الأيَّام الأخيرة في حياة الفاروق رضي الله عنه؛ أحداث جليلة وعبر عظيمة...
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة : الثامنة والثمانون
كان أمير المؤمنين الفاروق ـ رضي الله عنه ـ مثالاً للخليفة العادل، المؤمن، المجاهد، التَّقي، الورع، القويِّ الأمين، الحصن المنيع للأمَّة وعقيدتها، قضى ـ رضي الله عنه ـ خلافته كلَّها في خدمة دينه، وعقيدته، وأمَّته الَّتي تولَّى أمر قيادتها، فكان القائد الأعلى للجيش، والفقيه المجتهد؛ الَّذي يرجع الجميع إِلى رأيه، والقاضي العادل النَّزيه، والأب الحنون الرَّحيم بالرَّعيَّة، صغيرها، وكبيرها، ضعيفها، وقويِّها، فقيرها، وغنيِّها، الصَّادق، المؤمن بالله ورسوله، السِّياسي المحنَّك المجرِّب، والإِداري الحكيم الحازم، أحكم بقيادته صرح الأمَّة، وتوطَّدت في عهده دعائم الدولة الإسلاميَّة، وتحققت بقيادته أعظم الانتصارات على الفرس في معارك الفتوح، فكانت القادسيَّة، والمدائن، وجلولاء، ونهاوند، وتمَّ فتح بلاد الشَّام، ومصر من سيطرة الرُّوم البيزنطيِّين.
ودخل الإِسلام في معظم البلاد المحيطة بالجزيرة العربيَّة، وكانت خلافته سدَّاً منيعاً أمام الفتن، وكان عمر نفسه باباً مغلقاً، لا يقدر أصحاب الفتن الدُّخول إِلى المسلمين في حياته، ولا تقدر الفتن أن تطلَّ برأسها في عهده.
1-حوارٌ بين عمر وحذيفة حول الفتن (واقتراب كسر الباب):
قال حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ: كنَّا عند ابن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فقال: أيُّكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة ؟ فقلت: أنا أحفظه كما قال ! قال: هاتِ، لله أبوك، إِنَّك لجريءٌ ! قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « فتنة الرَّجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده، وجاره، يكفِّرها الصِّيام، والصَّلاة، والصَّدقة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر ». قال عمر: ليس هذا أريد، إِنَّما أريد الفتنة الَّتي تموج كموج البحر ! قلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين ؟ ! إِنَّ بينك وبينها باباً مغلقاً ! ! قال: فيكسر الباب، أو يفتح ؟ قلت: لا، بل يُكسر ! ! قال: ذاك أحرى ألا يغلق أبداً، حتَّى قيام السَّاعة ! !
قال أبو وائل الرَّاوي عن حذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب ؟ قال حذيفة: نعم كما يعلم أنَّ دون غدٍ اللَّيلة ! إِنِّي حدَّثته حديثاً ليس بالأغاليط. قال أبو وائل: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب ؟ فقلنا لمسروق: سل حذيفة من الباب فقال مسروق لحذيفة: من الباب ؟ قال حذيفة: هو عمر! ! !
إِنَّ حذيفة قدَّم العلم لعمر ـ رضي الله عنهم ـ بأنَّ الباب المنيع هو الَّذي يمنع تدفُّق الفتن على المسلمين، ويحجرُها عنهم، إِنَّ هذا سيُكسر كسراً، وسيتحطَّم تحطيماً، وهذا معناه: أنَّه لن يغلق بعد هذا حتَّى قيام السَّاعة، وهذا ما فهمه عمر، أي: أنَّ الفتن ستبقى منتشرةً ذائعةً بين المسلمين، ولن يتمكَّنوا من إِزالتها، أو توقُّفها، أو القضاء عليها، وحذيفة ـ رضي الله عنه ـ لا يقرِّر هذا من عنده، ولا يتوقَّعه توقُّعاً، فهو لا يعلم الغيب، وإِنَّما سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعاه، وحفظه، كما سمعه، ولهذا يعلِّق على كلامه لعمر قائلاً: إِنِّي حدَّثته حديثاً ليس بالأغاليط، أي: حدَّثته حديثاً صحيحاً صادقاً، لا أغاليط، ولا أكاذيب فيه، لأنَّني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثمَّ إِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ يعلم الحقيقة الَّتي أخبره بها حذيفة، فهو يعلم: أنَّ خلافته بابٌ منيعٌ يمنع تدفُّق الفتن على المسلمين، وأنَّ الفتن لن تغزو المسلمين أثناء خلافته، وعهده، وحياته، وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّه سيقتل قتلاً، وسيلقى الله شهيداً، قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبل أحد، ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف الجبل بهم، فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله، وقال له: اثبت أُحُد: فإِنَّما عليك نبيٌّ، وصدِّيقٌ، وشهيدان.
2 ـ دعاء عمر في اخر حجَّةٍ له سنة 23 هـ:
عن سعيد بن المسيب: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ لمَّا نفر من منى أناخ بالأبطح، فكوَّم كومة من بطحاء، فألقى عليها طرف ثوبه، ثمَّ استلقى عليها، ورفع يديه إِلى السَّماء، فقال: اللَّهُمَّ كبرت سنِّي، وضعفت قوَّتي، وانتشرت رعيَّتي، فاقبضني غير مضيِّعٍ، ولا مفرِّطٍ ! ثمَّ قدم المدينة.
3 ـ طلب الفاروق للشَّهادة:
عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن حفصة ـ زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم ـ: أنَّها سمعت أباها يقول: اللَّهُمَّ ارزقني شهادةً في سبيلك، واجعل موتي في بلد نبيِّك ! وجاء في رواية: اللَّهُمَّ ارزقني قتلاً في سبيلك، ووفاةً في بلد نبيِّك ! قالت: وأنَّى يكون ذلك ؟ قال: يأتي به الله إِذا شاء.
وقد علَّق الشَّيخ يوسف بن الحسن بن عبد الهادي على طلب عمر للشَّهادة، فقال: وتمنِّي الشَّهادة مستحبٌّ، وهو مخالفٌ لتمنِّي الموت. فإِن قيل: ما الفرق بينهما ؟ قيل: تمنِّي الموت، طلب تعجيل الموت قبل وقته، ولا يزيد الإِنسان عمره إِلا خيراً، وتمنِّي الشَّهادة هو أن يطلب أن يموت عند انتهاء أجله شهيداً، فليس فيه طلب تقديم الموت عن وقته، وإِنَّما فيه طلب فضيلةٍ فيه.
4 ـ رؤيا عوف بن مالك الأشجعي:
قال عوف بن مالك الأشجعي: رأيت سبباً تدلَّى من السَّماء، وذلك في إِمارة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وأنَّ النَّاس تطاولوا له، وأنَّ عمر فضلهم بثلاثة أذرع، قلت: وما ذاك ؟ قال: لأنَّه خليفة من خلفاء الله تعالى في الأرض، وأنَّه لا يخاف لومة لائمٍ، وأنَّه يقتل شهيداً، قال: فغدوت على أبي بكرٍ، فقصصتها عليه، فقال: يا غلام ! انطلق إِلى أبي حفص فادعه لي، فلمَّا جاء؛ قال: يا عوف ! اقصصها عليه كما رأيتها، فلمَّا أتيت أنَّه خليفة من خلفاء الله تعالى؛ قال عمر: أكلُّ هذا يرى النَّائم ؟ قال: فقصَّها عليه، فلمَّا ولي عمر أتى الجابية، وإِنَّه ليخطب، فدعاني، فأجلسني، فلمَّا فرغ من الخطبة، قال: قصَّ عليَّ رؤياك. فقلت له: ألست قد جبهتني عنها ؟ قال: قد خدعتك أيُّها الرَّجل.
وجاء في روايةٍ: قال: أو لم تكذب بها ؟ قال: لا، ولكنِّي استحييتُ من أبي بكرٍ، فقصَّها عليَّ. فلمَّا قصصتها، قال: أمَّا الخلافة فقد أوتيتُ ما ترى، وأمَّا ألا أخاف في الله لومة لائم، فإِنِّي أرجو أن يكون قد علم ذلك منِّي، وأمَّا أن أقتل شهيداً، فأنَّى لي بالشَّهادة وأنا في جزيرة العرب.
5-رؤيا أبي موسى الأشعري حول وفاة عمر:
قال أبو موسى الأشعري: رأيت كأنِّي أخذت جواداً كثيراً، فجعلت تضمحلُّ حتَّى بقيت واحدةٌ، فأخذتها، فانتهيت إِلى جبلٍ زلقٍ، فإِذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى جنبه أبو بكر، وإِذا هو يومىء إِلى عمر أن تعال، فقلت: ألا تكتب بها إِلى عمر ؟ فقال: ما كنت لأنعَى له نفسه.
6 ـ اخر خطبة جمعةٍ لعمر في المدينة:
وقد ذكر عبد الرَّحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ بعض ما قاله عمر في خطبة الجمعة 21 ذي الحجَّة 23 هـ، وهي اخر خطبةٍ له، وقد ذكرت ما قاله عبد الرَّحمن ابن عوف من الخطبة عند حديثي عن كيفية استخلاف أبي بكرٍ الصِّدِّيق في كتابي: الانشراح ورفع الضِّيق بسيرة أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وقد أخبر عمر نفسه المسلمين عن رؤيا راها، وعبَرها لهم، قال في نفس الخطبة: إِنِّي رأيت رؤيا، لا أراها إِلا حضور أجلي. رأيت كأنَّ ديكاً نقرني نقرتين ! ! ! وإِنَّ قوماً يأمرونني أن أستخلف، وأعيِّن الخليفة من بعدي ! ! وإِنَّ الله لم يكن ليضيِّع دينه، ولا خلافته، ولا الَّذي بعث به نبيَّه، فإِن عجل بي أمرٌ؛ فالخلافة شورى بين هؤلاء السِّتَّة الَّذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ!
7 ـ اجتماع عمر مع حذيفة قبل طعنه:
قبل استشهاد الفاروق بأربعة أيَّامٍ أي يوم الأحد 23 ذي الحجَّة قابل الصَّحابيَّين: حذيفة بن اليمان، وسهل بن حنيف ـ رضي الله عنهما ـ وكان قد وظَّف حذيفة ليقدِّر خراج الأرض الَّتي تسقى بماء نهر دجلة، ووظَّف سهل بن حنيف ليقدِّر خراج الأرض الَّتي تسقى بماء نهر الفرات، وقال لهما: كيف فعلتما ؟ أخاف أن تكونا قد حمَّلتما الأرض ما لا تطيق ! قالا: حمَّلناها أمراً هي له مطيقةٌ. فقال عمر: لئن سلَّمني الله؛ لأدعنَّ أرامل أهل العراق لا يحتجن إِلى رجلٍ بعدي أبداً. ولكنَّه طعن في اليوم الرَّابع من هذه المحاورة بينه وبينهما.
8 ـ منع الفاروق للسَّبايا من الإِقامة في المدينة:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ لا يأذن للسَّبايا في الأقطار المفتوحة بدخول المدينة المنوَّرة، عاصمة دولة الخلافة، فكان يمنع مجوس العراق، وفارس، ونصارى الشَّام، ومصر من الإِقامة في المدينة إِلا إِذا أسلموا، ودخلوا في هذا الدِّين، وهذا الموقف يدلُّ على حكمته، وبُعد نظره؛ لأنَّ هؤلاء القوم المغلوبين المنهزمين حاقدون على الإِسلام، مبغضون له، مهيَّؤون للتَّامر والكيد ضدَّ الإِسلام والمسلمين، ولذلك منعهم من الإِقامة فيها لدفع الشرِّ عن المسلمين، ولكنَّ بعض الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ كان لهم عبيدٌ، ورقيقٌ من هؤلاء السَّبايا النَّصارى، أو المجوس، وكان بعضهم يلحُّ على عمر أن يأذن لبعض عبيده، ورقيقه من هؤلاء المغلوبين بالإِقامة في المدينة، ليستعين بهم في أموره وأعماله، فأذن عمر لبعضهم بالإقامة في المدينة، على كرهٍ منه، ووقع ما توقَّعه عمر، وما كان حذَّر منه.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf