الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

معركة نهاوند (فتح الفتوح): من روائع التكتكيك الحربي للخلفية عمر ابن لخطاب رضي الله عنه
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثامنة والسبعون


كان المسلمون قد انتصروا على جيوش الفرس في معارك عديدةٍ متتاليةٍ، وأضحوا يطاردون فلول تلك الجيوش دون أن يتركوا لها فرصةً لالتقاط أنفاسها، فمنذ انتصارهم السَّاحق في معركة القادسيَّة بالعراق حتَّى المعركة الحاسمة في نهاوند، مرَّت أربع سنوات كان المسلمون ينتقلون خلالها من نصرٍ إلى نصرٍ، وكانت تلك الجيوش تتابع تقدُّمها؛ لكي تقضي على ما تبقَّى من فلول جيوش الإِمبراطوريَّة الهرمة، لولا أنَّ أوامر الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ كانت تقضي بالتَّوقُّف أمام جبال زغروس، وعدم تجاوزها، وذلك بغية إِعادة تنظيم الجيوش المنهكة من القتال المستمرِّ، وتنظيم إِدارة الأقاليم المفتوحة.
ولقد أثارت الهزائم المتتالية الَّتي ألحقها المسلمون بالفرس بعد القادسيَّة خاصَّةً حفيظتهم، وحنقهم، ولم تكن كافيةً على ما يبدو للقضاء نهائيَّاً على مقاومتهم، فكتب أمراؤهم، وقادتهم إِلى مليكهم (يزدجرد)، يستنهضونه للقتال من جديد، فعزم عليه، وأخذ يعدُّ العدَّة للعودة إِلى قتال المسلمين فيما تبقَّى له في بلاده من معاقل، ومعتصمات، فكتب إِلى أهل الجبال من الباب إِلى سجستان، فخراسان أن يتحرَّكوا للقاء المسلمين، وواعدهم جميعاً نهاوند، وكان قد وقع عليها الاختيار كمركزٍ أخيرٍ للمقاومة، وكميدانٍ للمعركة الحاسمة، فهي مدينةٌ منيعةٌ تحيط بها الجبال من كلِّ جانب، ولا يمكن الوصول إِليها إِلا عبر مسالك وعرةٍ صعبةٍ، وقد تحشَّد الفرس في هذه المدينة، واجتمع ليزدجرد فيها مئةٌ وخمسون ألف مقاتل: ثلاثون ألفاً من الباب إِلى حلوان، وستُّون ألفاً من خراسان إِلى حلوان، ومثلها من سجستان إِلى حلوان، فجعل يزدجرد عليهم الفيرزان قائداً.
كان سعد بن أبي وقَّاص في الكوفة حين علم بخبر الحشود الفارسيَّة، فكتب إِلى الخليفة عمر ينبئه بذلك، ويستأمره، شارحاً له الوضع من مختلف جوانبه، فجمع عمر في المدينة أهل الرَّأي والمشورة من المسلمين، واستشارهم في الأمر، ثمَّ قرَّر بعدها إِرسال جيش لقتال الفرس في معقلهم الأخير « نهاوند » وكان النُّعمان ابن مقرِّن المزني يومئذٍ عاملاً على كسكر، وكان قد كتب إِلى الخليفة كتاباً يقول له فيه: (مثلي ومثل كسكر كمثل رجلٍ شابٍّ إِلى جنبه مومسةٌ تلوَّن له، وتعطَّر، فأنشدك الله لما عزلتني عن كسكر، وبعثتني إِلى جيشٍ من جيوش المسلمين !) .
واستشار عمر مجلس شوراه، وتقرَّر أن يتولَّى قيادة جيوش المسلمين في نهاوند النُّعمان بن مقرِّن، ووضع الخليفة خطَّةً لتعبئة جيش المسلمين على الشَّكل التَّالي:
ـ النُّعمان بن مقرِّن المزني (والي كسكر) قائداً عامَّاً للجيش.
ـ حذيفة بن اليمان قائداً لفرقة تعبَّأ من أهل الكوفة.
ـ أبو موسى الأشعري (والي البصرة) قائداً لفرقة تعبَّأ من أهل البصرة.
ـ عبد الله بن عمر (بن الخطاب): قائداً لفرقة تعبَّأ من المهاجرين، والأنصار.
ـ سلمى بن القين، وحرملة بن مريطة، وزر بن كليب، والأسود بن ربيعة، وسواهم من قادة المسلمين في الأهواز وباقي بلاد فارس: احتياط، ومشاغلة للأعداء.
وكتب عمر إلى الولاة والقادة بتعليماته، واستطاع الفاروق أن يحشد جيشاً مقداره ثلاثين ألف مقاتل. وتحرَّك جيش الإِسلام بقيادة النُّعمان بن مقرِّن إِلى نهاوند.
ووجدها محصَّنةً تحصيناً قويَّاً، وحولها خندقٌ عميقٌ، وأمام الخندق حسكٌ شائكٌ مربَّع الأضلاع، يثبت منه ضلعٌ في الأرض، وتظلُّ الأضلاع الثَّلاثة الباقية، أو اثنان منها على الأقل فوق سطحها؛ لتعيق تقدُّم المهاجمين، أو تؤذي خيالتهم بإِحداث ثقوب في حوافر جيادهم ممَّا يمنعها من متابعة الجري، أمَّا جيش الفرس داخل سور المدينة فكان على تعبئةٍ، وقد انضمَّ إِليه بنهاوند « كلُّ من غاب عن القادسيَّة »، وقد ركز الفيرزان رماته باتِّجاه محاور التَّقدُّم المحتملة للمسلمين كي يطالوا جندهم بنبالهم إِذا ما حاولوا التَّقدُّم.
لقد اصطدمت خيول المسلمين بالحسك الشَّائك ثمَّ بالخندق فلم يستطيعوا اجتيازها، بينما تولَّى رماة الفرس رمي جند المسلمين الَّذين تمكَّنوا من الاقتراب من السُّور، واستمرَّ الأمر كذلك لمدَّة يومين، ورأى النُّعمان أن يجمع أركان الجيش الإِسلامي لتدارس الوضع معه، وخرجوا بنتيجة الاجتماع بالخطَّة التَّالية، وكان صاحبها طليحة بن خويلد الأسدي:
1 ـ تخرج خيول المسلمين، فتنشب القتال مع الفرس، وتستفزُّهم حتَّى تخرجهم من أسوارهم.
2 ـ إِذا خرجوا تقهقرت خيول المسلمين أمامهم يعتقدون تراجعها ضعفاً، ويطمعون بالنَّصر، فيلحقوا بها وهي تجري أمامهم.
3 ـ تستدرج خيول المسلمين المتظاهرة بالهزيمة، الفرس إِلى خارج أسوارهم ومواقعهم.
4 ـ يفاجىء المسلمون الَّذين يكونون قد كمنوا في أماكن محدَّدة، ومموَّهة الفرس المتدفقين خلف خيول المسلمين، ويطبقون عليهم، وهم بعيدون عن مراكزهم، وخنادقهم، وأسوارهم. وشرع النُّعمان لتنفيذ هذه الخطَّة، ووزع قواته فرقاً على الشَّكل التَّالي:
ـ الفرقة الأولى: خيالة بقيادة القعقاع بن عمرو، ومهمَّتها تنفيذ عملية التَّضليل وفقاً للخطَّة المرسومة انفاً، واقتحام أسوار العدو، والاشتباك معه.
ـ الفرقة الثَّانية: مشاة بقيادته هو، ومهمَّتها: التَّمركز في مواقع ثابتةٍ، ومموَّهةٍ بانتظار وصول الفرس إِليها حيث تنشب القتال معها في معركة جبهية.
ـ الفرقة الثَّالثة: خيالة، وهي القوة الضَّاربة في الجيش، ومهمَّتها: التَّمركز في مواقع ثابتةٍ، ومموَّهةٍ، ثمَّ الهجوم على قوَّات العدوِّ من الجانبين.
ـ وأمر النُّعمان المسلمين في كمائنهم (أن يلزموا الأرض، ولا يقاتلوهم حتَّى يأذن لهم)، والتزم المسلمون بالأمر ينتظرون إِشارة النُّعمان بالهجوم.
وشرع القعقاع في تنفيذ الخطَّة، ونجح نجاحاً رائعاً، وكانت مفاجأة الفرس مذهلةً عندما وجدوا أنفسهم، في اخر المطاف محاصرين بين قوات المسلمين الَّتي شرعت سيوفهم في حصد رقاب المشركين، ولاذ المشركون بالفرار ليتحصَّنوا بخندقهم، وحصونهم إِلا أنَّهم وقعوا في خنادقهم، وفي الحسك الشَّائك، واستمرَّ المسلمون يطاردونهم، ويعملون سيوفهم في ظهورهم، وأقفيتهم، حتَّى سقط من الفرس ألوف في الخندق، واستطاع القعقاع أن يطارد الفيرزان فلحقه، وقضى عليه، ودخل المسلمون بعد هذه المعركة « نهاوند » ثمَّ همذان، ثمَّ انطلقوا بعد ذلك يستكملون فتح ما تبقَّى من بلاد فارس دون مقاومة تذكر، ولم يكن للفرس بعد نهاوند اجتماع، وملك المسلمون بلادهم، لذلك سمِّيت معركة نهاوند بفتح الفتوح.
لقد ظهر فقه الفاروق في معركة نهاوند في عدَّة أمورٍ منها:
1 ـ التَّحشُّد ومنع العدو من التَّحشُّد:
حيث لم يكتفِ الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ بأن أمر عمَّاله في الكوفة، والبصرة، والمسلمين في الجزيرة بالتَّحشُّد لقتال الفرس، بل أمر قادته في الأهواز، وباقي بلاد فارس أن يمنعوا العدو من التَّحشُّد، فكلَّف سلمى بن القين، وحرملة بن مريطة، وزر بن كليب، والأسود بن ربيعة، وسواهم أن يقيموا على حدود ما بين فارس، والأهواز، وأن يمنعوا الفرس من الانضمام إِلى الجيش المتحشِّد في نهاوند، وهكذا فقد أقام هؤلاء القادة في تخوم أصبهان، وفارس، وقطعوا الإِمداد عن نهاوند.
2 ـ تعيين القادة إِن مات قائد الجيوش:
كما فعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة ـ (8 هـ/629 م) عندما أمَّر على المسلمين زيد بن حارثة، فإِن أصيب، فجعفر بن أبي طالب على النَّاس، فإِن أصيب جعفر؛ فعبد الله بن رواحة على النَّاس، كذلك فعل عمر الفاروق يوم نهاوند عندما أمَّر النُّعمان على المسلمين، فإِن حدث بالنُّعمان حدث، فعلى النَّاس حذيفة بن اليمان، فإِن حدث بحذيفة حدث فعلى النَّاس نعيم بن مقرن. وتميَّز النُّعمان بقيادته الرَّفيعة، والَّتي ظهرت في عدَّة أمورٍ:
أ ـ الاستطلاع قبل السَّير للقتال:
كلَّف النُّعمان قبل السَّير بجيشه نحو نهاوند ـ وكان على بُعد « بضعة وعشرين فرسخاً » منها ـ كلاًّ من طُليحة بن خويلد الأسدي، وعمرو بن أبي سلمى العنزي، وعمرو بن معد يكرب الزَّبيدي بالتَّقدُّم نحوها، واستطلاع الطَّريق الموصلة إِليها، ومعرفة ما إِذا كان من عدوٍّ بينه وبينها، فسار الثَّلاثة مقدار يومٍ وليلةٍ، ثمَّ عادوا ليبلِّغوا القائد العامَّ: أنَّ ليس بينه وبين نهاوند شيءٌ يكرهه، ولا أحد، فكانت هذه البعثة أشبه بما يعرف في عصرنا بالطَّليعة « أو المفرزة المتقدِّمة » الَّتي تسبق أيَّ جيشٍ لاستطلاع الطَّريق له قبل تقدُّمه، ومع ذلك أخذ النُّعمان كلَّ الاحتياطات الَّلازمة عند تحرُّكه بجيشه، فسار « على تعبئةٍ » كما يفترض أن يسير.
ب ـ عمليَّة التَّضليل:
وكانت « عمليَّة التَّضليل » الَّتي نفَّذها المسلمون في نهاوند من أروع المناورات العسكريَّة الَّتي يمكن أن ينفذها جيش في التَّاريخ القديم، والحديث، فعندما عجز المسلمون عن اقتحام أسوار المدينة المحصَّنة، والمحميَّة بالخندق المحيط بها، وبالحسك الشَّائك، وبالرُّماة المهرة، وقدَّروا: أنَّ الحصار سوف يستمرُّ طويلاً دون جدوى، طالما: أنَّ لدى الفرس المحاصرين داخل أسوار المدينة من الذَّخائر، والمؤن ما يكفيهم للمقاومة مدَّةً طويلةً؛ رأوا أن يعمدوا إلى الحيلة في استدراج العدوِّ، وإِخراجه من « جحوره » ومواقعه، لكي يقاتلوه خارج تلك الأسوار، فيكونون قد فرضوا عليه ميدان القتال الَّذي اختاروه بأنفسهم، وقد تمَّ ما قدَّره المسلمون تماماً، فاستدرج العدوُّ إلى مواقع حدَّدها المسلمون للقتال حيث كمنوا له، ثمَّ نازلوه في تلك المواقع جبهيَّاً، ومن كلِّ جانب، ففوجىء، ثمَّ ذعر، فأسقط في يده، وانهزم، وليس هناك من حيلةٍ أخرى يمكن أن يلجأ إِليها خصمٌ لإِحراج خصمه، وإِخراجه، والتَّغلُّب عليه أفضل من هذه الحيلة.
ج ـ اختيار ساعة الهجوم:
وقد تكلَّمت كتب التَّاريخ عن صبر النُّعمان بن مقرِّن، وحنكته المتميِّزة المتناهية في اختيار ساعة الهجوم، الَّتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّها عند الزوال، وتفيؤ الأفياء، وهبوب الرِّياح.
لقد نال النُّعمان بن مقرن الشَّهادة في تلك المعركة الحاسمة، ووصل خبر النُّعمان إِلى أمير المؤمنين، فقال: « إِنَّا لله وإِنَّا إِليه راجعون » وبكى، ونشج، واشتدَّ حزنه، وسأل عن الشُّهداء، فسمِّي له أسماء لا يعرفها، فقال: أولئك المستضعفون من المسلمين، ولكنَّ الَّذي أكرمهم بالشَّهادة يعرف وجوههم، وأنسابهم، وما يصنع أولئك بمعرفة عمر؟ !
وممَّا يستحقُّ الذِّكر: أنَّ المسلمين عثروا في غنائم نهاوند على سفطين مملوءين جوهراً نفيساً من ذخائر كسرى فأرسلهما حذيفة أمير الجيش إِلى عمر مع السَّائب بن الأقرع، فلمَّا أوصلهما له؛ قال: « ضعها في بيت المال، والحقْ بجندك ».
فركب راحلته، ورجع، فأرسل عمر وراءه رسولاً يخبُّ السَّير في أثره حتَّى لحقه بالكوفة فأرجعه. فلمَّا راه عمر قال: ما لي وللسَّائب، ما هو إِلا أن نمت اللَّيلة الَّتي خرجت فيها، فباتت الملائكة تسحبني إِلى السَّفطين يشتعلان ناراً ؟ يتوعَّدوني بالكيِّ إِن لم أقسمها، فخذهما عنِّي، وبعهما في أرزاق المسلمين. فبيعا بسوق الكوفة.
فرضي الله عنك يا عمر ! لقد سرت بسيرة نبيِّك، فعزَّزت، وأعززت الإِسلام، والمسلمين، اللَّهمَّ ألهمنا الاتِّباع، واكفنا شرَّ الابتداع! وبعد معركة نهاوند تسارع زعماء الفرس من همدان، وطبرستان، وأصبهان، وطلبوا الصُّلح، وتمَّ لهم ذلك على التَّوالي.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022