالمنطقة، وجعل لكلِّ قبيلةٍ محرساً، وعريفاً، فمنها كان المنطلق في الفتوحات الإِسلاميَّة لشمال أفريقيا، بالإِضافة إِلى كونها إِحدى الحاميات الدِّفاعيَّة للثَّغر المصري إِلى ما هنالك من مهام تضطلع بها، واشترط عمر ـ رضي الله عنه ـ في موقعها، كما اشترط في مواقع القواعد السَّابقة، بأن لا يفصل بينها وبين القيادة العليا المركزيَّة بالمدينة ماءٌ حتَّى يكون الاتِّصال بينهما مستمرَّاً، وميسَّراً.
وكان عمرو بن العاص يذكِّر جنوده بأنَّ مقامهم بمصر عبارة عن رباط، وذلك في قوله: اعلموا أنَّكم في رباطٍ إِلى يوم القيامة؛ لكثرة الأعداء حولكم، وتشوُّق قلوبهم إِليكم، وإِلى داركم معدن الزَّرع، والمال، والخير الواسع، والبركة النَّامية. وفي الفترة الَّتي استولى فيها جند المسلمين على الحصون، والمسالح الَّتي بالثَّغر المصري قاموا بتجديدها، وترميمها، والاستفادة منها في مرابطتهم، حيث شحنوها بالجنود، وكان العريش أوَّل مسالح مصر، وأعمالها، وقد أمر الفاروق بإِقامة المساحل على سواحل مصر كلِّها.
وحينما فتح عمرو بن العاص ثغر الإِسكندريَّة؛ جعل به ألف رجلٍ من أصحابه مسلحةً به، لحفظه، وحمايته، وكان عددهم لا يفي بالغرض المطلوب ممَّا جعل الرُّوم يعودون إِليهم من البحر، فقتلوا من قتلوا من أصحاب المسلحة، وهرب من هرب، فرجع إِليهم عمرو بن العاص مرَّةً أخرى، وفتح الثَّغر وجعل من أصحابه لرباط الإِسكندريَّة ربع الجيش، كما جعل في السَّواحل الرُّبع الاخر، وأبقى معه بالفسطاط النِّصف الاخر، وكان الفاروق يبعث في كلِّ سنةٍ غازيةً من أهل المدينة المنوَّرة ترابط بثغر الإِسكندريَّة ويكاتب الولاة بأن لا تغفل عنها، وأن تكثف رابطتها، إِضافةً إِلى من جعل بها عمرو بن العاص من المرابطين، وبذلك استكمل عمر ـ رضي الله عنه ـ فقهه البعيد في حماية الحدود البرِّيَّة، وتحصينها في الجبهات الثَّلاث العراقيَّة، والشَّاميَّة، والمصريَّة، ولم يقتصر الأمر على هذه الوسائل الدِّفاعيَّة لحماية الحدود الإِسلاميَّة بل أنشأ عمر ـ رضي الله عنه ـ نظام الصَّوائف، والشَّواتي، وهي الحملات الَّتي كانت تخرج بانتظام سنويَّاً كالدَّوريَّات المنظَّمة في فصل الصَّيف، وفي فصل الشِّتاء، ولم تقتصر حملات الشَّواتي، والصَّوائف على ثغور بلاد الشَّام، بل شملت جميع حدود الدَّولة الإِسلاميَّة حينئذٍ، وكان يتولاها كبار القادة أمثال أبي عبيدة بن الجرَّاح، ومعاوية بن أبي سفيان، والنُّعمان بن مُقَرِّن، وغيرهم كثير.
وكان الفاروق يزيد في الأرزاق، والأعطيات للجنود الَّذين يبعثون إِلى الثُّغور للمرابطة بها، حتَّى تعينهم إِلى تحمُّل بعدهم، ويقطعهم القطائع بها، ونرى قادة الفاروق ـ رضي الله عنه ـ في إِدارتهم العسكريَّة للمعارك يقسمون لأهل المسالح من الفيء مثل الَّذي يقسم لهم؛ لأنَّهم كانوا ردءاً للمسلمين؛ لئلا يؤتوا من وجهٍ من الوجوه، وحين حضرت الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ الوفاة؛ قال موصياً الخليفة من بعده: وأوصي الخليفة من بعدي بأهل الأمصار خيراً، فإِنَّهم ردء الإِسلام، وجباة المال، وغيظ العدوِّ، وألا يأخذ منهم إِلا فضلهم عن رضاهم.
ثانيا: علاقة عمر مع الملوك:
كانت علاقة الفاروق مع ملك الفرس حربيَّةً، فقد توفِّي وجيوشه تطارد يزدجرد في بلاده، وتدوِّخ ملكه، وأمَّا علاقته مع ملك الرُّوم فقد استقرَّ الصُّلح بين الدَّولتين منذ أتمَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ فتح الشَّام، والجزيرة، وجرت بينه وبين ملك الرُّوم المكاتبات، وذكر مؤرِّخو العرب: أنَّ هذه المكاتبات كانت مع هرقل، ولكن لم يذكروا هل كانت مع هرقل الأوَّل الَّذي انتزع منه عمر بلاد الشَّام، أم مع ابنه هرقل الثَّاني المعروف بهرقل قسطنطين؛ لأنَّ هرقل الأوَّل توفٍّي سنة (641 م) الموافقة سنة (21 هـ) وتولَّى الملك ابنه المذكور في هذه السَّنة؛ أي: قبل وفاة عمر ـ رضي الله عنه ـ بسنتين، وسواءٌ كانت المكاتبة، والمراسلة مع هرقل الأوَّل، أو الثَّاني، فقد كانت الرُّسل تتردَّد بينهما بالمكاتبة، وأنَّ أمَّ كلثوم بنت علي بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ وزوج عمر بن الخطَّاب أرسلت مرَّةً مع رسولٍ جاء المدينة من قبل ملك الرُّوم هديَّة من ألطاف المدينة إِلى إِمبراطورة الرُّوم امرأة هرقل، وأرسلت لها هذه في نظيرها عقداً نفيساً من الجواهر، فأخذه منها عمر، وردَّه إِلى بيت المال، وقد جاء في كتب التَّاريخ: أنَّ أمَّ كلثوم أرسلت تلك الهديَّة مع بريد عمر.
ثالثا: من نتائج الفتوحات العمريَّة:
1 ـ إِزالة الدَّولة الفارسيَّة (السَّاسانيَّة) من الوجود، وفي الجانب المقابل حجَّمت الدَّولة الرُّوميَّة (البيزنطيَّة)، ومن ثمَّ انتهى ذلك الصِّراع الجاهلي الَّذي كان ناشباً بين الفرس، والرُّوم، والَّذي جرَّ شعوب المنطقة إِلى حروبٍ داميةٍ، أنهكت الدَّولتين معاً، لا لشيءٍ إِلا للمحافظة على مصلحة الزَّعامات في كلتا الدَّولتين.
2 ـ وجود قيادةٍ عالميَّةٍ واحدةٍ للمنطقة الَّتي تقع في وسط الكرة الأرضيَّة كلِّها الممتدَّة من حدود الصِّين شرقاً إِلى المغرب غرباً، ومن بحر العرب جنوباً حتَّى اسيا الصُّغرى شمالاً، قيادةٍ جديدةٍ بمؤهِّلاتٍ لم تعهدها البشريَّة، فهي محكومة مثلها مثل بقيَّة أبناء شعوب المنطقة بقيمٍ، ومثلٍ، ونظامٍ.
3 ـ هيمنة المنهج الرَّبَّاني على جميع النَّاس، دون ضغطٍ عليهم في تغيير معتقداتهم، وديانتهم، ودون تفريقٍ بين الأسود، والأحمر، والأبيض، والأصفر، بل النَّاس كلُّهم أمام شرع الله سواء، ولا تفاضل بينهم إِلا بالتَّقوى، ولمس النَّاس ثمار تطبيق شرع الله في حياتهم من الأمن، والتَّمكين، والبركات، والسَّعة في الأرزاق، وغيرها.
4 ـ ظهر في دنيا النَّاس أمَّة الإِسلام الَّتي جمعت بين أفرادها عقيدة التَّوحيد، وشريعة المولى ـ عزَّ، وجلَّ ـ وترفَّعت عن اصرة الأعراق، والأنساب، والاعتبارات الأرضيَّة الأخرى، وبرز في هذه الأمَّة قياداتٌ من كلِّ الأجناس العرقيَّة، فكان لها المكانة العالية في وسط هذه الأمَّة، ولم يوجد ما يشينها، أو يغيِّر من مكانتها في الأمَّة، ولهذا كانوا يقولون لمن يقاتلونهم: فإِنْ أجبتم إِلى ديننا؛ خلَّفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم بلادكم.
5 ـ برزت حضارةٌ ربَّانيَّةٌ متكاملةٌ، ومتوازنةٌ، ومتناسقةٌ ضمَّت بين أرجائها تفاعلات الأمم، والشُّعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى، وقبلت في عضويَّتها العالم بأسره، أسوده، وأصفره، وأبيضه وفق المنهج الرَّبَّانيِّ، وأحكامه، وأصبح الفاروق نموذجاً في قيادته الحضاريَّة للبشريَّة في زمانه يعطينا صورةً مشرقةً للإِنسان القويِّ المؤمن العالم، الَّذي يسخِّر كلَّ إِمكانات دولته، وجنوده، وأتباعه، وعلومه، ووسائله، وأسبابه لتعزيز شرع الله، وتمكين دينه، وخدمة الإِنسانيَّة، وإِعلاء كلمة الله، وإِخراج النَّاس من الظُّلمات إِلى النُّور، ومن عبادة الناس والمادَّة إِلى عباد الله، ونفَّذ قول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ *} [الحج: 41].
لقد أنتجت الفتوحات الإِسلاميَّة حضارةً إِنسانيَّةً رفيعةً في ظلِّ دين الإِسلام، وبذلك نستطيع أن نعرِّف الحضارة الرَّبَّانيَّة بأنَّها: تفاعل الأنشطة الإِنسانيَّة للجماعة الواحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزَّمن، وضمن المفاهيم الإِسلاميَّة عن الحياة، والكون، والإِنسان.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf