الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

فتح المدائن زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ الظروف والحيثيات

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة السادسة والسبعون

أقام سعد بالقادسيَّة شهرين ينتظر أمر عمر، حتَّى جاءه بالتَّوجُّه لفتح المدائن، وتخليف النِّساء، والعيال بالعتيق مع جندٍ كثيفٍ يحوطهم، وعهد إِليه أن يشركهم في كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم، ففعل، وسار بالجيش لأيَّامٍ بقين من شوَّال، وكان فَلُّ المنهزمين لحق ببابل، وفيهم بقايا الرؤساء مصمِّمين على المدافعة، وبدأت مدن، وقرى الفرس تسقط واحدةً بعد واحدةٍ، ففتح المسلمون البرس، ثمَّ بابل، بعد أن عبروا نهر الفرات ثمَّ كُوثَى، ثمَّ ساباط بعضها عنوةً، والبعض الاخر صلحاً.
واستمرَّت حملات المسلمين المنظَّمة حتَّى وصلوا إِلى المدائن، وأمر عمر سعداً بأن يحسن إِلى الفلاحين، وأن يوفي لهم عهودهم، ودخلت جموعٌ هائلةٌ من الفلاحين في ذمَّة المسلمين، وتأثَّر الفلاحون بأخلاق جيش المسلمين، وبعدلهم، ومساواتهم المنبثقة من دينهم العظيم، فأميرهم كأصغر الرَّعية أمام الحقِّ الأكبر، ولا ظلم، ولا فساد في الأرض، خفَّت عنهم وطأة الكبرياء، والعبودية الَّتي كانوا يسامونها، فصاروا عباداً لله وحده.
وقد توجَّه سعد نحو المدائن بعد أمر أمير المؤمنين، فبعث مقدمة الجيش بقيادة زهرة بن الحويَّة، وأتبعه بعبد الله بن المعتِّم في طائفة من الجيش، ثمَّ بشرحبيل بن السَّمط في طائفةٍ أخرى، ثمَّ بهاشم بن عتبة بن أبي وقَّاص، وقد جعله على خلافته بدلاً من خالد بن عرفطة، ثمَّ لحق سعد بهم ببقيَّة الجيش وقد جعل على المؤخِّرة خالد بن عرفطة، وقد توجَّه زهرة قائد المقدِّمات إِلى المدائن، والمدائن هي عاصمة دولة الفرس، وتقع شرق نهر دجلة، وغربه، فالجزء الَّذي يقع غربه يسمَّى « بهرسير » والَّذي يقع شرقه يسمَّى « أسبانير » و« طيسفون » وقد وصل زهرة إِلى بهرسير، وبدأ حصار المدينة، ثمَّ سار سعد بن أبي وقَّاص بالجيش الإِسلامي ومعه قائد قوَّاته ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقَّاص إِلى المدائن الغربيَّة « بهرسير » وفيها ملك الفرس (يزدجرد)، فحاصرها المسلمون شهرين، وكان الفرس يخرجون أحياناً لقتال المسلمين، ولكنَّهم لا يثبتون لهم.
وقد أصيب زهرة بن الحويَّة بسهم، وذلك: أنَّه كان عليه درعٌ مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد (حتَّى لا تبقى فيها فتحةٌ تصل منها السِّهام) فقال: ولم ؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إِنِّي لكريم على الله إِن ترك سهم فارسٍ الجند كلَّه ثمَّ أتاني من هذا الفصم حتى يثبت فيَّ، وكان كريماً على الله كما أمَّل، فكان أوَّل رجلٍ من المسلمين أصيب يومئذٍ بسهم، فثبت فيه من ذلك الفصم، فقال: بعضهم: انزعوها منه، فقال: دعوني فإِن نفسي معي ما دامت فيَّ، لعلي أن أصيب منهم بطعنةٍ، أو ضربةٍ، أو خطوةٍ، فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهريار من أهل اصطخر، فقتله.
وقد بقي المسلمون في حصار بهرسير شهرين، استعملوا خلالها المجانيق، وقد صنع لهم الفرس الموالون لهم عشرين منجنيقاً شغلوا بها الفرس، وأخافوهم وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا لا يهملون تحصيل أسباب النَّصر المادِّيَّة إِذا قدروا عليها، وأنَّهم كانوا على ذكرٍ تامٍّ لقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]،إِلى جانب تفوُّقهم في أسباب النصر المعنويَّة؛ الَّتي انفردوا بأهمِّها وأبرزها، وهو الاعتماد على الله، وذكره، ودعاؤه.
1 ـ معيَّة الله تعالى لأوليائه المؤمنين بالنَّصر، والتَّأييد:
عن أنس بن الحُلَّيس قال: بينما نحن محاصرون « بهرسير » بعد زحفهم، وهزيمتهم أشرف علينا رسولٌ، فقال: إِنَّ الملك يقول لكم: هل لكم إِلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة وجَبَلُنا، ولكم ما يليكم من دجلة إِلى جبلكم ؟ أما شبعتم ؟ لا أشبع الله بطونكم ! فبدر الناس أبو مُفَزِّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله بما لا يدري ما هو، ولا نحن، فرجع الرَّجل، ورأيناهم يقطعون إِلى المدائن ـ يعني يعبرون النَّهر إِلى شرق المدائن ـ فقلنا: يا أبا مُفَزِّر ! ما قلت له ؟ قال: لا والذي بعث محمداً بالحقِّ ما أدري ما هو إِلا أنَّ عليَّ سكينةٌ، وأنا أرجو أن أكون أُنطقتُ بالَّذي هو خير، وانتاب الناس يسألونه حتَّى سمع بذلك سعد، فجاءنا، فقال: يا أبا مُفَزِّر ! ما قلت ؟ فوالله إِنَّهم لُهرَّاب ! فحدَّثه بمثل حديثه إِيَّانا، فنادى النَّاس، ثمَّ نهد بهم، وإِن مجانيقنا لتخطر عليهم، فما ظهر على المدينة أحدٌ، ولا خرج إِلينا إِلا رجلٌ نادى بالأمان، فأمَّناه، فقال: إِنْ بقي فيها أحد، فما يمنعكم ؟! (يعني: لم يبق فيها أحد) فتسوَّرها الرِّجال، وافتتحناها، فما وجدنا فيها شيئاً، ولا أحداً، إِلا أسارى أسرناهم خارجاً منها، فسألناهم، وذلك الرَّجل: لأيِّ شيءٍ هربوا ؟ فقالوا: بعث الملك إِليكم يعرض عليكم الصُّلح، فأجبتموه بأنَّه لا يكون بيننا وبينكم صلحٌ أبداً حتَّى نأكل عسل أفريذين بأُترجِّ كوثَى، فقال الملك: واويله ! ألا إِنَّ الملائكة تكلَّم على ألسنتهم، تردُّ علينا، وتجيب عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك ما هذا إِلا شيءٌ ألقي على في هذا الرَّجل لننتهي، فائْرِزوا إِلى المدينة القصوى.
2 ـ الآيات الَّتي قرأها سعدٌ لمَّا نزل مظلم ساباط:
نزل سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ في (مظلم ساباط)، بعد أن قدَّم هاشماً، ومن معه نحو بهرسير وهي الجزء الغربي من المدائن، ولمَّا نزل سعدٌ ذلك المكان؛ قرأ قول الله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ *} [إبراهيم: 44]. وإِنَّما تلا هذه الآية؛ لأنَّ في ذلك المكان كتائب لكسرى تُدعى: بوران، وكانوا يحلفون بالله كلَّ يومٍ، لا يزول ملك فارس ما عشنا، وقد هزمهم، وفرَّقهم زهرة بن الحويَّة قبل استشهاده.
ولمَّا دخل المسلمون « بهرسير » وذلك في جوف اللَّيل؛ لاح لهم الأبيض؛ وهو قصر الأكاسرة، فقال ضرار بن الخطَّاب: الله أكبر أبيض كسرى ! هذا ما وعد الله ورسوله، وتابعوا التَّكبير حتَّى أصبحوا.
3 ـ مشورة بين سعد وجنوده في عبور النَّهر:
ولما علم سعد أنَّ كسرى قد عبر بالسُّفن إِلى المدائن الشَّرقية وضمَّ السُّفن كلَّها إِليه؛ وقع في حيرة من أمره، فالعدوُّ أمامهم، وليس بينهم إِلا النَّهر ولا سبيل إِلى عبوره لعدم توافر السُّفن، وهو يخشى أن يرتحل عدوُّه فيصعب القضاء عليه، وقد أتى سعداً بعض أهل فارس فدلُّوه على مخاضة يمكن اجتيازها مع المخاطرة، فأبى سعدٌ، وتردَّد عن ذلك، ثمَّ فاجأهم النهر بمدٍّ عظيم حتَّى اسودَّ ماء النَّهر، وقذف بالزَّبد من سرعة جريانه، وفي أثناء ذلك رأى سعد رؤيا صالحةً، مفادها: أنَّ خيول المسلمين قد عبرت النَّهر، فعزم لتأويل رؤياه على العبور، وجمع النَّاس فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وقال: إِنَّ عدوَّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إِليهم معه، وهم يخلصون إِليكم إِذا شاؤوا فيُنَاوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، قد كفاكموهم أهل الأيَّام، وعطَّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرَّأي أن تبادروا جهاد عدوِّكم بنيَّاتكم قبل أن تحصركم الدُّنيا، ألا إِني قد عزمت على قطع هذا البحر إِليهم، فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرُّشد فافعل.
وفي هذا الخبر دروسٌ وعبرٌ، وفوائد، منها:
ـ تذكُّر معيَّة الله ـ جلَّ، وعلا ـ لأوليائه المؤمنين بالنَّصر، والتَّأييد، فهذه الرُّؤيا الصَّادقة التي راها سعد ـ رضي الله عنه ـ من الله جل وعلا لتثبيت قلبه ليقدم على هذا الأمر المجهول العاقبة.
ـ أنَّ الله تعالى يُجري الأمور لصالح المؤمنين، فالنَّهر جرى بكثافةٍ مفاجئةٍ على غير المعتاد، وظاهر هذا: أنَّه لصالح الفرس، حيث إِنَّه سيمنع أيَّ محاولةٍ لعبور المسلمين، ولكن حقيقته: أنَّه لصالح المسلمين، حيث أعطى ذلك الكفَّار طمأنينةً، فلم يستعدُّوا لقدوم المسلمين المفاجأى لهم، ولم يستطيعوا أن يحملوا معهم كلَّ ما يريدون حمله في حال الفرار.
ـ أنَّ الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يتفاءلون خيراً بالرُّؤيا من الرَّجل الصَّالح، ويعتبرونها مُرجِّحاً للإِقدام على العمل، وكانوا ـ رضي الله عنهم ـ يحسنون الظَّنَّ بالله تعالى، ويعتبرون: أنَّ رؤى الخير تثبيتٌ، وتأييدٌ منه تعالى.
ـ أنَّ قادة المسلمين في ذلك العهد الرَّاشدي كانوا يتَّصفون غالباً بالحزم، واغتنام الفرص لاستنفاذ طاقة الجنود، وهم في حماسهم، وقوَّة إِيمانهم، فهذا سعدٌ ـ رضي الله عنه ـ يأمر جيشه بأن يعبروا إِلى الأعداء بسلاح الإِخلاص والتَّقوى، وقد كان مطمئنّاً إِلى مستوى جيشه الإِيماني، فأقدم على ما أقدم عليه مستعيناً بعد الله تعالى بذلك المستوى الرَّفيع.
ـ اتِّصاف الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ ومن معهم من التَّابعين بالطَّاعة التامَّة لقادتهم، وكانوا يعتبرون هذه الطَّاعة واجباً شرعيَّاً، وعملاً صالحاً يتقرَّبون به إِلى الله تعالى.
4 ـ عبور النَّهر، وفتح المدائن:
ندب سعدٌ النَّاس إِلى العبور، وقال: من يبدأ، ويحمي لنا الفِراض حتَّى تتلاحق به النَّاس لكيلا يمنعوهم من الخروج ؟ فانتدب له عاصم بن عمرو التَّميمي، وكان من أصحاب البأس، والقوَّة، وانتدب بعده ستُّمئةٍ من أهل النَّجدات، فأمَّر عليهم سعد عاصماً، فسار فيهم حتى وقف على شاطىء دجلة، وقال: من ينتدب معي لنحمي الفراض من عدوِّكم، ولنحميكم حتَّى تعبروا ؟ فانتدب له ستُّون من أصحاب البأس والنَّجدة، ثمَّ اقتحموا دجلة، واقتحم بقيَّة السِّتِّمئة على إِثرهم، وهكذا تكوَّنت من جيش المسلمين فرقةٌ من الفدائيِّين عددهم ستُّمئةٍ وقد سميت كتيبة الأهوال، واستخلص عاصم منهم ستِّين تحت قيادته؛ ليكونوا مقدِّمةً لهذه الفرقة، وهذا تخطيط محكمٌ من سعدٍ أوَّلاً، ثمَّ من عاصمٍ، وذلك: أنَّ مواجهة الأهوال، والمغامرات لا تكون بالعدد الكبير، وإِنَّما تكون بأصحاب البأس الشَّديد، والقدرة القتالية العالية، وإِن كانوا قلائل، وذلك أنَّه إِذا انضم لهذه الفرقة من هم أقلُّ كفاءةً وشجاعةً، ثمَّ ارتدُّوا عند هجوم الأعداء يسبِّبون انهزام الفرقة كلِّها.
وقد اقتحم عاصم النَّهر بالسِّتِّين على الخيول، وقد ذُكر من طليعتهم الَّذين سبقوا إِلى الشَّاطىء الاخر أصمُّ بني ولاد التَّيمي، والكَلَج الضبَّني، وأبو مفزِّر الأسود بن قطبة، وشرحبيل بن السَّمط الكنديُّ، وحجل العجليُّ، ومالك بن كعب الهمدانيُّ، وغلام من بني الحارث بن كعب، فلمَّا راهم الأعاجم؛ أعدُّوا لهم فرساناً فالتقوا بهم في النَّهر قرب الشاطىء الشَّرقي، فقال عاصم: الرِّماح، الرِّماح، أشرعوها، وتوخَّوا العيون، فالتقوا، فاطَّعنوا وتوخَّى المسلمون عيونهم، فولَّوا نحو الشَّاطأى والمسلمون ينخسون خيولهم بالرِّماح لتسرع في الهروب، فصارت تسرع وأصحابها لا يملكون منعها، ولحق بهم المسلمون، فقتلوا عامَّتهم، ونجا من نجا منهم عوراناً، ولحق بقيَّة السِّتِّمئةٍ بإِخوانهم فاستولوا على الشَّاطأى الشَّرقي.
5 ـ المسلمون يقتحمون النَّهر:
لمَّا رأى سعد عاصماً على الفراض قد منعها؛ أذن للنَّاس في الاقتحام، وقال: قولوا: نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا الله، ونعم الوكيل، لا حول ولا قوَّة إِلا بالله العلي العظيم. وتلاحق معظم الجند، فركبوا اللُّجَّة، وإِنَّ دجلة لترمي بالزَّبد، وإِنَّها لمُسْوَدة، وإِنَّ النَّاس ليتحدَّثون في عومهم، وقد اقتربوا ما يكترثون كما يتحدَّثون في مسيرهم على الأرض، وكان الَّذي يساير سعداً في الماء سلمان الفارسيُّ، فعامت بهم الخيل، وسعدٌ يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرنَّ الله وليَّه، وليظهرنَّ الله دينه، وليهزمنَّ الله عدوَّه إن لم يكن في الجيش بَغْيٌ، أو ذنوبٌ تغلب الحسنات، فقال له سلمان: الإسلام جديدٌ، ذلِّلت لهم والله البحور كما ذُلِّل لهم البرُّ! أما والَّذي نفس سلمان بيده ليخرُجُنَّ منه أفواجاً كما دخلوه أفواجاً! وقول سلمان ـ رضي الله عنه ـ: الإِسلام جديدٌ، يعني: لا يزال حيَّاً، وأتباعه أقوياء الإيمان معتزُّون به، وقد جعلوه قضيَّتهم الَّتي من أجلها يحيون، ومن أجلها يموتون، وإليها يدعون، وعنها يدافعون، أمَّا حينما، يتقادم العهد؛ فإنَّه تأتي أجيالٌ ترث هذا الدِّين وراثةً لا اختياراً، ولا تجعله القضيَّة الَّتي تأخذ على أفرادها مشاعرهم، واهتماماتهم، بل يجعلون همَّهم الأكبر هو العلوُّ في الدُّنيا والتَّمتُّع بمتاعها، ويصبح الدِّين أمراً ثانويَّاً في قاموس حياتهم، فعند ذلك يخرجون منه أفواجاً كما دخلوه أفواجاً.
هذا وقد تمَّ عبور المسلمين جميعاً سالمين لم يصب أحدٌ منهم بأذى، ولم يقع منهم في النَّهر إلا رجلٌ من بارقٍ يُدْعَى « غرقدة » زال عن ظهر فرسٍ شقراء، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه، فأخذ بيده فجرَّه حتَّى عبر، فقال البارقيُّ ـ وكان من أشدِّ النَّاس ـ: أعجزت الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع ! وكان للقعقاع فيهم خؤولة.
لقد دُهش الفُرس من عبور المسلمين، وهرب يزدجرد قاصداً حلوان، ودخل المسلمون من غير معارض، ونزل سعدٌ القصر الأبيض، واتَّخذه مصلَّى، وقرأ قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ *} [سورة الدُّخان: 25 ـ 27]، وصلَّى ثماني ركعاتٍ، صلاة الفتح، وكان أوَّل من دخل المدائن كتيبة الأهوال ثمَّ كتيبة الخرساء، وكان الَّذي يقود كتيبة الأهوال: عاصم ابن عمرو التَّميمي، وأمَّا الكتيبة الخرساء فكان يقودها القعقاع بن عمرو.
6 ـ مواقف من أمانة المسلمين:
أ ـ أحمد الله وأرضى بثوابه: لمَّا هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض؛ أقبل رجلٌ بِحُقٍّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والَّذي معه: ما رأينا مثل هذا قطُّ، ما يعدله ما عندنا، ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به! فعرفوا: أنَّ للرَّجل شأناً، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني؛ ولا غيركم ليقرِّظوني، ولكنِّي أحمد الله، وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلاً حتَّى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإِذا هو عامر بن عبد قيس.
ب ـ قال عصمة بن الحارث الضَّبِّيّ: خرجت فيمن خرج يطلب، فأخذت طريقاً مسلوكاً، وإذا عليه حمَّار، فلمَّا راني حثَّه، فلحق باخر قدَّامه، فمالا، وحثَّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كُسر جسره فثبتا حتَّى أتيتهما، ثمَّ تفرَّقا، ورماني أحدهما فألظظت به (يعني: تبعته) فقتلته، وأفلت الاخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما، فإذا سَفَطان في أحدهما فرسٌ من ذهب مسرج بسرجٍ من فضَّة على ثفره، ولبَبَه الياقوت والزُّمرُّد، منظومٌ على الفضَّة، ولجامٌ كذلك، وفارس من فضَّة مكلَّل بالجواهر، وإذا في الاخر ناقةٌ من فضَّةٍ عليها شليلٌ من ذهب، وبطانٌ من ذهب، ولها زمامٌ من ذهب، وكلُّ ذلك منظومٌ بالياقوت، وإذا عليها رجلٌ من ذهب مكلَّلٌ بالجواهر، كان كسرى يضعها إِلى إِسطوانتي التَّاج.
جـ خبر القعقاع بن عمرو:لحق القعقاع بفارسيٍّ يحمي النَّاس فاقتتلا، وإِذا معه غلافان، وإِذا في أحد الغلافين خمسة أسيافٍ، وفي الاخر ستَّةٌ، وهي من أسياف الملوك من الفرس ومن الملوك الَّذين جرت بينهم وبين الفرس حروبٌ، وفيها سيف كسرى، وسيف هرقل، وإِذا في العيبتين أدراعٌ من أدراع الملوك، وفيها درع كسرى، ودرع هرقل، فجاء بها إِلى سعد، فقال اختر أحد هذه الأسياف، فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام، وأمَّا سائرها فنفلها كتيبة الخرساء الَّتي هي بقيادة القعقاع، إِلا سيف كسرى، والنُّعمان، فقد رأى أن يبعثهما إِلى أمير المؤمنين؛ لتسمع بذلك العرب، لمعرفتهم بهما.
7 ـ ثناء الصَّحابة على أفراد الجيش:
أثنى أكابر الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ على ذلك الجيش، ومن ذلك قول سعد ابن أبي وقَّاص: والله إنَّ الجيش لذو أمانة ! ولولا ما سبق لأهل بدرٍ؛ لقلت على فضل أهل بدرٍ، وقال جابر بن عبد الله: والله الذي لا إله إلا هو ما اطَّلعنا على أحدٍ من أهل القادسيَّة: أنَّه يريد الدُّنيا مع الاخرة، ولقد اتَّهمنا ثلاثة نفرٍ، فما رأينا كالَّذي هجمنا عليه من أمانتهم، وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن المكشوح، وأكبر من ذلك ثناء أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ لما رأى خمس تلك الغنائم، وكان معها سيف كسرى، ومنطقته، وزبرجده فقال: إنَّ قوماً أدَّوا هذه لذوو أمانة، فقال عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ: إنك عففت، فعفَّت الرَّعيَّة، ولو رتعت؛ لرتعت.
8. موقف عمر ـ رضي الله عنه ـ من نوادر الغنائم:
بعث سعد بن أبي وقَّاص أيَّام القادسيَّة إلى عمر بقباء كسرى، وسيفه، ومنطقته، وسواريه، وسراويله، وقميصه، وتاجه، وخفَّيه، وقد كانت غالية الثَّمن كالحرير، والذَّهب، والجواهر، فنظر عمر في وجوه القوم، وكان أجسمهم وأبدنهم قامةً سراقة بن مالك بن خثعم، فقال: يا سراقة ! قم فالبس، قال سراقة: فطمعت فيه، فقمت، فلبست، فقال: أدبر، فأدبرت، ثمَّ قال: أقبل، فأقبلت، ثمَّ قال: بخٍ بخٍ أعرابيٌّ من مدلج عليه قباء كسرى، وسراويله، وسيفه، ومنطقته، وتاجه، وخفَّاه، ربَّ يومٍ يا سراقة بن مالكٍ لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى، وال كسرى كان شرفاً لك، ولقومك، انزع، فنزعت، فقال: اللَّهمَّ إِنَّك منعت هذا رسولك، ونبيَّك، وكان أحبَّ إِليك منِّي، وأكرم عليك منِّي، ومنعته أبا بكرٍ، وكان أحبَّ إليك منِّي، وأكرم عليك منِّي، وأعطيتنيه، فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي، ثمَّ بكى حتَّى رحمه من كان عنده، ثمَّ قال لعبد الرحمن بن عوف: أقسمت عليك لما بعته، ثمَّ قسمته قبل أن تمسي.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022