فتوحات مدن بلاد فارس زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ انتصارات متتالية وسعت مجال الدولة الإسلامية
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة السابعة والسبعون
أولا: موقعة جلولاء:
اجتمع الفرس على مفترق الطُّرق إلى مدائنهم في جلولاء، فتذامروا، وقالوا: إِن افترقتم؛ لم تجتمعوا أبداً، وهذا مكانٌ يفرِّق بيننا، فلنجتمع للعرب به، ولنقاتلهم، فإِذا كانت لنا؛ فهو الَّذي نريد، وإِن كانت الأخرى؛ كنا قد قضينا الَّذي علينا، وأبلينا عذراً. واجتمعوا على قيادة مهران الرازي، وحفروا خندقاً حول مدينتهم، وأحاطوا به الحسك من الخشب إلا الطُّرق الَّتي يعبرون منها. وقد كتب سعد بن أبي وقَّاص إِلى أمير المؤمنين عمر يخبره بذلك، فكتب إلى سعد يأمره ببعث هاشم بن عتبة بن أبي وقَّاص إلى جلولاء في اثني عشر ألفاً وأن يجعل على مقدِّمته القعقاع بن عمرو التَّميمي، وعلى ميمنته مسعر بن مالك، وعلى ميسرته عمرو بن مالك بن عتبة، وعلى ساقته عمرو بن مرَّة الجهني. وسار إليهم هاشم بجيشه، فحاصرهم، وطاولهم أهل فارس فكانوا لا يخرجون لهم إِلا إِذا أرادوا، وزاحفهم المسلمون ثمانين زحفاً، كلّ ذلك يعطي الله المسلمين عليهم الظَّفر، وغلبوا المشركين على حسك الخشب الَّتي اتَّخذوها لإِعاقة المسلمين، فاتَّخذ الأعداء حسك الحديد، وجعل هاشم يقوم في النَّاس، ويقول: إنَّ هذا المنزل منزل له ما بعده، وجعل سعد يمدُّه بالفرسان، حتَّى إِذا طال الأمر، وضاق الأعداء من صبر المسلمين؛ اهتمُّوا بهم، فخرجوا لقتالهم، فقال: ابلوا الله بلاءً حسناً يتمَّ لكم عليه الأجر، والمغنم، واعملوا لله. فالتقوا، فاقتتلوا، وبعث الله عليهم ريحاً أظلمت عليهم البلاد فلم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافت فرسانهم في الخندق، فلم يجدوا بُدَّاً من أن يردموا الخندق ممَّا يليهم؛ لتصعد منه خيلهم، فأفسدوا حصنهم.
فلمَّا بلغ المسلمين ما قام به الأعداء من ردم الخندق؛ قالوا: أننهض إليهم ثانيةً، فندخله عليهم، أو نموت دونه ؟ فلما نهض المسلمون لقتالهم؛ خرجوا، فرموا حول الخندق ممَّا يلي المسلمين بحسك الحديد لكيلا تقدم عليهم الخيل، وتركوا مكاناً يخرجون منه على المسلمين، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يقتتلوا مثله إِلا ليلة الهرير، وهي من ليالي القادسيَّة؛ إِلا أنَّه كان أقصر، وأعجل.
وانتهى القعقاع بن عمرو في الوجه الَّذي زاحف فيه إِلى باب خندقهم، فأخذ به، وأمر منادياً، فنادى: يا معشر المسلمين ! هذا أميركم قد دخل خندق القوم، وأخذ به، فأقبِلوا إِليه، ولا يمنعنَّكم مَنْ بينكم وبينه من دخوله ـ وإِنَّما أمر بذلك ليقوِّي المسلمين به ـ فحمل المسلمون؛ وهم لا يشكُّون في أنَّ هاشماً فيه، فلم يقم لحملتهم شيءٌ حتَّى انتهوا إِلى باب الخندق فإِذا هم بالقعقاع بن عمرو وقد أخذ به، وأخذ المشركون في هزيمةٍ يمنةً ويسرةً عن المجال الَّذي بحيال خنادقهم، فهلكوا فيما أعدُّوا للمسلمين، فعقرت دوابُّهم ـ يعني: بسبب حسك الحديد الَّتي أعدُّوها للمسلمين ـ وعادوا رَجَّالةً، وأتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إِلا من لا يعدُّ، وقتل الله منهم يومئذٍ مئة ألف، فجلَّلت القتلى المجال، وما بين يديه وما خلفه، فسمِّيت جلولاء بما جلَّلها من قتلاهم، فهو جلولاء الوقيعة.
أ ـ إنَّ جندنا أطلقوا بالفعال لساننا:
وبعث سعد بن أَبي وقَّاص زياد بن أبيه بالحسابات الماليَّة إِلى أمير المؤمنين، وكان زياد هو الَّذي يكتب للنَّاس، ويدوِّنهم، فلمَّا قدم على عمر كلَّمه فيما جاء له، ووصف له، فقال عمر: هل تستطيع أن تقوم في النَّاس بمثل الَّذي كلَّمتني به ؟ فقال: والله ما على الأرض شخصٌ أهيب في صدري منك ! كيف لا أقوى على هذا من غيرك ؟ ! فقام في النَّاس بما أصابوا، وبما صنعوا، وربما يستأذنون فيه من الانسياح في البلاد، فقال عمر: هذا الخطيب المِصْقَع، فقال زياد: إِنَّ جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.
ب ـ موقف عمر من غنائم جلولاء:
انتهت معركة جلولاء بانتصار المسلمين، وقد غنموا فيها مغانم عظيمةً، أرسلوا بأخماسها إِلى أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال حين راه: والله لا يُجنُّه سقف بيت حتَّى أَقسمه، فبات عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن أرقم يحرسانه في صحن المسجد، فلمَّا أصبح جاء في النَّاس فكشف عن جلابيبه ـ وهي الأنطاع ـ فلمَّا نظر إِلى ياقوته، وزبرجده، وجوهره؛ بكى، فقال له عبد الرَّحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين ! فوالله إِنَّ هذا لموطن شكر ! فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، والله ما أعطى الله هذا قوماً إِلا تحاسدوا، وتباغضوا ! ولا تحاسدوا إِلا أُلقي بأسهم بينهم.
وهذا لون من حساسيَّة الإِيمان المرهفة، حيث يدرك المؤمن الرَّاسخ من نتائج الأمور المستقبليَّة ما لا يخطر على بال غيره، فيحمله الإِشفاق على المؤمنين من أن يكدِّر صفو علاقاتهم الإِيمانيَّة شائبةٌ من شوائب الدُّنيا؛ الَّتي تباعد بين القلوب، يحمله ذلك على التَّأثُّر العميق؛ الَّذي يصل إلى تحدُّر دموعه أمام النَّاس، وإنَّه لعجيبٌ أن تهطل الدُّموع من عيني رجلٍ بلغ من القوَّة حدَّاً يخشاه أهل الأرض قاطبةً، مسلمهم، وكافرهم، ومنافقهم، ولكنَّها الرَّحمة الَّتي حلَّى بها الله ـ جلَّ، وعلا ـ قلوب المؤمنين، فأصبحوا كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا *} [سورة الفتح: 29].
ثانيا: فتح رامهرمز:
كان الفرس قد بدؤوا بالتَّجمُّع مرَّةً أخرى بتحريض من ملكهم يزدجرد، فاجتمعوا في رامهرمز بقيادة الهرمزان، وقد كان سعد بن أبي وقَّاص أخبر أمير المؤمنين بخبر اجتماعهم، فأمره أن يجهِّز إِليهم جيشاً من أهل الكوفة بقيادة النُّعمان بن مقرن، وأمر أبا موسى الأشعريّ بأن يجهِّز جيشاً من البصرة بقيادة سهل بن عديٍّ، وإِذا اجتمع الجيشان؛ فعليهم جميعاً أبو سبرة بن أبي رهم، وكلُّ من أتاه فهو مددٌ له، وخرج النُّعمان بن مقرِّن في أهل الكوفة، ثمَّ سار نحو « الهرمزان » والهرمزان يومئذٍ برامهرمز ـ ولمَّا سمع الهرمزان بمسير النُّعمان إِليه؛ بادره الشَّدَّة، ورجا أن يقتطعه، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر، فالتقى النُّعمان، والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثمَّ إِنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ هزم الهرمزان للنُّعمان، وأخلى رامهرمز، ولحق بتستر، وأمَّا سهل ابن عديٍّ فإِنَّه سار بأهل البصرة يريد رامهرمز، فأتتهم المعركة وهو بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر بأنَّ الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا إِلى تستر، ومال إِليها النُّعمان بأهل الكوفة
ثالثا:: فتح تستر:
وصل جيش النُّعمان بن مقرِّن، وجيش سهل بن عديٍّ إِلى تستر، واجتمعا تحت قيادة أبي سبرة بن أبي رهم، وقد استمدَّ أبو سبرة أمير المؤمنين فأمدَّهم بأبي موسى الأشعري فأصبح قائد جيش البصرة، وظلَّ أبو سبرة قائد الجيش كلِّه، وقد بقي المسلمون في حصار تستر عدَّة شهور، قابلوا فيها جيش الأعداء في ثمانين معركة، وظهرت بطولة الأبطال بالمبارزة، فاشتهر منهم عددٌ بقتل مئة مبارز سوى من قتلوا في أثناء المعارك، وقد ذكر منهم: البراء بن مالك، ومجزأة بن ثور، وكعب بن سور، وأبو تميمة، وهم من أهل البصرة، وفي الكوفيِّين مثل ذلك ذكر منهم: حبيب بن قرَّة، وربعي بن عامر، وعامر بن عبد الله الأسود.
ولمَّا كان اخر لقاء بين المسلمين وأعدائهم، واشتدَّ القتال نادى المسلمون البراء بن مالك، وقالوا: يا براء ! أقسم على ربِّك ليهزمنَّهم لنا، فقال: اللَّهمَّ اهزمهم لنا، واستشهدني ! وقد باشر المسلمون القتال، وهزموا أعداءهم حتَّى أدخلوهم خنادقهم، ثمَّ اقتحموها عليهم، وأنَّه لمَّا ضاق الأمر على الفرس، واشتدَّ عليهم الحصار اتَّصل اثنان منهم في جهتين مختلفتين بالمسلمين، وأخبراهم بأنَّ فتح المدينة يكون من مخرج الماء، وقد وصل الخبر إِلى النُّعمان بن مقرِّن، فندب أصحابه إِلى ذلك المكان، ووصل الخبر إِلى أبي موسى الأشعري فندب أصحابه كذلك، فالتقى الأبطال من أهل الكوفة والبصرة في ذلك المكان ليلاً، ودخلوا منه بساحةٍ إِلى المدينة، فكبَّروا، وكبَّر مَنْ وقفوا في الخارج، وفتحوا الأبواب، فأبادوا من حولها بعد شيءٍ من المقاومة.
وقد استشهد في هذه المعركة البراء بن مالك، ومجزأة بن ثور، حيث رماهما الهرمزان، وكان استشهادهما بعد انتصار المسلمين في المعركة، ولجأ الهرمزان قائد الفرس إِلى القلعة، وأطاف به المسلمون الَّذين دخلوا من مخرج الماء، فلمَّا عاينوه وأقبلوا قِبلَه؛ قال لهم: ما شئتم، قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، ومعي في جعبتي مئة نشَّابة، ووالله ما تصلون إِليَّ ما دام معي نشَّابة ! وما يقع لي سهمٌ، وما خير إِساري إِذا أصبت منكم مئة بين قتيل وجريح، قالوا: فتريد ماذا ؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء. قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه، وأمكنهم من نفسه، فشدُّوا وثاقه، وأرصدوه ـ أي: راقبوه ـ ليبعثوا إِلى أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ ثمَّ تسلَّموا ما في البلد من الأموال والحواصل، فاقتسموا أربعة أخماسه، فنال كلُّ فارسٍ ثلاثة الاف، وكلُّ راجلٍ ألف درهموفي غزوة تستر دروسٌ، وعبرٌ، منها:
أ ـ ما يسرُّني بتلك الصَّلاة الدُّنيا وما عليها:
قال أنس بن مالك أخو البراء: شهدت مناهضة حصن تستر عند إِضاءة الفجر، واشتدَّ اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصَّلاة، فلم نصل إِلا بعد ارتفاع النَّهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح الله لنا، قال أنس بن مالك الأنصاري: ما يسرُّني بتلك الصَّلاة الدُّنيا، وما عليها.
ب ـ وسام من أوسمة الشَّرف ناله البراء بن مالك:
علَّق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على صدر البراء بن مالك وساماً عظيماً من أوسمة الشَّرف، وذلك بقوله: « كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله؛ لأبرَّه، منهم البراء بن مالك »، فقد كان البراء مستجاب الدَّعوة، وعرف النَّاس عنه ذلك بموجب هذا الحديث، ولذلك طلبوا منه في هذه المعركة أن يدعو الله؛ ليهزم عدوَّهم، ومع هذا الثَّناء العظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء؛ فإنَّه لم يبطر، ولم يتكبَّر، بل ظلَّ الرَّجل المتواضع؛ الَّذي يقتحم الأهوال، ويأتي بأعظم النَّتائج، من غير أن تكون له إِمرةٌ، أو قيادةٌ، وإِذا كان قد سأل الله تعالى النَّصر للمسلمين، وهو عزٌّ لهم، وللإِسلام فإِنَّه لم يُغفل نفسه أن يسأل الله تعالى أغلى ما يتمنَّاه المؤمن القويُّ الإِيمان، حيث سأل الله تعالى الشَّهادة، وقد استجاب الله تعالى دعاءه، فهزم الأعداء، ورزقه الشَّهادة في ذلك اليوم.
ج ـ خبر أمير المؤمنين عمر مع الهرمزان:
وأوفد أبو سبرة بن أبي رُهم قائد المسلمين في تلك المعارك وفداً إِلى أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ وأرسل معهم الهرمزان، حتَّى إِذا دخلوا المدينة هيَّؤوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الدِّيباج الَّذي فيه الذَّهب، ووضعوا على رأسه تاجاً يُدعى: الاذين مكلَّلاً بالياقوت، وعليه حليته، كيما يراه عمر، والمسلمون في هيئته، ثمَّ خرجوا به على النَّاس يريدون عمر في منزله، فلم يجدوه، فسألوا عنه فقيل لهم: جلس في المسجد لوفدٍ قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يرَوْه، فلمَّا انصرفوا مرُّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدُّدكم[(2140)] ؟ أتريدون أمير المؤمنين ؟ فإنه نائم في ميمنة المسجد، متوسِّداً برنسه ـ وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس ـ فلمَّا فرغ من كلامهم، وارتفعوا عنه، وأخلوه؛ نزع برنسه، ثمَّ توسَّده، فنام، فانطلقوا ومعهم النَّظارة حتَّى إِذا رأوه، جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم، ولا يقظان غيره، والدِّرَّة في يده معلقةٌ، فقال الهرمزان: أين عمر ؟ فقالوا: هو ذا، وجعل الوفد يشيرون إِلى النَّاس أن اسكتوا عنه، وأصغى الهرمزان إِلى الوفد، فقال: أين حرسه، وحُجَّابه عنه؟ قالوا: ليس له حارسٌ، ولا حاجبٌ، ولا كاتبٌ، ولا ديوانٌ ! قال: فينبغي له أن يكون نبيَّاً. فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر النَّاس فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالساً، ثمَّ نظر إِلى الهرمزان، فقال: الهرمزان ؟ قالوا: نعم، فتأمَّله، وتأمَّل ما عليه، وقال: أعوذ بالله من النَّار ؟ وأستعين الله، وقال: الحمد لله الَّذي أذلَّ بالإِسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين ! تمسَّكوا بهذا الدِّين، واهتدوا بهدي نبيِّكم صلى الله عليه وسلم، ولا تبطرنَّكم الدُّنيا، فإِنَّها غرَّارةٌ. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز فكلِّمه، فقال: لا، حتَّى لا يبقى عليه من حليته شيءٌ ! فرُمي عنه بكلِّ شيءٍ عليه إِلا شيئاً يستره، وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال عمر: هيه يا هرمزان ! كيف رأيت وبال الغدر، وعاقبة أمر الله ؟ فقال: يا عمر ! إِنَّا وإِيَّاكم في الجاهليَّة كان الله قد خلَّى بيننا وبينكم، فغلبناكم إِذ لم يكن معنا ولا معكم، فلمَّا كان معكم غلبتمونا. فقال عمر: إِنَّما غلبتمونا في الجاهليَّة باجتماعكم وتفرُّقنا، ثمَّ قال عمر: ما عذرك، وما حجَّتك في انتقاضك مرَّةً بعد مرَّةٍ ؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماءً، فأُتي به في قدحٍ غليظٍ، فقال: لو متُّ عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل هذا، فأتيَ به في إِناءٍ يرضاه، فجعلت يده ترتجف، وقال: إِنِّي أَخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتَّى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنَّما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إنِّي قاتلك، قال: قد أمَّنتني، فقال: كذبت ! فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين ! قد أمَّنته، قال: ويحك يا أنس ! أنا أؤَمِّن قاتل مجزأة، والبراء ! والله لتأتينَّ بمخرج، أو لأعاقبنَّك ! قال: قلت له: لا بأس عليك حتَّى تخبرني، وقلت: لا بأس عليك حتَّى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل على الهرمزان، وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إِلا لمسلم ! فأسلم، ففرض له على ألفين، وأنزله المدينة.
رابعا: فتح مدينة جُنْدَي سابور:
لمَّا فرغ أبو سبرة بن أبي رهم من فتح بلاد السُّوس؛ خرج في جنده حتَّى نزل على « جُنْدَي سابور» وكان زرُّ بن عبد الله بن كليب محاصرهم، وأقاموا عليها يغادونهم، ويراوحونهم القتال، فما زالوا مقيمين عليها حتَّى رُمي إِليهم بالأمان من المسلمين، وكان فتحها، وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم يفاجأ المسلمون إِلا وأبوابها تفتح، ثمَّ خرج السَّرح، وخرجت الأسواق، وانبثَّ أهلها، فأرسل المسلمون أن مالكم ؟ قالوا: رميتم لنا بالأمان، فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمنعونا، فقالوا: ما فعلنا ! فقالوا: ما كذبنا ! فتساءل المسلمون فيما بينهم، فإِذا عبدٌ يدعى مكنفاً كان أصله منها، هو الَّذي كتب لهم. فقالوا: إِنَّما هو عبدٌ، فقالوا: لا نعرف حرَّكم من عبدكم، قد جاء أمانٌ فنحن عليه قد قبلناه، ولم نبدِّل، فإِن شئتم فاغدروا ! فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إِلى عمر، فكتب إِليهم: إِنَّ الله تعالى عظَّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتَّى تفوا، ما دمتم في شكٍّ؛ أجيزوهم، ووفوا لهم. فوفوا لهم، وانصرفوا.
وهذا مثالٌ يدلُّ على تفوُّق المسلمين الشَّاسع في مجال مكارم الأخلاق على جميع أعدائهم من الكفَّار، ولا شكَّ أنَّ هذا التَّفوُّق الأخلاقيّ كان من الدَّوافع الأساسيَّة لدخول الكفَّار في الإِسلام بتلك الكثافة والسُّرعة المذهلة.
_ النُّعمان بن مقرِّن ومدينة كسكر:
كان النُّعمان بن مقرِّن والياً على كسكر، فكتب إِلى عمر ـ رضي الله عنه ـ: مثلي، ومثل كسكر كمثل رجلٍ شاب وإِلى جانبه مومسةٌ تلوَّن له، وتعطَّر، فأنشدك الله لما عزلتني عن كسكر، وبعثتني إِلى جيش من جيوش المسلمين ! فكتب إِليه عمر: أن ائتِ النَّاس بنهاوند، فأنت عليهم.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf