فتوحات الفاروق رضي الله عنه في بلاد العجم؛ انتصارات عظيمة وسعت مجال الدولة الإسلامية
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة التاسعة والسبعون
بعد انتصار المسلمين في وقعة نهاوند لم يقم للفرس أمر، وانساح المسلمون في بلاد العجم، وأذن لهم عمر في ذلك، فافتتح المسلمون بعد نهاوند مدينة جي ـ وهي مدينة أصبهان بعد قتالٍ كثيرٍ، وأمورٍ طويلةٍ، فصالحوا المسلمين، وكتب لهم عبد الله بن عبد الله كتاب أمانٍ، وصلحٍ، وفرَّ منهم ثلاثون نفراً إِلى كرمان، لم يصالحوا المسلمين، وفي سنة إِحدى وعشرين افتتح أبو موسى قم، وقاشان، وافتتح سهيل بن عديٍّ مدينة كرمان.
أوَّلاً: فتح همذان ثانية 22 هـ:
تقدَّم: أنَّ المسلمين لمَّا فرغوا من نهاوند فتحوا حلوان، وهمذان، ثمَّ إِنَّ أهل همذان نقضوا عهدهم؛ الَّذي صالحهم عليه القعقاع بن عمرو، فكتب عمر إلى نعيم بن مقرِّن أن يسير إِلى همذان، فسار حتَّى نزل على ثنيَّة العسل، ثمَّ تحدَّر على همذان، واستولى على بلادها، وحاصرها، فسألوه الصُّلح، فصالحهم، ودخلها، فبينما هو فيها ومعه اثنا عشر ألفاً من المسلمين، إِذ تكاتب الدَّيلم، وأهل الرَّيّ، وأهل أذربيجان، واجتمعوا على حرب نعيم بن مقرن في جمعٍ كثيرٍ، فخرج إِليهم بمن معه من المسلمين حتَّى التقوا بمكانٍ يقال له: واج الرواذ، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكانت وقعةً عظيمةً تعدل نهاوند، ولم تك دونها، فقتلوا من المشركين جمَّاً غفيراً لا يحصون كثرةً، وقُتل ملك الدَّيلم، وتمزَّق شملهم، وانهزموا بأجمعهم بعد من قتل بالمعركة منهم، فكان نعيم بن مقرِّن أوَّل من قاتل الدَّيلم من المسلمين.
وقد كان نعيم كتب إِلى عمر يعلمه باجتماعهم، فهمَّه ذلك، واغتمَّ له، فلم يفاجئه إِلا البريد بالبشارة، فقال: أبشير ؟ فقال: بل عروة، فلمَّا ثنَّى عليه: أبشير ؟ فَطِن، فقال: بشيرٌ، فقال عمر: رسول نعيم، وسماك بن عبيد ؟ قال: رسول نعيم، قال: الخبر ؟ قال:
البشرى بالفتح، والنَّصر، وأخبره الخبر، فحمد الله، وأمر بالكتاب، فقرىء على النَّاس، فحمدوا الله، ثمَّ قدم سماك بن مخرمة، وسماك بن عبيد، وسماك بن خرشة في وفود الكوفة بالأخماس على عمر، فنسبهم، فانتسب له سماك، وسماك، وسماك، فقال: بارك الله فيكم، اللَّهمَّ أسمك بهم الإِسلام، وأيِّدهم بالإِسلام!
ثانياً: فتح الرَّيِّ سنة 22 هـ:
استخلَف نعيم بن مقرِّن على همذان يزيد بن قيس الهمذانيَّ، وسار هو بالجيوش حتَّى لحق بالرَّيِّ، فلقي هناك جمعاً كثيراً من المشركين، فاقتتلوا عند سفح جبل الرَّيِّ، فصبروا صبراً عظيماً، ثمَّ انهزموا، وقتَل منهم نعيم بن مقرِّن مقتلةً عظيمةً بحيث عدُّوا بالقصب، وغنموا منهم غنيمةً عظيمةً، قريباً ممَّا غنم المسلمون من المدائن، وصالح أبو الفرخان الملقَّب بالزَّينبي على الرَّيِّ، وكتب له أماناً بذلك، ثمَّ كتب نعيم إِلى عمر بالفتح، ثمَّ بالأخماس، ولله الحمد والمنَّة.
ثالثاً: فتح قوميس وجرجان سنة 22 هـ:
ولمَّا ورد البشير بفتح الرَّيِّ وأخماسها؛ كتب عمر إِلى نعيم بن مقرِّن أن يبعث أخاه سويد بن مقرِّن إِلى قوميس، فسار إِليها سويد، فلم يقم له شيءٌ حتَّى أخذها سلماً، وعسكر بها، وكتب لأهلها كتاب أمانٍ، وصلحٍ، ولمَّا عسكر سويد بقوميس؛ بعث إِليه أهل بلدان شتَّى منها: جرجان وطبرستان، وغيرها يسألونه الصُّلح على الجزية، فصالح الجميع، وكتب لأهل كلِّ بلدةٍ كتاب أمانٍ، وصلحٍ.
رابعاً: فتح أذربيجان سنة 22 هـ:
لمَّا افتتح نعيم بن مقرِّن همذان ثانيةً، ثمَّ الرَّيَّ، بعث بين يديه بكير بن عبد الله من همذان إِلى أذربيجان وأردفه بسماك بن خرشة، وذلك عن أمر عمر بن الخطاب، وليس بأبي دجانة فلقي أسفندياذ بن الفرخزاذ بكيرٌ وأصحابه، قبل أن يقدم عليهم سماك، فاقتتلوا، فهزم الله المشركين، وأسر بكير اسفندياذ، فقال له: الصُّلح أحبُّ إِليك أم الحرب ؟ فقال: بل الصُّلح. فقال: فأمسكني عندك، فأمسكه ثمَّ جعل يفتح أذربيجان بلداً بلداً، وعتبة بن فرقد في مقابله في الجانب الاخر من أذربيجان يفتحها بلداً بلداً، ثمَّ جاء كتاب عمر بأن يتقدَّم بكير إِلى الباب، وجعل سماكاً موضعه ـ نائباً لعتبة بن فرقد ـ وجمع عمر أذربيجان كلَّها لعتبة بن فرقد، وسلَّم إِليه بكير اسفندياذ.
وقد كان اعترض بهرام بن فرخزاذ لعتبة بن فرقد، فهزمه عتبة، وهرب بهرام، فلمَّا بلغ ذلك اسفندياذ؛ قال: الان تمَّ الصُّلح، وطفئت الحرب، فصالحه، وعادت أذربيجان سلماً، وكتب بذلك عتبة، وبكير إِلى عمر، وبعثوا بالأخماس إِليه، وكتب عتبة حين انتهت إِليه إِمرة أذربيجان كتاب أَمانٍ، وصلحٍ لأهلها.
خامساً: فتح الباب سنة 22 هـ:
كتب عمر بن الخطَّاب كتاباً بالإِمرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمرو ـ الملقَّب بذي النُّور ـ فسار كما أمر عمر، وهو على تعبئته، فلمَّا انتهى مقدم العساكر ـ وهو عبد الرحمن بن ربيعة ـ إِلى الملك الَّذي هناك عند الباب وهو شهربراز، ملك أرمينية وهو من بيت الملك الَّذي قتل بني إِسرائيل، وغزا الشَّام في قديم الزَّمان، فكتب شهربراز لعبد الرحمن، واستأمنه، فأمَّنه عبد الرحمن بن ربيعة، فقدم عليه الملك، فأنهى إِليه أنَّ صَغْوَهُ إِلى المسلمين، وأنَّه مناصحٌ للمسلمين، فقال له: إِن فوقي رجلاً فاذهب إِليه، فبعثه إِلى سراقة بن عمرو أمير الجيش، فسأل من سراقة الأمان، فكتب كتاباً بذلك ثمَّ بعث سراقة بكير بن عبد الله اللَّيثي، وحبيبابن مسلمة، وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة إِلى أهل تلك الجبال: المحيطة بأرمينية جبال: اللان، تفليس، وموقان، فافتتح بكير موقان، وكتب لهم كتاب أمانٍ، ومات في غضون ذلك أمير المسلمين هناك سراقة بن عمرو، واستخلف بعده عبد الرحمن بن ربيعة، فلمَّا بلغ عمر ذلك؛ أقرَّه، وأمره بغزو التُّرك.
سادساً: أوَّل غزو التُّرك:
لمَّا جاء كتاب عمر إِلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزو التُّرك، سار حتَّى قطع الباب قاصداً لما أمره عمر، فقال له شهربراز: أين تريد ؟ قال: أريد ملك التُّرك بلنجر، فقال له شهربراز: إِنَّا لنرضى منهم بالموادعة، نحن من وراء الباب، فقال عبد الرحمن: إِنَّ الله بعث إِلينا رسولاً، ووعدنا على لسانه بالنَّصر، والظَّفر ونحن لا نزال منصورين، فقاتل التُّرك، وسار في بلاد بلنجر مئتي فرسخ وغزا مرَّاتٍ متعدِّدة، ثمَّ كانت له وقائع هائلة في زمن عثمان ـ رضي الله عنه
سابعاً: غزو خراسان سنة 22 هـ:
كان الأحنف بن قيس قد أشار على عمر بأن يتوسَّع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم، ويضيِّقوا على كسرى يزدجرد، فإِنَّه هو الَّذي يحثُّ الفرس، والجنود على قتال المسلمين، فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه، ورأي الأحنف، وأمره بغزو بلاد خراسان، فركب الأحنف في جيشٍ كثيفٍ إِلى خراسان قاصداً حرب يزدجرد، فدخل خراسان، فافتتح هراة عنوةً، واستخلف عليه صحار بن فلان العبدي، ثمَّ سار إِلى مرو الشَّاهجان وفيها يزدجرد وبعث الأحنف بين يديه مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخير إِلى نيسابور، والحارث بن حسَّان إِلى سرخس ولمَّا اقترب الأحنف من مرو الشَّاهجان؛ ترحَّل منها يزدجرد إِلى مرو الرُّوذ، فافتتح الأحنف مرو الشَّاهجان، فنزلها، وكتب يزدجرد حين نزل مرو الرُّوذ إِلى خاقان ملك التُّرك يستمدُّه، وكتب إِلى ملك الصَّغد يستمدُّه، وكتب إِلى ملك الصِّين يستعينه، وقصده الأحنف بن قيس إِلى مرو الرُّوذ وقد استخلف على مرو الشَّاهجان حارثة بن النُّعمان.
وقد وفدت إِلى الأحنف إِمداداتٌ من أهل الكوفة مع أربعة أمراء، فلمَّا بلغ ذلك يزدجرد، ترحَّل إِلى بلخ[(2182)]، فالتقى معه ببلخ، فهزمه الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ وهرب هو، ومن بقي معه من جيشه، فعبر النَّهر، واستوثق ملك خراسان على يدي الأحنف بن قيس، واستخلف في كلِّ بلدةٍ أميراً، ورجع الأحنف فنزل مرو الرُّوذ، وكتب إِلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكاملها، وكتب عمر إِلى الأحنف ينهاه عن العبور إِلى ما وراء النَّهر. وقال: احفظ ما بيدك من بلاد خراسان، ولمَّا وصل رسول يزدجرد إِلى اللَّذين استنجد بهما؛ لم يحتفلا بأمره، فلمَّا عبر يزدجرد النَّهر، ودخل في بلادهما؛ تعيَّن عليهما إِنجازه في شرع الملوك، فسار معه خاقان، فوصل إِلى بلخ حتَّى نزلوا على الأحنف بمرو الرُّوذ، فتبرَّز الأحنف بمن معه من أهل البصرة، وأهل الكوفة، والجميع عشرون ألفاً، فسمع رجلاً يقول لاخر: إِن كان الأمير ذا رأيٍ فإِنَّه يقف دون هذا الجبل يجعله وراء ظهره، ويبقى هذا النَّهر خندقاً حوله، فلا يأتيه العدوُّ إِلا من جهةٍ واحدةٍ، فلمَّا أصبح الأحنف، أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة النَّصر، والرُّشد، وجاءت الأتراك، والفرس في جمعٍ عظيمٍ هائلٍ مزعجٍ، فقام الأحنف في النَّاس خطيباً، فقال: إِنَّكم قليلٌ، وعدوُّكم كثيرٌ، فلا يهولنَّكم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ *} [سورة البقرة: 249].
فكان التُّرك يقاتلون بالنَّهار، ولا يدري أين يذهبون في اللَّيل، فسار ليلةً مع طليعةٍ من أصحابه نحو خاقان، فلمَّا كان قريب الصُّبح خرج فارس من التُّرك طليعةً، وعليه طوقٌ، وضرب بطبله، فتقدَّم إِليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف، فقتله، وهو يرتجز:
إِنَّ عَلَى كُلِّ رَئِيسٍ حَقَّا أَنْ يَخْضِبَ الصَّعْدَةَ أَوْ تَنْدَقَّا
إِنَّ لَهَا شَيْخاً بِها مُلَقَّى سَيْفُ أبي حَفْصِ الَّذي تَبَقَّى
ثمَّ استلب التُّركيَّ طوقه، ووقف موضعه، فخرج اخر عليه طوقٌ، ومعه طبلٌ، فجعل يضرب بطبله، فتقدَّم إِليه الأحنف، فقتله أيضاً، واستلبه طوقه، ووقف موضعه، فخرج ثالث فقتله، وأخذ طوقه، ثمَّ أسرع الأحنف الرُّجوع إِلى جيشه، ولا يعلم بذلك أحدٌ من التُّرك بالكلِّيَّة، وكان من عادة التُّرك: أنَّهم لا يخرجون حتَّى تخرج ثلاثةٌ من كهولهم بين أيديهم يضرب الأول بطبله، ثمَّ الثَّاني، ثمَّ الثَّالث.
فلمَّا خرجت التُّرك، فأتوا على فرسانهم مقتولين، تشاءم بذلك الملك خاقان، وتطيَّر، وقال لعسكره: قد طال مقامنا، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكانٍ لم نصب بمثله، ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خيرٍ، فانصرفوا بنا، فرجعوا إِلى بلادهم، وقد قال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتِّباعهم ؟ فقال: أقيموا بمكانكم، ودعوهم. وقد أصاب الأحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث: « اتركوا التُّرك ما تركوكم». {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ} [سورة الأحزاب: 25].
ورجع كسرى خاسر الصَّفقة، لم يشف له غليلٌ، ولا حصل على خيرٍ، ولا انتصر كما كان في زعمه، بل تخلَّى عنه من كان يرجو النَّصر منه، وتنحَّى عنه، وتبرَّأ منه أحوج ما كان إِليه، وبقي مذبذباً لا إِلى هؤلاء، ولا إِلى هؤلاء، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً *} [سورة النساء: 88].
وتحيَّر في أمره ماذا يصنع ؟ وإِلى أين يذهب ؟ ثمَّ بعث إِلى ملك الصِّين يستغيث به، ويستنجده، فجعل ملك الصِّين يسأل الرَّسول عن صفة هؤلاء القوم الَّذين قد فتحوا البلاد، وقهروا رقاب العباد، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل، والإبل، وماذا يصنعون، وكيف يصلُّون. فكتب معه إِلى يزدجرد: إِنَّه لم يمنعني أن أبعث إِليك بجيش أوَّله بمروٍ، واخره بالصِّين الجهالة بما يحقُّ عليَّ، ولكنَّ هؤلاء القوم الَّذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدُّوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ما داموا على ما وصف لي رسولك، فسالمهم، وارض منهم بالمسالمة. فأقام كسرى، وال كسرى في بعض البلاد مقهورين، ولم يزل ذلك دأبه حتَّى قتل في إِمارة عثمان.
ولمَّا بعث الأحنف بكتاب الفتح، وما أفاء الله عليهم من أموال التُّرك، ومن كان معهم، وأنَّهم قتلوا منهم مع ذلك مقتلةً عظيمةً، ثمَّ ردَّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً، فقام عمر على المنبر، وقُرِىء الكتاب بين يديه، ثمَّ قال عمر: إِنَّ الله بعث محمَّداً بالهدى، ووعد أتباعه من عاجل الثَّواب واجله خير الدُّنيا، والاخرة، فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ *} [سورة التوبة: 33].
فالحمد لله الَّذي أنجز وعده، ونصر جنده، ألا وإِنَّ الله قد أهلك مُلك المجوسيَّة، وفرَّق شملهم، فليس يملكون من بلادهم شبراً يضير بمسلمٍ، ألا وإِنَّ الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجلٍ؛ يوف لكم بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تغيِّروا؛ فيستبدل قوماً غيركم، فإِني لا أخاف على هذه الأمَّة أن تؤتى إِلا من قبلكم.
ثامناً: فتح اصطخر سنة 23 هـ:
افتتح المسلمون اصطخر ـ للمرَّة الثَّانية ـ في سنة ثلاث وعشرين، وكان أهلها قد نقضوا العهد بعدما كان جند العلاء بن الحضرمي افتتحوها حين جاز في البحر ـ في أرض البحرين ـ والتقوا هم، والفرس في مكانٍ يقال له: طاووس، ثمَّ صالحه الهربذة على الجزية، وأن يضرب لهم الذِّمَّة، ثمَّ إِنَّ شهرك خلع العهد، ونقض الذِّمَّة ونشط الفرس، فنقضوا العهد، فبعث إِليهم عثمان بن أبي العاص ابنه، وأخاه الحكم، فاقتتلوا مع الفرس فهزم الله جيوش المشركين، وقتل الحكم ابن أبي العاص شهرك.
تاسعاً: فتح فساودارا بجرد سنة 23 هـ:
قصد سارية بن زُنيم فساودارا بجرد، فاجتمع له جموعٌ من الفرس، والأكراد عظيمةٌ، ودهم المسلمين منهم أمرٌ عظيمٌ، رأى عمر في تلك اللَّيلة فيما يرى النَّائم معركتهم، وعددهم في وقتٍ من النَّهار، وأنَّهم في صحراء، وهناك جبل إِن أسندوا إِليه؛ لم يؤتوا إِلا من وجهٍ واحدٍ، فنادى في الغد: الصَّلاة جامعة حتَّى إِذا كانت السَّاعة الَّتي رأى: أنَّهم اجتمعوا فيها ـ خرج إِلى النَّاس، وصعد المنبر ـ فخطب النَّاس، وأخبرهم بصفة ما رأى، ثمَّ قال: يا سارية الجبل ! ثمَّ أقبل عليهم، وقال: إِنَّ لله جنوداً، ولعلَّ بعضها أن يبلغهم. قال: ففعلوا ما قال عمر، فنصرهم الله على عدوِّهم، وفتحوا البلد.
عاشراً: فتح كرمان، وسجستان سنة 23 هـ:
قام سهيل بن عديٍّ في سنة 23 هـ بفتح كرمان، وقيل: فتحت على يدي عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وذكر بعض المؤرخين فتح سجستان على يدي عاصم بن عمرو بعد قتالٍ شديدٍ، وكانت ثغورها متَّسعةً، وبلادها متنائيةً ما بين السَّدِّ إِلى نهر بلخ، وكانوا يقاتلون القندهار والتُّرك من ثغورها وفروجها.
الحادي عشر: فتح مُكران سنة 23 هـ:
في السنة 23 هـ فتحت مُكران على يدي الحكم بن عمرو، وأمدَّه شهاب بن المخارق، ولحق به سهيل بن عديٍّ، وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، واقتتلوا مع ملك السِّند، فهزم الله جموع السِّند، وغنم المسلمون منهم غنيمةً كثيرةً، وكتب الحكم بن عمرو بالفتح، وبعث بالأخماس مع صحار العبديِّ، فلمَّا قدم على عمر سأله عن أرض مُكران فقال: يا أمير المؤمنين ! أرضٌ سهلها جبلٌ، وماؤها وشلٌ، وتمرها دقلٌ، وعدوُّها بطلٌ، وخيرها قليلٌ، وشرُّها طويلٌ، والكثير بها قليلٌ، والقليل بها ضائعٌ، وما وراءها شرٌّ منها. فقال عمر: أسجَّاعٌ أنت أم مخبرٌ ؟ فقال: لا، بل مخبرٌ، فكتب عمر إِلى الحكم بن عمرو، ألا يجوزوا مُكران، وليقصروا على ما دون النَّهر.
الثَّاني عشر: غزو الأكراد:
ذكر ابن جرير بسنده عن سيفٍ، عن شيوخه: أنَّ جماعةً من الأكراد، والْتَفَّ إِليهم طائفةٌ من الفرس، اجتمعوا، فلقيهم أبو موسى بمكان من أرض بيروذ قريب من نهر تيري، ثمَّ سار عنهم أبو موسى إِلى أصبهان، وقد استخلف على حربهم الرَّبيع بن زياد بعد مقتل أخيه المهاجر بن زياد، فتسلَّم الحرب، وخنق عليهم، فهزم الله العدوَّ، وله الحمد والمنَّة، كما هي عادته المستمرَّة، وسنَّته المستقرَّة، في عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين من أتباع سيِّد المرسلين، ثم خمِّست الغنيمة، وبعث بالفتح، والخمس إِلى عمر ـ رضي الله عنه ـ.
وهكذا تمَّ فتح العراق، وبلاد إِيران في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ وأقام المسلمون المسالح في شتَّى أرجائها متوقِّعين انتقاض الفرس في هذه الدِّيار. لقد كانت فتوح المشرق عنيفةً اقتضت من المسلمين تضحياتٍ جسيمةً بسبب اختلاف الدَّم، فسكان إِيران فرسٌ لا تربطهم بالعرب لغةٌ، ولا جنسٌ، ولا ثقافةٌ، وكان الشُّعور القومي عند الإيرانيين يذكِّيه التَّاريخ الطَّويل، والثَّقافة المتأصِّلة، كما أنَّ القتال كان يدور في صميم الوطن الإِيراني، ويشترك رجال الدِّين المجوس في تأليب السُّكَّان على المقاومة، يضاف إِلى ذلك بُعْدَ هذه المناطق عن مراكز الجيش في البصرة، والكوفة، وطبيعة الأرض الجبليَّة الَّتي تمكِّن السُّكَّان من المقاومة، ولذلك فقد انتقضت معظم هذه المراكز، وأعيد فتحها في عهد الفاروق، أو في خلافة عثمان رضي الله عنهما.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf