استكمال فتوحات بلاد الشام زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ ملاحم، انتصارات، ومعاهدات
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثانية والثمانون
أولاً: وقعة فحل:
تحرَّكت القوَّات المكلَّفة بمهاجمة مدينة (فحل) نحو الجنوب، وعندما وصلت مشارفها كانت قوَّة جيش الرُّوم تقارب المئة ألف، تسلَّل أكثرهم من حمص، وانضمَّت إِليهم القرى الَّتي هزمت في معارك سابقةٍ. وعندما وصلت القوَّة المكلَّفة بمحاصرة فحل من جيش المسلمين بقيادة عمَّار بن مخشِّن؛ جابهها جيش الرُّوم بشقِّ التُّرع من بحيرة طبريَّة وسلَّطوا مياهها على الأطيان المحيطة بفحل بقصد إِعاقة جيش الإِسلام وخاصَّة الفرسان، وهذا ما يستخدم في وقتنا الحاضر ضدَّ الدُّروع، وبذلك أعاقوا حركة فرسان المسلمين، لقد جعل الرُّومان من هذه الأوحال خطَّاً دفاعيَّاً منيعاً عن فحل، رغم أنَّها تقع في سهلٍ منبسطٍ، ولو كان هذا السَّهل يابساً؛ لتمكَّن المسلمون بسهولةٍ من اقتحام المدينة؛ لأنَّهم أقدر النَّاس على مباشرة حرب الصَّحراء، وتوقَّف عمارة بن مخشِّن، ووزَّع قوَّاته لحصار فحل، ولم يقتحمها، وذلك للفارق العددي الكبير في القوَّة، ولصعوبة التَّقدُّم، وعدم التَّمكُّن من اجتياز هذا المانع المائي الَّذي عمله الرُّومان.
واقتصر المسلمون على فرض الحصار على مدينة فحل الَّتي يعتصم بها الرُّوم إِلى أن فرغ أبو عبيدة من فتح دمشق العاصمة، وضمَّ جيشه إِلى جيش أبي الأعور السّلمي، وأعاد أبو عبيدة تنظيم قوَّاته على النَّحو التَّالي:
ـ المقدِّمة بقيادة خالد بن الوليد.
ـ الميمنة بقيادة أبي عبيدة بن الجرَّاح.
ـ الميسرة بقيادة عمرو بن العاص.
ـ الفرسان بقيادة ضرار بن الأزور.
ـ قيادة مجموعات المشاة عياض بن غنم.
ـ القيادة العامَّة لشرحبيل بن حسنة، وذلك لأنَّ موقع المعركة هو في حدود المنطقة التَّابعة له، وتسلَّم القيادة شرحبيل بن حسنة، ثمَّ نظَّم إِقامة القوَّات وإِمدادها، ووضع مخطَّطاً لاستنفار القوَّات، وبقاء القوَّة جاهزةً باستمرارٍ لمواجهة الطَّوارىء، وكان شرحبيل لا يبيت، ولا يصبح إِلا على تعبئة، وطال حصار المسلمين لمدينة فحل، وظنَّ الرُّوم: أنَّ باستطاعتهم تحقيق المباغتة، والقيام بهجوم ليليٍّ حاسمٍ، وعلى الرُّوم سقلاب بن مخراق، فهجموا على المسلمين، فنهضوا عليهم نهضةَ رجلٍ واحدٍ؛ لأنَّهم كانوا على أهبَةٍ دائمةٍ.
ودارت معركةٌ حتَّى الصَّباح، وذلك اليوم بكامله إِلى اللَّيل؛ فلمَّا أظلم اللَّيل، فرَّ الرُّوم، وقتل أميرهم، وركب المسلمون أكتافهم، وأسلمتهم هزيمتهم إِلى ذلك الوحل المانع الَّذي أعدُّوه للمسلمين ونتيجة للإِجراءات الأمنيَّة، والاستعداد الَّذي قام به شرحبيل على قوَّاته، حدثت الفوضى في جيش الرُّومان المهاجم، والتَّفرُّغ للهجوم المضادِّ الَّذي شنَّه المسلمون، فوقع الرُّومان لدى انهزامهم في المانع المائيِّ، الَّذي صنعوه بأيديهم حول فحل، فركب المسلمون أكتافهم، ولم ينجُ منهم إِلا الشَّريد، ولقد تمَّت تصفية القوَّة المحاصرة في فحل، وعندها توجَّه المسلمون نحو أهدافهم لمتابعة خطَّة العمليَّات الأساسيَّة، فتمَّ توجيه:
ـ شرحبيل بن حسنة إِلى الأردن.
ـ عمرو بن العاص إِلى فلسطين.
انطلق أبو عبيدة بن الجرَّاح، وخالد بن الوليد إِلى حمص، وعند وصولهما إِلى مرج الرُّوم دارت معركةٌ طاحنةٌ حتَّى غطَّت جثث الموتى السَّهل، وفي هذه المعركة تمكَّن المسلمون من تطبيق مبدأٍ مهمٍّ من مبادىء الحرب، والعمليَّات التَّعرُّضيَّة حيث اصطدمت مقدِّمة الرُّوم بمقدِّمة المسلمين، فعندما شعر (توذرا) باصطدام مقدِّمة جيشه بجيش المسلمين؛ قام بحركة استدارةٍ، وانطلق في اتِّجاه دمشق، وعلم المسلمون بالأمر، ودرسوا الموقف فقرَّر أبو عبيدة توجيه قوَّةٍ بقيادة خالد بن الوليد لمطاردة (توذرا) والانقضاض عليه من الخلف وأبو عبيدة يبقى في مواجهة، ومشاغلة جيش الرُّوم، وفي الوقت نفسه استطاعت استخبارات المسلمين من معرفة حركة، واتِّجاه تقدُّم توذرا، فتقدَّم جيش يزيد بن أبي سفيان للقائه، واشتبك معه، وما أن تمَّ الاصطدام بين توذرا وجيش يزيد حتَّى باغت خالد بن الوليد الرُّوم بضربهم من الخلف وتمَّت تصفية توذرا تصفيةً كاملةً تقريباً.
ـ ممَّا قاله القعقاع بن عمرو في يوم فحل:
وَغَدَاةَ فِحْلٍ قَدْ رَأَوْنِي مَعْلَماً وَالْخَيْلُ تَنْحِطُ وَالْبَلاَ أَطْوَارُ
مَا زَالَتِ الْخَيْلُ العِرَابُ تَدُوْسُهُمْ فِيْ يَوْمِ فِحْلٍ وَالقَنَا مَوَّارُ
حَتَّى رَمَيْنَ سَرَاتَهُمْ عَنْ أَسْرِهِمْ في رِدَّةٍ مَا بَعْدَها اسْتِمْرَارُ
وْمَ الرَّدَاغِ فَعِنْدَ فِحْلٍ سَاعَةٌ خرُّ الرِّمَاحِ عَلَيْهِمُ مَدَّارُ
وَلَقَدْ أَبَدْنَا فِي الرَّدَاغِ جُمُوعَهُمْ طُرَّاً ونَحْوِي تَبْسِمُ الأَبْصَارُ
وقال أيضاً:
وَغَدَاةَ فِحْلٍ قَدْ شَهِدْنَا مَأْقِطاً يَنْسَى الكَمِيُّ سِلاحَهُ فِي الدَّارِ
مَا زِلْتُ أَرْمِيْهِمْ بِقُرْحَةِ كَامِلٍ كَرَّ المُبِيْحِ رَيانَةَ الإبْسَارِ
حَتَّى فَضَضْنَا جَمْعَهُمْ بِتُرْسٍ يَنْفِي العَدُوَّ إِذَا سَمَا جَرَّارِ
نَحْنُ الأولَى جَسُّوا العِراقَ بِتَردُّسٍ والشَّامَ جَسّاً فِي ذُرَى الأَسْفَارِ
ثانياً: فتح بيسان، وطبريَّة:
انصرف أبو عبيدة، وخالدٌ بمن معهما من الجيوش نحو حمص، كما أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب، واستخلف أبو عبيدة على الأردن شرحبيل بن حسنة، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص، فحاصر بيسان، فخرجوا إِليه، فقتل منهم مقتلةً عظيمةً، ثمَّ صالحوه على مثل ما صالحت عليه دمشق، وضرب عليهم الجزية، والخراج على أراضيهم، وكذلك فعل أبو الأعور السّلمي بأهل طبريَّة سواءً.
ثالثاً: وقعة حمص سنة 15 هـ:
واصل أبو عبيدة تتبُّعه للرُّوم المنهزمين إِلى حمص، ونزل حولها يحاصرها، ولحقه خالد ابن الوليد، فحاصروها حصاراً شديداً، وذلك في زمن البرد الشَّديد، وصابر أهلُ البلد رجاء أن يصرف المسلمين عن المدينة شدَّةُ البرد، وصبر الصَّحابة صبراً عظيماً بحيث إِنَّه ذكر غير واحدٍ: أنَّ من الرُّوم من كان يرجع، وقد سقطت رجله، وهي في الخفِّ، والصَّحابة ليس في أرجلهم شيءٌ سوى النِّعال، ومع هذا لم يصب منهم قدمٌ، ولا إِصبع، ولم يزالوا كذلك حتَّى انسلخ فصل الشِّتاء، فاشتدَّ الحصار، وأشار بعض كبار أهل حمص عليهم بالمصالحة، فأبَوا عليه ذلك، وقالوا: أنصالح والملك منَّا قريبٌ ؟ فيقال: إِنَّ الصَّحابة كبَّروا في بعض الأيَّام تكبيرةً ارتجَّت منها المدينة، ووقعت زلزلةٌ تفطَّرت منها بعض الجدران، ثمَّ تكبيرةً أخرى، فسقطت بعض الدُّور، فجاءت عامَّتهم إِلى خاصَّتهم، فقالوا: ألا تنظرون إِلى ما نزل بنا، وما نحن فيه ؟ ألا تصالحون القوم عنَّا ؟ قال: فصالحوهم على ما صالحوا عليه أهل دمشق، على نصف المنازل، وضرب الخراج على الأراضي، وأخذ الجزية على الرِّقاب، بحسب الغنى، والفقر، وبعث أبو عبيدة بالأخماس، والبشارة إِلى عمر مع عبد الله بن مسعود.
وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشاً كثيفاً يكون بها مع جماعةٍ من الأمراء منهم بلال، والمقداد، وكتب أبو عبيدة إِلى عمر يخبره بأنَّ هرقل قد قطع الماء عن الجزيرة وأنَّه يظهر تارةً، ويخفى أخرى، فبعث إِليه عمر يأمره بالمقام ببلده.
رابعاً: وقعة قِنَّسرين سنة 15 هـ:
بعث أبو عبيدة خالد بن الوليد إِلى قنَّسرين، فلمَّا جاءها، ثار إِليه أهلها، ومن عندهم من نصارى العرب، فقاتلهم خالد فيها قتالاً شديداً، وقتل منهم خلقاً كثيراً، فأمَّا من هناك من الرُّوم، فأبادهم، وقتل أميرهم ميناس، وأمَّا الأعراب، فإِنَّهم اعتذروا إِليه بأنَّ هذا القتال لم يكن عن رأينا، فقبل منهم خالدٌ، وكفَّ عنهم، ثمَّ خلص إِلى البلد، فتحصَّنوا فيه، فقال لهم خالد: إِنَّكم لو كنتم في السَّحاب؛ لحملنا الله إِليكم، أو لأنزلكم إِلينا، ولم يزل بها حتَّى فتحها الله عليه، فلمَّا بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الموقعة؛ قال: يرحم الله أبا بكرٍ، كان أعلم بالرِّجال منِّي، والله إِنِّي لم أعزله عن ريبةٍ ! ولكن خشيت أن يوكل النَّاس إِليه.
خامساً: وقعة قيساريَّة سنة 15 هـ:
وفي هذه السَّنة أمر عمر معاوية بن أبي سفيان على قيساريَّة، وكتب إِليه: أمَّا بعد: فقد ولَّيتك قيساريَّة فسر إِليها، واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول: لا حول ولا قوَّة إِلا بالله العليِّ العظيم، الله ربُّنا، وثقتنا، ورجاؤنا، ومولانا، فنعم المولى، ونعم النَّصير، فسار إِليها، فحاصرها، وزاحفه أهلها مرَّاتٍ عديدةً، وكان اخرها وقعةً أن قاتلوا قتالاً عظيماً، وصمَّم عليهم معاوية، واجتهد في القتال حتَّى فتح الله عليه، فما انفصل الحال حتَّى قتل منهم نحواً من ثمانين ألفاً، وكمل المئة الألف من الَّذين انهزموا عن المعركة، وبعث بالفتح والأخماس إِلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
هذا؛ ويرى الدُّكتور عبد الرَّحمن الشُّجاع: أنَّ مدن الشَّام تساقطت تحت ضربات المجاهدين الواحدة تلو الأخرى؛ لأنَّ الرُّوم كانوا من الهزيمة بمكانٍ لا تجعلهم يفكِّرون في المقاومة، فتساقطت مدن بيروت، وصيدا، ونابلس، واللِّد، وحلب، وإِنطاكية، وكانت قيساريَّة اخر مدن الشَّام فتحاً على يد معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك بعد فتح القدس.
سادساً: فتح القدس 16 هـ:
كان على فلسطين قائدٌ رومانيٌّ يدعى: (الأرطبون) أي: القائد الكبير الَّذي يلي الإِمبراطور، وكان هذا أدهى الرُّوم، وأبعدهم غوراً، وأنكاهم فعلاً، وكان قد وضع بالرَّملة جنداً عظيماً، وبإِيلياء جنداً عظيماً، وكتب عمرو بن العاص إِلى عمر ـ رضي الله عنهما ـ يخبره بذلك، ويستشيره، ويستأمره، فقال عمر كلمته الشَّهيرة: قد رمينا أرطبون الرُّوم بأرطبون العرب، فانظروا عمَّا تنفرجوكان يقصد بذلك أنَّ كِلا القائدين أدهى الرِّجال في قومهما، وكانت معركة أجنادين الثَّانية (15 هـ) الَّتي انتصر فيها عمرو على الرُّوم قد مهَّدت الطَّريق إِلى فلسطين.
وقد بدأت معركة القدس عمليَّاً، قبل معركة أجنادين الثَّانية (15 هـ) ذلك: أنَّ أرطبون الرُّوم كان قد وزَّع (جنداً عظيماً) له في كلٍّ من إِيلياء، والرَّملة ـ كما سبق أن قدَّمنا ـ وبين الرَّملة، وإِيلياء ـ أي: القدس ـ ثمانية عشر ميلاً، وذلك تحسُّباً لأي هجومٍ من قبل المسلمين بقيادة عمرو بن العاص على المدينتين اللَّتين كانتا أهمَّ مدن (كورة فلسطين) إِذ كانت الرَّملة (قصبة فلسطين) وكانت إِيلياء أكبر مدنها، وكان على الرُّوم في إِيلياء حاكمها الأرطبون، وهو الأرطبون نفسه الَّذي كان قد لجأ وفلول جيشه إِليها بعد هزيمتهم في أجنادين، وكان عليهم في الرَّملة التَّذارق.
وهذه أهمُّ المراحل؛ الَّتي مرَّ بها المسلمون عند فتحهم للقدس:
1 ـ المشاغلة:
كانت خطَّة الخليفة عمر أن يشغل الرُّوم عن عمرو في فلسطين ريثما يتمُّ الانتصار على حشودهم في أجنادين، حتَّى يتفرَّغ المسلمون بعدها لفتح القدس، وما تبقَّى من بلاد الشَّام، فأمر معاوية أن يتوجَّه بخيله إِلى قيساريَّة ليشغل حاميتها عن عمرو، وأمَّا عمرو فكان قد اعتمد الخطَّة نفسها؛ الَّتي اعتمدها الخليفة، فأرسل كلاًّ من علقمة بن حكيم الفراسي، ومسروق بن فلان المكِّيِّ على رأس قوَّةٍ لمشاغلة حامية الرُّوم في إِيلياء، فصاروا بإِزاء أهل إِيلياء، فشغلوهم عن عمرو، ثمَّ أرسل أبا أيُّوبٍ المالكيَّ على رأس قوَّةٍ أخرى لمشاغلة حاميتهم في الرَّملة، وما إِن وصلت الإِمدادات إِلى عمرو حتَّى أرسل محمَّد بن عمرو مع مددٍ لقوَّاته المرابطة في مواجهة حامية إِيلياء، كما أرسل عمارة بن عمرو بن أميَّة الضَّمري مع مددٍ لقوَّاته المرابطة في مواجهة حامية الرَّملة، أمَّا هو؛ فأقام في أجنادين بانتظار المعركة الحاسمة مع الأرطبون.
وفي هذه الأثناء كانت حامية إِيلياء تصدُّ المسلمين عن أسوارها، وكان القتال يستعرُ حول المدينة المقدَّسة بينما كان المسلمون، والرُّوم يحتشدون للقتال في أجنادين، وكانت معركة أجنادين عنيفةً؛ إِذ يقول الطَّبري فيها: اقتتلوا ـ أي: المسلمون، والرُّوم ـ قتالاً شديداً كقتال اليرموك؛ حتَّى كثرت القتلى بينهم، فقد نازل أرطبون العرب أرطبون الرُّوم في أجنادين فهزمه، وارتدَّ أرطبون الرُّوم، وجنده ليحتموا بأسوار المدينة المقدَّسة، فأفرج له المسلمون حتَّى دخلها، ويذكر الطَّبري أنَّ كلاًّ من علقمة، ومسروق، ومحمَّد بن عمرو، وأبي أيُّوب التحقوا بعمرو في أجنادين، وسار عمرو بجيشه جميعاً نحو إِيلياء لمحاصرتها.
اجتمع المسلمون بقيادة عمرو بن العاص حول إِيلياء، وضرب عمرو على المدينة حصاراً شديداً، وكانت المدينة حصينةً، ومنيعةً، ويصف الواقديُّ أسوار المدينة بأنَّها كانت محصَّنةً بالمجانيق، والطَّوارق، والسُّيوف، والدُّرق، والجواشن، والزَّرد الفاخرة، ويذكر: أنَّ القتال بدأ بعد ثلاثة أيَّامٍ من الحصار، حيث تقدَّم المسلمون نحو أسوار المدينة، فأمطرتهم حاميتها بوابلٍ من السِّهام، والنِّبال؛ الَّتي كان المسلمون يتلقَّونها (بدرقهم) وكان القتال يمتدُّ من الصَّباح إِلى غروب الشَّمس، واستمرَّ على هذا المنوال عدَّة أيَّامٍ، حتَّى كان اليوم الحادي عشر؛ إِذ أقبل أبو عبيدة على المسلمين ومعه خالدٌ، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر، ومعهم فرسان المسلمين، وأبطال الموحِّدين ممَّا ألقى الجزع في قلوب أهل إِيلياء، واستمرَّ الحصار أربعة أشهر ما من يومٍ إِلا وجرى فيه قتالٌ شديدٌ، والمسلمون صابرون على البرد، والثَّلج، والمطر إِلى أن يئس الرُّوم من مقاومة حصار المسلمين لمدينتهم، فقرَّر بطريقهم (البطريق صفرونيوس) القيام بمحاولة أخيرة، وكتب إِلى عمرو بن العاص، قائد جيش المسلمين رسالة يغريه فيها بفكِّ الحصار لاستحالة احتلال المدينة.
3 ـ الاستسلام:
كتب أرطبون الرُّوم إِلى عمرو بن العاص يقول له: إِنَّك صديقي، ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح من فلسطين شيئاً بعد أجنادين ! فارجع، ولا تُغَرَّ، فتلقى ما لقي الَّذين قبلك من الهزيمة. فكتب إِليه عمرو كتاباً يقول فيه: إِنَّه (صاحب فتح هذه البلاد)؛ وأرسل الكتاب مع رسولٍ، وأمره أن ينقل إِليه ردَّ الأرطبون، فلمَّا قرأ الأرطبون كتاب عمر؛ ضحك ممَّا جاء فيه، وقال: إِنَّ صاحب فتح بيت المقدس هو رجلٌ اسمه: « عمر »، ونقل الرَّسول إِلى عمرو ما سمعه من الأرطبون، فعرف عمرو: أنَّ الرَّجل الَّذي يعنيه الأرطبون هو الخليفة، فكتب إِلى الخليفة يخبره بما جاء على لسان الأرطبون: أنَّه لا يفتح المدينة إِلا هو، ويستمدُّه، ويستشيره قائلاً: إِنِّي أعالج حرباً كؤوداً صدوماً، وبلاداً ادُّخرت لك، فرأيك، فخرج الخليفة ـ بعد الاستشارة ـ في مددٍ من الجند إِلى الشَّام بعد أن استخلف على المدينة عليَّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ ونزل بالجابية، فجاءه أهل إِيلياء (فصالحوه على الجزية، وفتحوها له.
4 ـ اختلاف الرِّوايات فيمن حاصر القدس، والتَّحقيق فيها:
روى الطَّبريُّ أكثر من روايةٍ في حصار القدس، وقد ذكرت: أنَّ الَّذي حاصرها هو عمرو بن العاص، وذكر روايةً أخرى قال فيها: كان سبب قدوم عمر إِلى الشَّام: أنَّ أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلبت أهلها منه أن يصالحهم على صلح مدن أهل الشَّام، وأن يكون المتولِّي للعقد عمر بن الخطَّاب، فكتب إِليه ذلك، فسار عن المدينة بعد أن استخلف عليها (عليَّاً)، وخرج (ممدَّاً لهم) أي: لعسكر الشَّام.
ويروي ابن الأثير روايتين مماثلتين لروايتي الطَّبري، بل متشابهتين في النَّصِّ إِلى حدٍّ كبيرٍ، وينسب الواقديُّ حصار القدس، وما جرى خلاله من تشاورٍ مع الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ ومن تفاوض مع حاميتها الرُّوميَّة إِلى أبي عبيدة، فيذكر: أنَّ أبا عبيدة سرَّح إِلى بيت المقدس خمسة وثلاثين ألف مقاتل بقيادة سبعة قادة مع كلٍّ خمسة الاف، وهم: خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، والمرقال بن هاشم بن أبي وقَّاص، والمسيب بن نجيَّة الفزاري، وقيس بن هبيرة المرادي، وعروة بن المهلل بن يزيد، سرَّحهم في سبعة أيَّامٍ كلَّ يومٍ قائد، ثمَّ لحق بهم بعد أن نشب القتال عدَّة أيَّامٍ بينهم وبين حامية المدينة. ويستطرد الواقديُّ: فيقول: إِنَّ أهل إِيلياء جاؤوا إِلى أبي عبيدة يعرضون عليه دخول المدينة صلحاً على أن يتمَّ الصُّلح على يدي خليفة المسلمين عمر، ثمَّ يذكر رواية مشابهةً لتلك الَّتي رواها كلٌّ من الطَّبري، وابن الأثير، ويضيف: أنَّ أبا عبيدة كتب إِلى الخليفة يخبره بما جرى، فسار الخليفة إِلى بيت المقدس ونزل عند أسوار المدينة، فخرج إِليه بِطْرِيقُها، وتعرَّف إِليه، وقال: هذا والله الَّذي نجد صفته، ونعته في كتبنا، ومن يكون فتح بلادنا على يديه.
ثُمَّ عاد إِلى قومه يخبرهم، فخرجوا مسرعين، وكانوا قد ضاقت أنفسهم من الحصار، ففتحوا الباب، وخرجوا إِلى عمر بن الخطَّاب يسألونه العهد، والميثاق، والذِّمَّة، ويقرُّون له بالجزية، ونحن نستبعد رواية الواقدي هذه؛ لاعتقادنا أنَّه بينما كان عمرو بن العاص، يحاصر القدس، كان رفاقه من قادة المسلمين بعد اليرموك، ودمشق، وفحل، يجوبون أنحاء بلاد الشَّام غانمين منتصرين، فيحتلُّ أبو عبيدة ومعه خالد بن الوليد، حمص، وحماة، وقنَّسرين، وحلب، ثمَّ يسلك طريق السَّاحل الشَّامي جنوباً فيستولي على إِنطاكية، واللاذقية، وعرقة، ويحتلُّ يزيد بن أبي سفيان السَّاحل جنوباً من بيروت إِلى صيدا، وشمالاً من عسقلان إِلى صور، ولكنَّ البلاذري يذكر في روايةٍ له: أنَّ عمرو بن العاص هو الَّذي حاصر القدس بعد أن فتح رفح، وأنَّ أبا عبيدة قدم عليه.. بعد أن فتح قنَّسرين، ونواحيها، وذلك في سنة 16 هـ وهو محاصر إِيلياء، وإِيلياء مدينة بيت المقدس، وأنَّ أهل إِيلياء طلبوا من أبي عبيدة (الأمان، والصُّلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشَّام) على أن يتولَّى العقد لهم عمر بن الخطَّاب نفسه، وقد كتب أبو عبيدة إِلى الخليفة بذلك، فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق، ثمَّ صار إِلى إِيلياء، فأنفذ صلح أهلها، وكتب به، وكان فتح إِيلياء في سنة 17 هـ ويضيف البلاذري بعد ذلك: وقد روي في فتح إِيلياء وجهٌ اخر.
ومع أنَّنا نرجِّح الرواية الأولى الَّتي أوردها الطَّبري، وهي أنَّ حصار القدس تمَّ على يد عمرو ابن العاص، وليس على يد أبي عبيدة، فنحن نرى: أنَّه لم يكن صعباً على أبي عبيدة أن يلتحق بالخليفة عمر في الجابية للتَّشاور معه حول أمور الفتح باعتباره القائد العامَّ لجيوش المسلمين في الشَّام، وخصوصاً عندما نعلم: أنَّ أبا عبيدة كان ثاني من لقي بعد الخليفة يزيد حين وصوله إِلى الجابية واستدعائه لسائر أمراء الأجناد في الشَّام للتَّشاور، وأنَّ أبا عبيدة حضر مع يزيد، وشرحبيل، وكبار قادة المسلمين في الشَّام عقد الصُّلح، والأمان، وتسليم المدينة. إِلا أنَّه لم يشهد على هذا العقد، كما شهد عليه كلٌّ من عمرو بن العاص، وعبد الرَّحمن ابن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، كما يستدلُّ من نصِّ المعاهدة نفسها، وليس لدينا أيُّ تفسير لذلك سوى: أنَّ أبا عبيدة لم يكن قائد الجيش الَّذي حاصر المدينة المستسلمة، بل هو عمرو.
5 ـ نصُّ المعاهدة:
وفيما يلي نصُّ المعاهدة، كما أوردها الطَّبري:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم: هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إِيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها، وبريئها وسائر ملَّتها: أنَّه لا تُسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقض منها، ولا من حيِّزها، ولا من صلبهم، ولا من شيءٍ من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضارَّ أحدٌ منهم، ولا يسكن بإِيلياء معهم أحدٌ من اليهود، وعلى أهل إِيلياء أن يعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الرُّوم واللُّصوت (اللُّصوص) فمن خرج منهم فإِنَّه امن على نفسه، وماله حتَّى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم؛ فهو امن، وعليه مثل ما على أهل إِيلياء من الجزية، ومن أحبَّ من أهل إِيلياء أن يسير بنفسه، وماله مع الرُّوم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإِنَّهم امنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتَّى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان؛ فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إِيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الرُّوم، ومن شاء رجع إِلى أهله، فإِنَّه لا يؤخذ منهم شيءٌ حتَّى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمَّة رسوله، وذمَّة الخلفاء، وذمَّة المؤمنين إِذا أعطوا الَّذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرَّحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب، وحضر سنة خمس عشرة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط: