فتح دمشق زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ الظروف والتطورات
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الحادية والثمانون
كان أوَّل خطابٍ وصل إِلى الشَّام من الخليفة عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ يحمل نبأ وفاة أبي بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وتولية أبي عبيدة على الشَّام، وقد جاء فيه: أمَّا بعد، فإِنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفِّي، فإِنَّا لله، وإِنَّا إِليه راجعون، ورحمة الله وبركاته على أبي بكرٍ الصِّدِّيق العامل بالحقِّ، والاخذ بالعرف، اللَّيِّن، السِّتِّير، الوادع، السَّهل، القريب، الحكيم، ونحتسب مصيبتنا فيه، ومصيبة المسلمين عامَّة عند الله تعالى، وأرغب إِلى الله في العصمة بالتُّقى في مرحمته، والعمل بطاعته ما أحيانا، والحلول في جنَّته إِذا توفَّانا، فإِنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق، وقد ولَّيتك جماعة المسلمين، فابثث سراياك في نواحي أهل حمص، ودمشق، وما سواها من أرض الشَّام، وانظر في ذلك برأيك، ومن حضرك من المسلمين، ولا يحملنَّك قولي هذا على أن تعري عسكرك، فيطمع فيك عدوُّك، ولكن من استغنيت عنه؛ فسيِّره، ومن احتجت إِليه في حصارك؛ فاحتبسه، وليكن فيمن تحتبس خالد بن الوليد فإِنَّه لا غنى بك عنه.
وعند وصول الكتاب دعا أبو عبيدة معاذ بن جبل، فأقرأه الكتاب، وقال حامل الرِّسالة: يا أبا عبيدة ! إِنَّ عمر يقول لك: أخبرني عن حال النَّاس، وعن خالد بن الوليد، أيُّ رجل هو ؟ وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان، وعن عمرو بن العاص، وكيف هما في حالهما، وهيئتهما، ونصحهما للمسلمين.
وأجاب أبو عبيدة رسول عمر، وكتب أبو عبيدة، ومعاذ بن جبل كتاباً واحداً إِلى عمر، جاء فيه: من أبي عبيدة بن الجرَّاح ومعاذ بن جبل إِلى عمر بن الخطَّاب، سلامٌ عليكم، فإِنَّا نحمد إِليك الله الَّذي لا إِله إِلا هو، أمَّا بعد: فإِنَّا عهدناك وأمر نفسك لك مهمٌّ، وإِنَّك يا عمر !
أصبحت وقد وليت أمر أمَّة محمَّدٍ: أحمرها، وأسودها، يقعد بين يديك العدوُّ والصَّديق، والشَّريف والوضيع، والشَّديد والضَّعيف، ولكلٍّ عليك حقٌّ، وحقُّه من العدل، فانظر كيف تكون يا عمر ! وإِنَّنا نذكرك يوماً تُبلى فيه السَّرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المخبَّات، وتعنو فيه الوجوه لملكٍ قاهرٍ، قهرهم بجبروته، والنَّاس له داخرون، ينتظرون قضاءَه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإِنَّه بلغنا أنَّه يكون في هذه الأمَّة رجالٌ إِخوان العلانيَّة، أعداء السَّريرة، وإِنَّا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة الَّتي أنزلناها من أنفسنا، والسَّلام عليك، ورحمة الله.
_حوارٌ بين خالدٍ، وأبي عبيدة رضي الله عنهما:
علم خالد بأمر عزله، فأقبل حتَّى دخل على أبي عبيدة، فقال: يغفر الله لك ! أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية، فلم تعلمني وأنت تصلِّي خلفي، والسُّلطان سلطانك ؟ فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك ! ما كنت لأعلمك ذلك حتَّى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتَّى ينقضي ذلك كلُّه، ثمَّ قد كنت أعلمك ـ إِن شاء الله ـ وما سلطان الدُّنيا أريد، وما للدُّنيا أعمل، وإِنَّ ما ترى سيصير إِلى زوالٍ، وانقطاعٍ، وإِنَّما نحن إِخوانٌ، وقوَّامٌ بأمر الله عزَّ وجلَّ، وما يضرُّ الرَّجل أن يلي عليه أخوه في دينه، ولا دنياه، بل يعلم الوالي: أنَّه يكاد أن يكون أدناهما إِلى الفتنة، وأوقعهما في الخطيئة؛ لما يعرض له من الهلكة، إِلا من عصم الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ وقليلٌ ما هم. ودفع أبو عبيدة كتاب عمر إِلى خالد.
_ عمر ـ رضي الله عنه ـ يردُّ على رسالة أبي عبيدة، ومعاذ رضي الله عنهما:
عندما وصل كتاب أبي عبيدة ومعاذ بواسطة شدَّاد بن أوس بن ثابت بن أخي حسَّان بن ثابت الأنصاري ردَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ على كتابهما، وجاء فيه:.. فإِنِّي أحمد إِليكما الله الَّذي لا إِله إِلا هو، أمَّا بعد: فإِنِّي أوصيكما بتقوى الله، فإِنَّه رضاء ربِّكما، وحظُّ أنفسكما، وغنيمة الأكياسلأنفسهم عند تفريط العجزة، وقد بلغني كتابكما، تذكران: أنَّكما عهدتماني وأمر نفسي لي مهمٌّ، فما يدريكما ؟ وهذه تزكيةٌ منكما لي، وتذكران: أنِّي وُلِّيت أمر هذه الأمة، يقعد بين يديَّ الشَّريف والوضيع، والعدوُّ والصَّديق، والقويُّ والضَّعيف، ولكلٍّ حصَّته من العدل، وتسألانني كيف أنا عند ذلك، وإِنَّه لا حول، ولا قوَّة إِلا بالله، وكتبتما تخوِّفاني يوماً هو اتٍ، وذلك باختلاف اللَّيل والنَّهار، فإِنهما يبليان كلَّ جديدٍ، ويقرِّبان كلَّ بعيدٍ، ويأتيان بكلِّ موعودٍ، حتَّى يأتيا بيوم القيامة، يوم تُبلى السَّرائر، وتُكشف العورات، وتعنو فيه الوجوه لعزَّة ملكٍ قهرهم بجبروته، فالنَّاس له داخرون، يخافون عقابه، وينتظرون قضاءه، ويرجون رحمته. وذكرتما أنَّه بلغكما: أنَّه يكون في هذه الأمَّة رجالٌ يكونون إِخوان العلانيَّة، أعداء السَّريرة، فليس هذا بزمانٍ ذلك، فإِنَّ ذلك يكون في اخر الزَّمان إِذا كانت الرَّغبة، والرَّهبة، رغبة النَّاس، ورهبتهم بعضهم إِلى بعضٍ. والله ـ عزَّ وجلَّ ـ قد ولاني أمركم، وإِنِّي أسأل الله أن يعينني عليه، وأن يحرسني عنه كما حرسني عن غيره، وإِنِّي امرؤٌ مسلمٌ، وعبدٌ ضعيفٌ إِلا ما أعان الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ولن يغيِّر الَّذي ولِّيت من خلافتكم من خُلُقي شيئاً إِن شاء الله.
وإِنَّما العظمة لله عزَّ، وجلَّ، وليس للعباد منها شيءٌ، فلا يقولنَّ أحدٌ منكم: إِنَّ عمر قد تغيَّر منذ وليِّ، وإِنِّي أعقل الحقَّ من نفسي، وأتقدَّم، وأبيِّن لكم أمري، فأيُّما رجلٍ كانت له حاجةٌ، أو ظلم مظلمةٍ، ليس بيني وبين أحدٍ من المسلمين هوادةٌ، وأنا حبيبٌ إِليَّ صلاحكم، عزيزٌ عليَّ عتبكم، وأنا مسؤولٌ عن أمانتي، وما أنا فيه، ومطَّلعٌ على ما يضيرني بنفسي إِن شاء الله لا أَكِلُهُ إِلى أحدٍ، ولا أستطيع ما بعد ذلك إِلا بالأمناء، وأهل النُّصح منكم للعامَّة، ولست أجعل أمانتي إِلى أحدٍ سواهم، إِن شاء الله، وأمَّا سلطان الدُّنيا وإِمارتها؛ فإِنَّ كلَّ ما تريان يصير إِلى زوالٍ، وإِنَّما نحنُ إِخوان، فأيُّنا أمَّ أخاه، أو كان عليه أميراً؛ لم يضرَّه ذلك في دينه، ولا في دنياه، بل لعلَّ الوالي أن يكون أقربهما إِلى الفتنة، وأوقعهما بالخطيئة إِلا من عصم الله، وقليلٌ ما هم.
فتح دمشق:
تمثِّل الفتوحات في بلاد الشَّام في عهد عمر بن الخطَّاب المرحلة الثَّانية من الفتوحات في هذه الجبهة بعد الفتوح في عهد الصِّدِّيق، فبعد أن انتهت معركة اليرموك، وانهزمت جموع الرُّوم؛ استخلف أبو عبيدة بن الجرَّاح على اليرموك بشير بن كعب الحميري، وأتاه الخبر: أنَّ المنهزمين من الرُّوم اجتمعوا بفحل، وأنَّ المدد قد أتى أهل دمشق من حمص، فأصبح لا يدري أبدمشق يبدأ، أم بفحل في بلاد الأردن ؟ فكتب القائد أبو عبيدة بن الجرَّاح إِلى الخليفة الفاروق عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ يستأمره، فأجابه: أمَّا بعد، فابدؤوا بدمشق، فانهدوا لها، فإِنَّها حصن الشَّام، وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل بخيلٍ تكون بإِزائهم في نحورهم، وأهل فلسطين، وأهل حمص، فإِن فتحها الله قبل دمشق؛ فذاك الَّذي نحبُّ، وإِن تأخَّر فتحها حتى يفتح الله دمشق؛ فلينزل في دمشق من يمسك بها، ودعوها، وانطلق أنت، وسائر الأمراء حتَّى تغيروا على فحل، فإِن تمَّ فتحها؛ فانصرف أنت، وخالد إِلى حمص، وأمير كلِّ بلدٍ على جندٍ حتَّى يخرجوا من إمارته.
ومن خلال أوامر الفاروق نلاحظ: أنَّه حدَّد مسؤوليَّة قيادة العمليَّات، وبموجبه تمَّ تطبيق مبدأ الاقتصاد بالجهد، فضلاً عن المرونة في التَّصرُّف إِزاء الأهداف المطلوبة، كما يستنتج من هذه الأوامر: بأنَّ الهدف الرَّئيس الأوَّل هو دمشق مع توجيه قوَّةٍ صغيرةٍ لفحل، والهدف الرَّئيس الثَّاني هو فحل، لتوجيه الجيش كلِّه لفتحها، والهدف الثَّالث مدينة حمص، واستناداً إِلى هذه التَّوجيهات أرسل أبو عبيدة بن الجرَّاح وحداتٍ قتاليَّةً إِلى فحل، وعلى قيادتها: أبو الأعور السَّلمي عامر بن حتمة، وعمرو بن كليب، وعبد عمر بن يزيد بن عامر، وعمارة ابن الصَّعق بن كعب، وصفي بن عليَّة بن شامل، وعمر بن الحبيب ابن عمر، ولبدة بن عامر، وبشير بن عصمة، وعمارة بن مخشن وهو القائد لهذه المجموعات، وتوجَّهت إِلى فحل.
وانطلق أبو عبيدة نحو دمشق، ولم يلقَ أيَّة مقاومةٍ ذات أهمِّيَّةٍ تذكر؛ إِذ أنَّ الرُّوم قد اعتمدوا على أهل البلاد في المنطقة قبل دمشق لإِعاقة تقدُّم قوَّات المسلمين، إِلا أنَّ هؤلاء لم تكن لهم الحماسة والاستماتة للدِّفاع، ويعود ذلك لسوء معاملة الرُّوم لهم، خاصَّةً لأهل القرى الصَّغيرة، ووصلت قوَّات المسلمين إِلى (غوطة دمشق) الَّتي فيها قصور الرُّوم ومنازلهم، وشاهدوها خاليةً؛ لأنَّ أهلها هجروها إِلى دمشق، وأرسل هرقل قوَّةً من حمص لإِمداد دمشق، وكانت تقدَّر بـ (500) خمسمئة مقاتل، وهي قوَّةٌ قليلةٌ مقارنةً بما يتطلَّبه الموقف، إِلا أنَّ القوَّة الإِسلاميَّة الَّتي وضعها أبو عبيدة بن الجرَّاح شمال دمشق بقيادة (ذي الكلاع) تصدَّت لها، وجرى قتالٌ عنيفٌ بين الجانبين، انهزم فيه الرُّوم، وناشد أهلَ دمشق هرقل الخلاص، فأرسل إِليهم كتاباً يدعوهم إِلى الثَّبات، ويحرِّضهم على القتال، والمقاومة، ويعدهم بالمدد، فتقوَّت عزائمهم، وجعلهم ذلك يصمدون للحصار، وحركات القوَّات الإِسلاميَّة.
1 ـ قوَّات الطَّرفين:
_ القوَّات الرُّوميَّة:
ـ القائد العامُّ: هرقل.
ـ أمير دمشق: نسطاس بن بسطورس.
ـ قائد قوَّات دمشق: باهان الَّذي اشترك باليرموك، وهرب منها، واسمه: ورديان.
ـ القوَّات العموميَّة للقوَّات الرُّوميَّة في دمشق (60000) ستُّون ألف مقاتلٍ، مع احتمال وصول تعزيزات إِضافيَّة من حمص (20000) عشرين ألف مقاتل لخطِّ الدِّفاع و (40000) أربعين ألف مقاتل للتَّعرُّض، فالرُّوم أقاموا في دمشق للاستفادة من الأبنية، وحصونها، وسورها، وربَّما كانوا ينتظرون المدد؛ ليقوموا بالتَّعرُّض.
ـ القوَّة الرُّوميَّة في (فحل) تتألَّف من حاميَّتها، ومن فلول جيش اليرموك الَّذي أثَّرت على معنويَّاتهم معركتها، وفشلهم، وهروبهم منها، فهم في فزعٍ اخذٍ بنفوسهم.
_ قوَّات المسلمين:
ـ القائد العامُّ للقوَّات الإِسلاميَّة: عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.
ـ قائد مسارح العمليَّات في بلاد الشَّام: أبو عبيدة بن الجرَّاح.
ـ بعث القائد أبو عبيدة بن الجرَّاح بعشرةٍ من قوَّاده وفي مقدِّمتهم أبو الأعور السَّلمي مع حجمٍ مناسبٍ من القوَّات الإِسلاميَّة ـ لم تذكر المصادر تعداد هذه القوَّة ـ للسَّيطرة على طريق دمشق، وحتَّى بيسان، ومحلُّها معروفٌ اليوم بخربة فحل.
ـ أرسل أبو عبيدة بن الجرَّاح قوَّاتٍ بقيادة (علقمة بن حكيم، ومسروق) كلُّ واحدٍ بمحلِّ الاخر باتِّجاه فلسطين، فأمن محور الحركات من الغرب، والجنوب.
ـ أرسل أبو عبيدة بن الجرَّاح قوَّةً بقيادة (ذي الكلاع) إِلى شمال دمشق ليرابط على الطَّريق الَّذي يربطها مع حمص لحماية هذا الاتِّجاه، ومنع وصول التَّعزيزات الرُّوميَّة إِلى دمشق.
ـ كان حجم القوَّات الإِسلاميَّة بعد اليرموك بحدود (40000) أربعين ألف مقاتل، وهذه القوَّات متماسكة التَّنظيم، وتمتاز بالرُّوح المعنويَّة العالية بعد النَّصر في اليرموك.
ـ بلغ حجم القوَّات الإِسلاميَّة الَّتي ضربت الحصار على دمشق بحدود (20000) عشرين ألف مقاتل، وباقي القوَّات أرسلت إِلى فحل لتثبيت الجبهة هناك، وبالإِمكان عند الضَّرورة سحبها من فحل؛ لتعزِّز قوَّة الحصار.
2 ـ وصف مدينة دمشق:
كانت دمشق مدينةً عظيمةً سمِّيت باسم بانيها (دمشاق بن كنعان) وقد خضعت لحكم مصر الأسرة الثَّامنة عشرة، فهي أقدم المدن في التَّاريخ، وكانت مركز عبادة الأوثان، ولمَّا دخلت المسيحيَّة جعلت من معبدها الوثني كنيسةً لا يضاهيها بجمالها، وجلالها إِلا كنيسة إِنطاكية، وفي جنوب دمشق تقع أراضي البلقاء، وشمالها ـ أي: شمال البلقاء ـ الجولان، وهي أرضٌ جبليَّةٌ، وأراضيها كلُّها زروعٌ، وغدران مياه، وهي مركزٌ تجاريٌّ مهمٌّ، يسكنها العرب، وكان المسلمون يعرفونها لأنَّهم يتاجرون معها.
وقد كانت مدينة دمشق مدينةً محصَّنةً، تمتاز بالمناعة، فلها سورٌ يحيطها مبنيٌّ من الحجارة، وارتفاعه ستَّة أمتار، وفيه أبوابٌ منيعةٌ، وعرض المبنى ثلاثة أمتار، وقد زاد هرقل من مناعته بعد الغزو الفارسي لها، والأبواب يحكم إِغلاقها، ويحيط بالسُّور خندقٌ عرضه ثلاثة أمتار، ونهر بردى يؤثر على الخندق بمياهه وطينه، فأصبحت دمشق قلعةً حصينةً ليس من السَّهل اقتحامها، وبذلك تظهر لنا الدِّفاعات الرُّوميَّة ذات المتانة، والقوَّة لحماية مدينة دمشق؛ إِذ إنَّ هذه الاستحكامات تعطينا الدَّلائل الاتية:
ـ لم تنشأ الدِّفاعات الميدانيَّة حول دمشق على عجلٍ، فهي دفاعاتٌ كانت مهيَّأةً منذ مدَّةٍ ليست بالقصيرة؛ لما لدمشق من أهمِّيَّة استراتيجيَّةٍ، وخوف الرُّوم من فقدانها، واستيلاء الفرس عليها، وهذا يعني: أنَّ الجهد الهندسيَّ الميدانيَّ الرُّوميَّ قد عمل في ترتيب، وتنظيم هذه الدِّفاعات بحرِّيَّةٍ مطلقةٍ، وبموارد هندسيَّةٍ مناسبةٍ غير مطلوبةٍ باتِّجاهاتٍ أخرى فضلاً عن تيسُّر الإِمكانيَّات الهندسيَّة لدى جيش الرُّوم في هذا المجال.
ـ برزت الإِبداعات الهندسيَّة الرُّوميَّة من خلال الموانع حول مدينة دمشق، فقد استفادت عناصر الهندسة العسكريَّة من طبيعة الأرض في إِنشاء هذه المنظومة، وعلى الأخصِّ توظيف نهر بردى بما يخدم ملء الخندق الَّذي يحيط بالمدينة، فضلاً عن الاستفادة الأخرى منه بجعله مانعاً طبيعيَّاً يعوق حركة القطعات المهاجمة على المدينة من اتِّجاهها الشَّمالي، والشَّمال الشَّرقي.
ـ كانت ثقة القيادة الرُّوميَّة بتحصينات مدينة دمشق كبيرةً جدَّاً، الأمر الَّذي جعلها تجمع قوَّاتها هناك، وتتَّخذ الدِّفاع الموضوعي فيها، ريثما تتمكَّن القوَّات الرُّوميَّة في حمص من جمع شتات أمرها، والتَّعرُّض لجيش المسلمين، وهذا يعني: أنَّ الدِّفاعات الهندسيَّة الميدانيَّة قد تدخَّلت في إِجبار القيادة الرُّوميَّة على اتِّخاذ هذا الموقف الدِّفاعي، وبذلك أصبحت السَّبب المباشر في صنع القرار، وهذا مهمٌّ جدَّاً في التَّعرُّف على مدى أهمِّيَّة الهندسة العسكريَّة في الميدان.
ـ وعلى عكسه أجبرت الدِّفاعات الهندسيَّة الميدانيَّة جيش المسلمين على عدم التَّعرُّض لمدينة دمشق، واقتحامها؛ إِذ وقفت منظومة الموانع الرُّوميَّة عائقاً بوجههم، فصارت خطَّة الجيش الإِسلامي تقتضي فرض الحصار على المدينة.
ـ تقول المصادر التَّاريخيَّة: أنَّ مدَّة حصار دمشق استمرَّت (70) ليلةً، وكان الحصار
شديداً، استخدمت فيه أسلحة الحصار الثَّقيلة، كالمجانيق، والدَّبابات.
3 ـ سير المعركة:
سار أبو عبيدة بن الجرَّاح قاصداً دمشق متَّخذاً تشكيل المسير الاتي:
ـ القلب: خالد بن الوليد.
ـ المجنَّبات: عمرو بن العاص، وأبو عبيدة.
ـ الخيل: عياض بن غنم.
ـ الرجَّالة: شرحبيل بن حسنة.
ولمَّا كان لسور دمشق أبواب لا يمكن الخروج والدُّخول للبلدة إِلا بواسطتها، فقد نظم المسلمون قوَّة الحصار على الشكل الاتي:
ـ قطاع الباب الشَّرقيِّ بقيادة خالد بن الوليد.
ـ قطاع باب الجابية بقيادة أبي عبيدة بن الجرَّاح.
ـ قطاع باب توما بقيادة عمرو بن العاص.
ـ قطاع باب الفراديس بقيادة شرحبيل بن حسنة.
ـ قطاع الباب الصَّغير بقيادة يزيد بن أبي سفيان.
وقد ظنَّ الرُّوم بأنَّ المسلمين لا يستطيعون أن يصمدوا أمام طول الحصار وخاصَّةً في أيَّام الشِّتاء، إِلا أنَّ المسلمين أصحاب العقيدة الراسخة، والصَّبر الجميل صمدوا أمام تغيُّرات الطَّقس، فقد عمل قادة المسلمين على إِشغال الكنائس المتروكة بالغوطة، والمنازل الخالية من أهلها ليرتاح فيها المجاهدون، على وفق أسلوبٍ أسبوعيٍّ تتبادل قوَّات الجبهة الَّتي على الأبواب، مع قوَّات من الخلف وبهذا التَّنظيم يستمرُّ الحصار مهما طال الزَّمن.
ولم يقف المسلمون عند هذا الحدِّ، وإِنَّما استمرَّت استطلاعاتهم الميدانيَّة والهندسيَّة لمنظومة الموانع المعادية، وتمكَّن خالد بن الوليد من انتخاب منطقة عبور ملائمة في هذه المنظومة، يمكن من خلالها اقتحام مدينة دمشق، فوقع الاختيار على أحسن مكانٍ يحيط بدمشق، وأكثره ماءً، وأشدِّه مدخلاً، كما جهَّز حبالاً كهيئة السَّلالم توضع على الجدران لتساعد على تسلُّق الأسوار، وقد علم خالد بن الوليد: أنَّ بطريق دمشق قد رزق بولدٍ، وجمع النَّاس في وليمةٍ، فانشغل أفراد الرُّوم بالأكل، والشُّرب، وأهملوا واجباتهم، ومن ضمنها مراقبة الجبهة، والأبواب، فلمَّا أمسى ذلك اليوم نهض خالد بن الوليد هو ومن معه من جنده الَّذين قدم عليهم، وتقدَّم هو، والقعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وقالوا: إِذا سمعتم تكبيراً على السُّور فارقوا إِلينا، واقصدوا الباب، وعبر خالد وجماعته الأولى الخندق المائيَّ على عائمتين من القرب، ووصلوا السُّور، ورموا عليه الحبال الَّتي هي بهيئة السَّلالم، فلمَّا ثبت لهم وهقان؛ تسلَّق فيها القعقاع، ومذعور، ثمَّ لم يدعوا أحبولةً إِلا أثبتاها، والأوهاق الشُّرف حتَّى إِذا ارتفعوا؛ نظموا السَّلالم لتستفيد منها الجماعة الثَّانية، ثمَّ انحدرت الجماعة الأولى من السُّور، ونزلوا قرب الباب، فكثر الأفراد الَّذين مع خالد، فكبَّر أوَّلاً من أعلى السُّور، فتسلَّقت الجماعة الثَّانية السُّور، وتقدَّموا نحو الباب، فاقتحموه بسيوفهم، وهكذا دخلت على هذا النَّحو قوَّات المسلمين إِلى مدينة دمشق.
_ أهمُّ الفوائد والدُّروس والعبر:
ـ هل كان الفتح صلحاً، أو عنوةً ؟
اختلف العلماء في دمشق هل فتحت صلحاً، أو عنوةً ؟ فأكثر العلماء على أنَّه استقرَّ أمرها على الصُّلح؛ لأنَّهم شكُّوا في المتقدِّم على الاخر، أفتحت عنوةً، ثمَّ عدل الرُّوم إِلى المصالحة ؟ أو فتحت صلحاً، أو اتَّفق الاستيلاء من الجانب الاخر قسراً ؟ فلمَّا شكُّوا في ذلك؛ جعلوها صلحاً احتياطاً. وقيل: بل جعل نصفها صلحاً، ونصفها عنوةً، وهذا القول قد يظهر من صنع الصَّحابة في الكنيسة العظمى الَّتي كانت أكبر معابدهم حين أخذوا نصفها، وتركوا نصفها. والله أعلم.
تاريخ فتحها:
قال ابن كثير: وظاهر سياق سيف بن عمر، يقتضي: أنَّ فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة، ولكنَّ نصَّ سيف على ما نصَّ عليه الجمهور من أنَّها وقعت في نصف رجب سنة أربع عشرة، وقد ذكر خليفة بن خيَّاط: أنَّ أبا عبيدة حاصر الرُّوم بدمشق في رجب، وشعبان، ورمضان، وشوَّال، وتمَّ الصُّلح في ذي القعدة. والمهمُّ: أنَّ فتحها كان بعد معركة اليرموك.
ـتطبيقاتٌ لبعض مبادىء الحرب:
لم يخلُ فتح دمشق من تطبيقات مبادىء الحرب عند المسلمين، فاشتملت على المباغتة، والمبادأة، وانتهاز الفرص، وإِبداعات القادة الميدانيِّين، وقد رأينا ما قام به خالد بن الوليد من استطلاع، ومن انتخاب منطقة العبور الملائمة كيف تغيَّر الموقف، وانقلب من عمليَّة حصار إِلى عملية اقتحام، وإِذا ما قارنَّا بين ما فعله خالد بن الوليد باستخدامه الحبال على هيئة سلالم، والاستفادة منها بتسلُّقه على سور دمشق، وبين ما فعله الجيش المصري في حرب تشرين عام 1973 م على الجبهة المصريَّة عند عبوره خط بارليف الإِسرائيلي، واستخدامه الحبال على هيئة سلالم أيضاً للوصول إِلى المواضع الدِّفاعيَّة المعادية، نجد: أنَّه قد تمَّ بالصِّيغة، والأسلوب، والأداة نفسها، والَّتي توضِّح لنا عبقريَّة المسلمين إِبَّان الفتوحات الإِسلاميَّة، وما معاركنا الحديثة إِلا امتدادٌ لهذا الإِبداع، والعبقريَّة.
ـبعض ما قيل من الشِّعر في فتح دمشق:
قال القعقاع بن عمرو:
أَقَمْنَا عَلَى دَارَي سُلَيْمانَ أَشْهُراً نُجالدُ روماً قد حموا بِالصَّوارمِ
فَضَضْنا بها البابَ العراقيَّ عَنْوةً فَدَانَ لَنَا مُسْتَسْلِماً كُلُّ قَائِمِ
أَقُوْلُ وَقَدْ دَارَتْ رَحَانَا بِدَارِهِمْ أَقيْمُوا لَهُمْ حُرَّ الوَرَى بِالغَلاصِمِ
فَلَمَّا زَأَدْنا في دِمَشْقَ نَحُوْرَهُمْ وَتَدْمُرَ عَضُّوا مِنْهُمَا بِالأَبَاهِمِ
_خ تمهيد الفتح بعد دمشق:
بعد فتح دمشق أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إِلى البقاع، ففتح بالسَّيف، وبعث سريَّة، فالتقوا مع الرُّوم بعين ميسنون، وعلى الرُّوم رجلٌ، يقال له (سنان) تحدَّر على المسلمين من عقبة بيروت، فقتل من المسلمين يومئذٍ جماعةً من الشُّهداء، فكانوا يسمُّون عين ميسنون عين الشُّهداء، واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان، وبعث يزيد دحية بن خليفة إِلى تدمر ليمهِّدوا أمرها، وبعث أبا الزَّهراء القشيري إِلى البثنية، وحوران، فصالح أهلها، وافتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلَّها عَنْوَةً ما خلا طبريَّة فإِنَّ أهلها صالحوه، وغلب خالدٌ على أرض البقاع، وصالحه أهل بعلبك، وكتب لهم كتاباً.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf