تفاصيل يوم عماس: اليوم الثالث من أيام معركة القادسية؛ جهاد، أشعار، وأمور أخرى
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة : الثالثة والسبعون
هذا اليوم الثَّالث، يوم عِمَاس، فقد قدَّم الفرس فيه فيلتَهم بتخطيطٍ جديدٍ تلافوا به ما كان في اليوم الأوَّل من قطع حبالهم، فجعلوا مع كل فيل رجالاً يحمونه، ومع الرِّجال فرسانٌ يحمونهم، وظلَّ المسلمون يقاتلون الفيلة ومن فوقها وحولها، ولقوا منها عنتاً شديداً، ولمَّا رأى سعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ ما يلاقي المسلمون منها أرسل إِلى مسلمي الفرس الَّذين كانوا مع جيش المسلمين سألهم عن الفيلة: هل لها مقاتل ؟ فقالوا: نعم المشافر، والعيون، لا ينتفع بها بعدها، فأرسل إِلى القعقاع وعاصم بني عمرو، وقال لهما: اكفياني الفيل الأبيض، وكانت كلُّها الفةً له، وكان بإِزائهما، وأرسل إِلى حمَّال بن مالك، والرِّبِّيل بن عمرو الأسديين، فقال: اكفياني الفيل الأجرب، وكانت الفةً له كلُّها، وكان بإِزائهما، فأخذ القعقاع، وعاصم رمحيهما ودبَّا إِليه في كتيبة من الفرسان والرِّجال، فقالا لمن معهما: اكتنفوه لتحيِّروه، فأصبح الفيل ينظر يمنة ويسرة متحيِّراً ممَّن حوله، ودنا منه القعقاع، وعاصم فحملا عليه وهو متشاغلٌ بمن حوله فوضعا رمحيهما معاً في عيني الفيل الأبيض، ونفض رأسه فطرح سائسه، ودلَّى مشفره، فنفحه القعقاع بسيفه فرمى به، ووقع لجنبه، فقتلوا من كان عليه. وحمل حمَّال بن مالك وقال للرِّبِّيل بن عمرو: اختر إِمَّا أن تضرب المشفر، وأطعن في عينه، أو تطعن في عينه وأضرب مشفره، فاختار الضَّرب، فحمل عليه حمَّال، وهو متشاغلٌ بملاحظة من اكتنفه لا يخاف سائسه إِلا على بطانه، وذلك لأنَّ المسلمين قطعوا ذلك منها في اليوم الأوَّل، فانفرد به أولئك، فطعنه حمَّال في عينه، فأقعى على خلفه، ثمَّ استوى، ونفحه الرِّبِّيل بن عمرو، فأبان مشفره، وبصُر به سائسه، فضرب جبينه، وأنفه بحديدة كانت معه، وأفلت منها الرِّبِّيل وحمَّال وصاح الفيلان صياح الخنزير، وكانت الفيلة تابعةً لهما، فرجعت على الفرس، ورجعت معها الفيلة تطأ جيش الفرس حتَّى قطعت نهر العتيق، وولَّت نحو المدائن، وهلك من كان عليها.
ولما خلا الميدان من الفيلة؛ زحف النَّاس بعضهم على بعضٍ، واشتدَّ القتال بينهم، وكان لدى الفرس جيشٌ احتياطيٌّ من أهل النَّجدات، والبأس، فكلَّما وقع خللٌ في جيشهم؛ أبلغوا (يزدجرد) فأرسل لهم من هؤلاء. وقد انتهى ذلك اليوم والمسلمون وأعداؤهم على السَّواء.
أ ـ بطولة عمرو بن معدي كرب:
قال عمرو بن معدي كرب: إِنِّي حاملٌ على الفيل وَمَنْ حوله ـ لفيل بإِزائهم ـ فلا تدعوني أكثر من جزر جزورٍ (يعني: نحر النَّاقة) فإِن تأخَّرتم عنِّي؛ فقدتم أبا ثور، فأنَّى لكم مثل أبي ثور، فإِن أدركتموني؛ وجدتموني وفي يدي السَّيف. فحمل، فما انثنى حتَّى ضرب فيهم، وستره الغبار، فقال أصحابه: ما تنظرون ؟ ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه؛ فقد المسلمون فارسهم، فحملوا حملةً فأفرج المشركون عنه بعدما صرعوه، وطعنوه، وإِنَّ سيفه لفي يده يضاربهم، وقد طُعِنَ فرسه، فلمَّا رأى أصحابه، وانفرج عنه أهل فارس أخذ بِرِجْل فرسٍ من أهل فارس، فحرَّكه الفارسي، فاضطرب الفرس، فالتفت الفارسي إِلى عمرو، فهمَّ به، وأبصره المسلمون، فغشوه، فنزل عنه الفارسي، وحاضر ـ يعني أسرع إِلى أصحابه ـ فقال عمرو: أمكنوني من لجامه، فأمكنوه منه، فركبه.
ب ـ طليحة بن خويلد الأسدي:
استمرَّ القتال في اليوم الثالث إِلى اللَّيل، ثمَّ حجز بينهم صوت طليحة بن خويلد الأسدي، وكان قد التفَّ وراء جيش الفرس، ففزع لذلك الفرس، وتعجَّب المسلمون، فكف بعضهم عن بعض للنَّظر في ذلك، وكان سعد ـ رضي الله عنه ـ قد بعثه مع أناسٍ لحراسة مكانٍ يحتمل منه الخطر على المسلمين، فتجاوز مهمَّته، ودار من خلف الفرس، وكبَّر ثلاث تكبيراتٍ، ولقد أفادت حركته هذه، حيث توقَّفت الحرب، وكان هناك فرصةٌ لإِعادة الصُّفوف، والاستعداد لقتال اللَّيل.
جـ قيس بن المكشوح:
لمَّا قدم من الشَّام مع هاشم بن عتبة؛ قام فيمن يليه، فقال لهم: يا معاشر العرب ! إِنَّ الله قد منَّ عليكم بالإِسلام، وأكرمكم بمحمَّد صلى الله عليه وسلم، فأصبحتم بنعمة الله إِخواناً، دعْوتُكم واحدةٌ، وأمركم واحدٌ، بعد إِذ أنتم يعدُو بعضكم على بعضٍ عَدْو الأسد، ويختطف بعضكم بعضاً اختطاف الذِّئاب، فانصروا الله ينصركم، وتنجَّزوا من الله فتح فارس، فإِنَّ إِخوانكم من أهل الشام قد أنجز الله لهم فتح الشام، وانتشالالقصور الحمر، والحصون الحمر.
د ـ ما قيل من شعر في ذلك اليوم:
قال القعقاع بن عمرو:
حَضَّضَ قَوْمي مَضْرَحيُّ بنُ يَعْمُرٍ فَلِلَّهِ قَوْمِي حِيْنَ هزُّوا العَوَالِيَا
وَمَا خَامَ عَنْهَا يَوْمَ سَارَتْ جُمُوعُنا لأِهْلِ قُدَيْسٍ يَمْنَعُوْنَ المَوَالِيَا
فإِنْ كُنْتُ قَاتَلْتُ العَدُوَّ فَلَلْتُهُ فإِنِّي لأَلْقَى فِي الحُرُوْبِ الدَّوَاهِيَا
فُيُولاً أَرَاها كالْبُيوتِ مُغِيْرَةً أُسَمِّلُ أَعْيَاناً لَهَا وَمَاقِيَا
وقال اخر:
أَنَا ابْنُ حَرْبٍ وَمَعِي مِخْرَاقِي أَضْرِبُهُمْ بِصَارِمٍ رَقْرَاقِ
إِذْ كَرِهَ المَوْتَ أَبُو إِسْحَاق وَجَاشَتِ النَّفْسُ عَلَى التَّرَاقِي
هـ ليلة الهرير:
بدأ القتال ليلة الهرير في اليوم الرَّابع، وقد غيَّر الفرس هذه الليلة طريقتهم في القتال، فقد أدرك رستم: أنَّ جيشه لا يصل إِلى مستوى فرسان المسلمين في المطاردة، ولا يقاربهم، فعزم على أن يكون القتال زحفاً بجميع الجيش حتَّى يتفادى الانتكاسات السَّابقة الَّتي تسبَّبت في تحطيم معنويات جيشه، فلم يخرج أحدٌ من الفرس للمبارزة، والمطاردة بعدما انبعث لذلك أبطال المسلمين، وجعل رستم جيشه ثلاثة عشر صفّاً في القلب، والمجنَّبتين، وبدأ القعقاع بن عمرو القتال، وتبعه أهل النَّجدة، والشَّجاعة قبل أن يكبِّر سعد، فسمح لهم بذلك، واستغفر لهم، فلمَّا كبر ثلاثاً؛ زحف القادة، وسائر الجيش، وكانوا ثلاثة صفوف صفّاً فيه الرُّماة، وصفّاً فيه الفرسان، وصفّاً فيه المشاة، وكان القتال في تلك اللَّيلة عنيفاً، وقد اجتلدوا من أوَّل الليل حتَّى الصباح لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسمِّيت ليلة الهرير، وقد أوصى المسلمون بعضهم بعضاً على بذل الجهد في القتال؛ لما يتوقَّعونه من عنف الصِّراع، وممَّا روي من الأقوال في ذلك ما قاله كلٌّ من:
دريد بن كعب النَّخعي، قال لقومه: إِنَّ المسلمين تهيؤوا للمزاحفة، فاسبقوا المسلمين الليلة إِلى الله، والجهاد، فإِنَّه لا يسبق اللَّيلة أحدٌ إِلا كان ثوابه على قدر سبقه، نافسوهم في الشَّهادة، وطيبوا بالموت نفساً، فإِنه أنجى من الموت إِن كنتم تريدون الحياة، وإِلا فالاخرة ما أردتم.
وقال الأشعث بن قيس: يا معشر العرب ! إِنَّه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم أجرأ على الموت، ولا أسخى أنفساً عن الدُّنيا، تنافسوا الأزواج، والأولاد، ولا تجزعوا من القتل، فإِنَّه أماني الكرام، ومنايا الشُّهداء.
وكان بإِزاء قبيلة (جُعفى) ليلة الهرير كتيبة من كتائب العجم عليهم السِّلاح التَّامُّ، فازدلفوا لهم، فجالدوهم بالسُّيوف، فرأوا: أنَّ السُّيوف لا تعمل مع الحديد، فارتدعوا، فقال لهم حميضة بن النُّعمان البارقي: ما لكم ؟ قالوا: لا يجوز فيهم السِّلاح، قال: كما أنتم حتَّى أريكم، انظروا، فحمل على رجلٍ منهم، فاستدار خلفه، فدقَّ ظهره بالرُّمح، ثمَّ التفت إِلى أصحابه، فقال: ما أراهم إِلا يموتون دونكم ! فحملوا عليهم، وأزالوهم إِلى صفِّهم.
وكان بإِزاء قبيلة كندة، تُرك الطَّبري (أحد قادة الفرس) فقال الأشعث بن قيس الكندي: يا قوم ! ازحفوا لهم، فزحف لهم في سبعمئةٍ فأزالهم، وقتل قائدهم تُرك، وكان القتال في تلك الليلة شديداً متواصلاً، وقام زعماء القبائل يحثُّون قبائلهم على الثَّبات والصَّبر، وممَّا يبيِّن عنف القتال في تلك الليلة، ما أخرجه الطَّبري عن أنس بن الحليس قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتَّى الصَّباح، أُفرغَ عليهم الصَّبر إِفراغاً، وبات سعدٌ بليلةٍ لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمراً لم يروا مثله قطُّ، وانقطعت الأصوات، والأخبار عن رستم، وسعدٍ، وأقبل سعدٌ على الدُّعاء حتَّى إِذا كان نصف الليل الباقي؛ سمع القعقاع بن عمرو وهو يقول:
نَحْنُ قَتَلْنَا مَعْشَراً وَزَائِدَا أَرْبَعَةً وَخَمْسَةً وَوَاحِدَا
نُحْسَبُ فَوْقَ اللِّبَدِ الأَسَاوِدَا حَتَّى إِذَا مَاتُوا دَعَوْتُ جَاهِدَا
اللهُ ربِّي وَاحْتَرَزْتُ عَامِدَا فاستدلَّ سعد بذلك على الفتح، وهكذا بات سعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ يدعو الله تعالى تلك اللَّيلة ويستنزل نصره، وممَّا ينبغي الإِشارة إِليه: أنَّ سعداً كان مستجاب الدَّعوة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf