أهمُّ الدُّروس، والعبر، والفوائد من فتوحات العراق والمشرق زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثمانون
أوَّلاً: أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين:
كان للآيات والأحاديث الَّتي تتحدَّث عن فضل الجهاد أثرها في نفوس المجاهدين، فقد بيَّن المولى ـ عزَّ، وجلَّ ـ أنَّ حركات المجاهدين كلَّها يثاب عليها، قال تعالى: {مَا كَانَ لأِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ *وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [سورة التوبة: 120، 121].
وقد أيقن المسلمون الأوائل: أنَّ الجهاد تجارةٌ رابحةٌ، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنَجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ *} [سورة الصَّف:10ـ 13]
وقد تعلَّموا: أنَّ الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحجَّاج فيه، قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ *يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ *} [التَّوبة: 19 ـ 22].
اعتقدوا: أنَّ الجهاد فوزٌ على كلِّ حالٍ، قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ *} [التوبة: 52].
وأنَّ الشَّهيد لا تنقطع حياته بل هو حيٌّ؛ قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ *} [ال عمران: 169 ـ 171].
وكانوا يشعرون بسموِّ هدفهم الَّذي يقاتلون من أجله، قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا *وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا *الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا *} [النِّساء: 74 ـ 76].
وقد بيَّن الرَّسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين فضل الجهاد، فألهبت تلك الأحاديث مشاعرهم، وفجَّرت طاقاتهم، ومن هذه الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قيل: يا رسول الله، أيُّ النَّاس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مؤمنٌ يجاهد بنفسه وماله »، وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم درجات المجاهدين، قال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ في الجنَّة مئة درجةٍ، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدَّرجتين كما بين السَّماء والأرض، فإِذا سألتم الله؛ فاسألوه الفردوس، فإِنَّه أوسط الجنَّة، وأعلى الجنة ».
وقد وضَّح صلى الله عليه وسلم فضل الشُّهداء وكرامتهم، فقال: « انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إِلا إِيمانٌ بي، وتصديقٌ برسلي أن أرجعه بما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ، أو أدخله الجنَّة، ولولا أن أشقَّ على أمَّتي ما قعدت خلف سريةٍ، ولوددتُ أنِّي أقتل في سبيل الله، ثمَّ أحيا، ثم أقتل، ثمَّ أحيا، ثمَّ أقتل »، وقال صلى الله عليه وسلم: « ما أحدٌ يدخل الجنَّة يحبُّ أن يرجع إِلى الدُّنيا وله ما على الأرض من شيءٍ إِلا الشَّهيد، يتمنَّى أن يرجع إِلى الدُّنيا، فيقتل عشر مرَّاتٍ؛ لما يرى من الكرامة ». وغير ذلك من الأحاديث.
وقد تأثَّر المسلمون الأوائل، ومن سار على نهجهم بهذه الآيات، والأحاديث، فكان كبار الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ يغزون، وقد شاخوا، فيشفق عليهم النَّاس، وينصحونهم بالقعود عن الغزو؛ لأنَّهم معذورون، فيجيبونهم: أنَّ سورة التَّوبة تأبى عليهم القعود، ويخافون على أنفسهم من النِّفاق؛ إِذا ما تخلَّفوا عن الغزو.
ثانياً: من ثمرات الجهاد في سبيل الله:
كان الصَّحابة، والتَّابعون بإِحسانٍ في العهد الرَّاشديِّ يرون: أنَّ الجهاد في سبيل الله ضرورةٌ من ضرورات بقاء الأمَّة الإِسلاميَّة، فقاموا بهذه الفريضة في فتوحات العراق، وبلاد المشرق، والشَّام، ومصر، والشَّمال الأفريقي، وترتَّب على قيامهم لهذه الفريضة ثمراتٌ كثيرةٌ منها: تأهيل الأمَّة الإِسلاميَّة لقيادة البشريَّة، القضاء على شوكة الكفَّار، وإِذلالهم، وإِنزال الرُّعب في قلوبهم، ظهور صدق الدَّعوة للنَّاس، الأمر الَّذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجاً، فيزداد المسلمون بذلك عزَّاً، والكفار ذلاًّ، وتوحَّدت صفوف المسلمين ضدَّ أعدائهم، وأسعدوا النَّاس بنور الإِسلام، وعدله، ورحمته.
ثالثاً: من سنن الله في فتوحات العراق، وبلاد المشرق:
يلاحظ الباحث في دراسته لفتوحات العراق، وبلاد المشرق بعض سنن الله في المجتمعات، والشُّعوب، والدُّول، ومن هذه السُّنن:
1 ـ سنَّة الأخذ بالأسباب:
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ *} [الأنفال: 60]. وقد طبَّق الفاروق ـ رضي الله عنه ـ في عهده هذه الآية، وأخذ بالأسباب المادِّيَّة، والمعنويَّة، كما مرَّ معنا.
2 ـ سنَّة التَّدافع:
قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ *} [البقرة: 251].
وقد تحقَّقت هذه السُّنَّة في حركة الفتوحات عموماً، وسنَّة التَّدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه، وخلقه، وهي من أهمِّ السُّنن المتعلِّقة بالتَّمكين للأمَّة الإِسلاميَّة، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السُّنَّة، وعملوا بها، وعلموا: أنَّ الحقَّ يحتاج إِلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضي به، وقلوبٍ تحنو عليه، وأعصابٍ ترتبط به، إِنَّه يحتاج إِلى جهدٍ بشريٍّ؛ لأنَّ هذه سنَّة الله في الحياة الدُّنيا، وهي ماضيةٌ.
3 ـ سنَّة الابتلاء:
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ *} [البقرة: 214].
وقد وقع البلاء في فتوحات العراق في معركة جسر أبي عبيدٍ على الخصوص حيث قتل الالاف من المسلمين، وهزم جيشهم، ثمَّ أعادوا صفوفهم، وحقَّقوا انتصاراتٍ عظيمةً على الفرس، وقد قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [ال عمران: 186].
ومن الملاحظ من خلال الآيات الكريمة: أنَّ تقرير سنَّة الابتلاء على الأمَّة الإِسلاميَّة جاء في أقوى صورةٍ من الجزم، والتَّأكيد، وهذه سنَّة الله تعالى في العقائد، والدَّعوات لا بدَّ من بلاءٍ، ولا بدَّ من أذىً في الأموال، والأنفس، ولا بدَّ من صبرٍ، ومقاومةٍ، واعتزامٍ.
4 ـ سنَّة الله في الظُّلم، والظَّالمين:
قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ *وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ *وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ *} [هود: 100ـ 102]، وسنَّة الله مطَّردةٌ في هلاك الأمم الظَّالمة، وقد مارست الدَّولة الفارسيَّة الظُّلم على رعاياها، تمرَّدت على منهج الله، فمضت فيها سنَّة الله، وسلَّط الله عليها المسلمين، فأزالوها من الوجود.
5 ـ سنَّة الله في المترفين:
قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *} [الإِسراء: 16].
وجاء في تفسيرها: وإِذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطَّاعة مترفيها ـ أي: متنعِّميها، وجبَّاريها، وملوكها ـ ففسقوا فيها، فحقَّ عليها القول، فأهلكناها. وإِنَّما خصَّ الله تعالى المترفين بالذِّكر مع توجُّه الأمر بالطَّاعة إِلى الجميع؛ لأنَّهم أئمَّة الفسق، ورؤساء الضَّلال، وما وقع من سواهم إِنَّما وقع باتِّباعهم، وإِغوائهم، فكان توجُّه الأمر إِليهم اكد، وقد مضت هذه السُّنَّة في زعماء الفرس، وأئمَّتهم.
6 ـ سنَّة الله في الطُّغيان، والطَّغاة:
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ *} [الفجر: 14]، والآية وعيدٌ للعصاة مطلقاً. وقيل: وعيدٌ للكفرة. وقيل: وعيدٌ للعصاة، ووعيدٌ لغيرهم.
وفي تفسير القرطبيِّ: أي: يرصد كلَّ إِنسانٍ حتَّى يجازيه به.
وواضحٌ من أقوال المفسِّرين في الآيات الَّتي ذكرناها في الفقرة السَّابقة: أنَّ سنَّة الله في الطُّغاة إِنزال العقاب بهم في الدُّنيا، فهي سنَّةٌ ماضيةٌ لا تتخلَّف، جرت على الطُّغاة السَّابقين، وستجري على الحاضرين، والقادمين، فلن يفلت أحدٌ منهم من عقاب الله في الدُّنيا، كما لا يفلت أحدٌ منهم من عقاب الاخرة.
وسنَّة الله في الطُّغاة، وما ينزله الله بهم من عقابٍ في الدُّنيا إِنَّما يعتبر بها مَنْ يخشى الله جلَّ جلاله، ويخاف عقابه، ويعلم: أنَّ سنَّة الله قانونٌ ثابتٌ لا يحابي أحداً، قال تعالى في بيان المعتبرين بسنَّته في الطُّغاة بعد أن ذكر ما حلَّ بفرعون من سوء العقاب: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى *إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى *} [النَّازعات: 25، 26]، فهؤلاء الطُّغاة من زعماء الفرس مضت فيهم سنَّة الله.
7 ـ سنَّة التَّدرُّج:
خضعت فتوح العراق، وبلاد المشرق لسنَّة التَّدرُّج، فكانت المرحلة الأولى في عهد الصِّدِّيق، حيث تمَّ فتح الحيرة بقيادة خالد بن الوليد، وأمَّا المرحلة الثَّانية؛ فتبدأ من تولِّي أبي عبيد الثَّقفي قيادة جيوش العراق حتَّى معركة البويب، وأمَّا المرحلة الثَّالثة؛ فتبدأ منذ تأمير سعد بن أبي وقَّاص على الجهاد في العراق إِلى ما قبل وقعة نهاوند، وتبدأ المرحلة الرَّابعة من وقعة نهاوند. وأمَّا المرحلة الخامسة؛ فهي مرحلة الانسياح في بلاد الأعاجم.
إِنَّ حركة الفتوحات يتعلَّم منها أبناء المسلمين أهمِّيَّة مراعاة سنَّة التَّدرُّج في العمل للتَّمكين لدين الله، ومنطلق هذه السُّنَّة: أنَّ الطَّريق طويلٌ، ولذلك لا بدَّ من فهم، واستيعاب هذه السُّنَّة بالنسبة للعاملين في مجال الدَّعوة الإِسلاميَّة، فالتَّمكين لدين الله في العراق، وبلاد المشرق لم يتحقَّق بين عشيَّةٍ وضحاها، ولكنَّه خضع بإِرادة الله لهذه السُّنَّة.
8 ـ سنَّة تغيير النُّفوس:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرَّعد: 11].
وقد قام الصَّحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ في فتوحات العراق، وبلاد المشرق بالعمل بهذه السُّنَّة الرَّبَّانيَّة مع الشُّعوب الَّتي أرادت أن تدخل في دين الله، فشرعوا في تربية النَّاس على كتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فغرسوا في نفوسهم العقائد الصَّحيحة، والأفكار السَّليمة، والأخلاق الرَّفيعة.
9 ـ سنَّة الله في الذُّنوب، والسَّيِّئات:
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ *} [الأنعام: 6].
وقد أهلك الله تعالى أمَّة الفرس بسبب ذنوبهم الَّتي اقترفوها، والَّتي من أعظمها الكفر، والشِّرك بالله، وفي هذه الآية حقيقةٌ ثابتةٌ، وسنَّةٌ مطَّردةٌ: أنَّ الذُّنوب تهلك أصحابها، وأنَّ الله تعالى هو الَّذي يهلك المذنبين بذنوبهم، وقد سلَّط الله أمَّة الإِسلام على الفرس عندما حقَّقت شروط التَّمكين، وعملت بسننه، وأخذت بأسبابه.
رابعاً: الأحنف بن قيس يغيِّر مجرى التَّاريخ:
كان عمر متمسِّكاً برأيه في الاقتصار على ما فتح من فارسٍ، ومنع جيوشه من التَّوغُّل في المشرق، ولا سيَّما بعد أن انكسر الهرمزان، وفتح المسلمون الأهواز.
فقال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم، والأهواز، ووددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نارٍ، لا يصلون إِلينا، ولا نصل إِليهم، وقال لأهل الكوفة: وددت: أنَّ بينهم وبين الجبل جبلاً من نارٍ، لا يصلون إِلينا، ولا نصل إِليهم.
وفاوض عمر الوفد في هذا الأمر، فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين ! أخبرك: إِنَّك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإِنَّ ملك فارس حيٌّ بين أظهرهم، وإِنَّهم لا يزالون يساحلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان فاتَّفقا ـ أي: التقيا ـ حتَّى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت: أنَّا لم نأخذ شيئاً إِلا بانبعاثهم، وإِن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم؛ حتَّى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتَّى نزيله عن فارسٍ، ونخرجه من مملكته، وغرامته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس، ويضربون جأشاً. فقال عمر للأحنف: صدقتني والله، وشرحت لي الأمر على حقِّه.
وأذن عمر بالانسياح في بلاد فارس، وانتهى في ذلك إِلى رأي الأحنف، وعرف فضله، وصدقه، فساحوا في تلك البلاد، ودفعَ لواء خراسان إِلى الأحنف، ووزَّع بقيَّة الألوية إِلى الأبطال من قادة المجاهدين، ورسم لهم خطَّة الحرب، والتَّقدُّم، ثمَّ جعل يمدُّهم بالجيوش من ورائهم.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf