يوم النصر: انتهاء معركة القادسية ووصول بشائر الظفر إلى الفاروق رضي الله عنه
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الرابعة والسبعون
أصبح المسلمون في اليوم الرَّابع وهم يقاتلون، فسار القعقاع بن عمرو في النَّاس، فقال: إِنَّ الدَّبرة بعد ساعةٍ لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعةً، واحملوا، فإِنَّ النَّصر مع الصَّبر، فاثروا الصَّبر على الجَزَع، فاجتمع إِليه جماعة من الرُّؤساء، وصمدوا لرستم حتَّى خالطوا الَّذين دونه مع الصُّبح، لما رأت ذلك القبائل قام فيهم رجالٌ، فقام قيس بن عبد يغوث، والأشعث بن قيس، وعمرو بن معدي كرب، وابن ذي السَّهمين الخثعمي، وابن ذي البردين الهلالي، فقالوا: لا يكوننَّ هؤلاء (يعني: أهل فارس) أجرأ على الموت منكم، ولا أسخى أنفساً عن الدُّنيا، وقام في ربيعة رجالٌ، فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس، وأجرؤهم عليهم فيما مضى، فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ ممَّا كنتم ؟!.
وهكذا يضيف القعقاع بن عمرو مأثرةً جديدةً في ماثره الكثيرة؛ فقد جمع الله له بين الشَّجاعة النَّادرة، والرَّأي السَّديد، وقوَّة الإِيمان، فسخَّر ذلك كلَّه لنصرة الإِسلام والمسلمين، وكان قدومه في هذه المعركة فتحاً للمسلمين، لقد أدرك القعقاع: أنَّ الأعداء قد نفد صبرهم بعد قتال استمر يوماً وليلةً دون انقطاعٍ، وقبل ذلك لمدَّة يومين مع راحةٍ قليلة، وعرف بثاقب فكره، وطول تجربته ـ بعد توفيق الله له ـ: أنَّ عاقبة المعركة مع من صبر بعد هذا الإِجهاد الطَّويل، واستطاع القعقاع وَمَنْ معه من الأبطال أن يفتحوا ثغرةً عميقةً في قلب الجيش الفارسي حتَّى وصلوا قريباً من رستم مع الظَّهيرة، وهنا تنزَّل نصر الله تعالى، وأمدَّ أولياءه بجنودٍ من عنده، فهبَّت ريحٌ عاصفٌ، وهي الدَّبور، فاقتلعت طيارة رستم عن سريره، وألقتها في نهر العتيق، ومال الغبار على الفرس، فعاقهم عن الدِّفاع.
أ ـ مقتل رستم قائد الفرس:
وتقدَّم القعقاع ومن معه حتى عثروا على سرير رستم، وهم لا يرونه من الغبار، وكان رستم قد تركه، واستظلَّ ببغل من البغال المحمَّلة، وضرب هلال بن عُلَّفة أحد عدلي البغل فوقع على رستم، وهو لا يشعر به، فأزال من ظهره فقاراً، وهرب رستم نحو نهر العتيق لينجو بنفسه، ولكنَّ هلالاً أدركه، فأمسك برجله، وسحبه ثمَّ قتله، وصعد السَّرير، ثمَّ نادى:
قتلت رستم وربِّ الكعبة ! إِليَّ ! فأطافوا به، وما يرون السَّرير، وكبَّروا، وتنادوا، وانهزم قلب الفرس. أمَّا بقية قادة المسلمين؛ فإِنَّهم تقدَّموا أيضاً فيمن يقابلهم، وتقهقر الفرس أمامهم، ولمَّا علم الجالينوس بمقتل رستم؛ قام على الرَّدم المقام على النَّهر، ونادى أهل فارس إِلى العبور فراراً من القتل، فعبروا، أمَّا المقترنون بالسَّلاسل، وعددهم ثلاثون ألفاً؛ فإِنَّهم تهافتوا في نهر العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم، فما أُفلت منهم أحدٌ.
ب ـ نهاية المعركة:
انتهت المعركة بتوفيق الله تعالى، ثمَّ بجهود أبطال المسلمين، وحكمة قائدهم سعد بن أبي وقَّاص، وكانت معركةً عنيفةً قاسيةً ثبت فيها الأعداء للمسلمين ثلاثة أيَّام حتَّى هزمهم الله في اليوم الرَّابع، بينما كان المسلمون يهزمون أعداءهم غالباً في يومٍ واحدٍ، وكان من أسباب هذا الثَّبات: أنَّ الفرس كانوا يعتبرون هذه المعركة معركة مصير، فإِمَّا أن تبقى دولتهم مع الانتصار، وإِمَّا أن تزول دولتهم مع الهزيمة، والاندحار، ولا تقوم لهم قائمة، كما أنَّ من أسباب ثباتهم وجود أكبر قادتهم رستم على رأس القيادة، وهو قائدٌ له تاريخٌ حافلٌ بالانتصارات على أعدائه، إِضافةً إِلى تفوُّق الفرس في العُدد، والعَدد، حيث كان عدد الفرس عشرين ومئة ألف من المقاتلين من غير الأتباع، مع من كان يبعثهم يزدجرد مدداً كلَّ يومٍ، بينما كان عدد المسلمين بضعةً وثلاثين ألفاً، ومع هذا كله انتصر المسلمون عليهم بعد أن قدَّموا ثمانية الاف وخمسمئةٍ من الشُّهداء، وهذا العدد من الشُّهداء هو أكبر عدد قدَّمه المسلمون في معاركهم في الفتوح الإِسلاميَّة الأولى، وكونهم قدَّموا هذا العدد من الشُّهداء دليلٌ على عنف المعركة، وعلى استبسال المسلمين، وتعرُّضهم للشَّهادة رضي الله عنهم أجمعين.
جـ مطاردة فلول المنهزمين:
أمر سعد ـ رضي الله عنه ـ بمطاردة فلول المنهزمين، فوكَّل القعقاع بن عمرو، وشرحبيل بن السَّمط الكندي بمطاردة المنهزمين يميناً، وشمالاً دون نهر العتيق، وأمر زهرة بن الحويَّة بمطاردة الَّذين عبروا النَّهر مع قادتهم، وكان الفرس قد بثقوا النَّهر في الرَّدم حتَّى لا يستطيع المسلمون متابعتهم، فاستطاع زهرة وثلاثمئة فارس أن يتجاوزوا بخيولهم، وأمر من لم يستطع بموافاتهم من طريق القنطرة، وكان أبعد قليلاً، ثمَّ أدركوا القوم، وكان الجالينوس وهو أحد قادتهم الكبار يسير في ساقة القوم يحميهم، فأدركه زهرة، فنازله، فاختلفا ضربتين، فقتله زهرة، وأخذ سلبه، وطاردوا الفرس، وقتلوا منهم، ثمَّ أمسوا في القادسيَّة مع المسلمين.
د ـ بشائر النَّصر تصل إِلى عمر رضي الله عنه:
وكتب سعد إِلى أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ يخبره بالفتح مع سعد بن عُمَيلة الفزاري، وجاء في كتابه: أمَّا بعد: فإِنَّ الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن مَنْ كانوا قبلهم من أهل دينهم بعد قتالٍ طويلٍ، وزلزالٍ شديدٍ، وقد لقوا المسلمين بعُدَّة لم ير الرَّاؤون مثل زهائها (يعني: مقدارها) فلم ينفعهم الله بذلك، بل سَلَبَهموه، ونقله عنهم إِلى المسلمين، واتَّبعهم المسلمون على الأنهار، وعلى طفوف الاجام، وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارأى، وفلان، وفلان، ورجالٌ من المسلمين لا نعلمهم، الله بهم عالم، كانوا يُدوُّون بالقران إِذا جنَّ عليهم اللَّيل دويَّ النَّحل، وهم اساد النَّاس لا يشبههم الأسود، ولم يفضُل من مضى منهم من بقي إِلا بفضل الشَّهادة؛ إِذ لم تكتب لهم.
وفي هذه الرسالة دروسٌ، وعبرٌ، منها:
_ ما تحلَّى به سعدٌ ـ رضي الله عنه ـ من توحيد الله تعالى، وتعظيمه، والبراءة من حول النُّفوس وقوَّتها، فالنَّصر على الأعداء إِنَّما هو من الله تعالى وحده، وليس بقوَّة المسلمين، بالرَّغم ممَّا بذلوه من الجهاد المضني، والتَّضحية العالية.
_ وقوة الأعداء الضَّخمة، ليس بقاؤها، أو سلبها للبشر، بل ذلك كلُّه لله تعالى، فهو الذي حرم الأعداء من الانتفاع بقوَّتهم، وهو الذي منحها للمسلمين، وإِنَّما البشر مجرَّد وسائط، يُجري الله النَّفع، والضَّرر على أيديهم، وهو وحده الَّذي يستطيع دفع الضَّرر، وجلب المنفعة سبحانه وتعالى، وهكذا فهم سعد ـ رضي الله عنه ـ معنى التَّوحيد، وحقَّقه مع جنوده في حياته.
_ ونلاحظ سعداً في رسالته يصف الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ ومن معهم من التَّابعين بالتفوُّق في العبادة، والشَّجاعة، فهم عبَّادٌ في اللَّيل، لهم أصواتٌ مدوِّيةٌ بالقران كأصوات النَّحل، لا تكلُّ، ولا تملُّ، وفرسانٌ في النَّهار، لا تصل الأسود الضَّارية إِلى مستواهم في الإِقدام، والثَّبات، وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يستخبر الرُّكبان عن أهل القادسيَّة من حيث يصبح إِلى انتصاف النَّهار، ثمَّ يرجع إِلى أهله، ومنزله، فلمَّا لقي البشير؛ سأله: من أين ؟
فأخبره، قال: يا عبد الله ! حدِّثني. قال: هزم الله العدوَّ، وعمر يخبُّ معه ـ يعني: يسرع ـ ويستخبره، والاخر على ناقته، ولا يعرفه، حتَّى دخل المدينة فإِذا الناس يسلِّمون عليه بإِمرة المؤمنين، فقال: فهلا أخبرتني ـ رحمك الله ! ـ: أنَّك أمير المؤمنين، وجعل عمر يقول: لا عليك يا أخي!
وفي هذا الخبر دروسٌ، وعبرٌ منها:
ـ الاهتمام الكبير من عمر ـ رضي الله عنه ـ الَّذي دفعه إِلى أن يخرج إِلى البرِّيَّة كلَّ يومٍ لعلَّه يجد الرُّكبان القادمين من العراق، فيسألهم عن خبر المسلمين مع أعدائهم، وقد كان بإِمكانه أن يوكِّل بهذه المهمَّة غيره ممَّن يأتيه بالخبر، ولكنَّ الهمَّ الكبير الَّذي كان يحمله للمسلمين لا يتيح له أن يفعل ذلك، وهنا منتهى الرَّحمة والشُّعور بالمسؤوليَّة.
ـ التَّواضع الجمُّ من عمر ـ رضي الله عنه ـ فقد ظلَّ يسير ماشياً مع الرَّاكب، ويطلب منه خبر المعركة، وذلك الرَّسول لا يريد أن يخبره بالتفاصيل حتَّى يصل إِلى أمير المؤمنين، ولا يدري: أنَّه الَّذي يخاطبه، ويعدو معه، حتَّى عرف ذلك من النَّاس في المدينة، وهذه أخلاقٌ رفيعةٌ يحقُّ للمسلمين أن يفاخروا بها العالم في تاريخهم الطَّويل، وأن يستدلُّوا بها على عظمة هذا الدِّين؛ الذي أنجب رجالاً مثل عمر في عدله، ورحمته، وحزمه، وتواضعه.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf