تفاصيل يوم أرماث: اليوم الأول من أيام معركة القادسية؛ شهداء، أحداث، وعبر
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الواحدة والسبعون
يطلق يوم أرماث على اليوم الأوَّل من أيَّام القادسيَّة، وقد وجَّه سعد ـ رضي الله عنه ـ بيانه إِلى الجيش قائلاً: الزموا مواقفكم، لا تحرِّكوا شيئاً حتَّى تصلُّوا الظُّهر، فإِذا صليتم الظُّهر؛ فإِنِّي مكَبِّرٌ تكبيرةً، فكبِّروا، واستعدُّوا، واعلموا: أنَّ التَّكبير لم يعطه أحدٌ قبلكم، واعلموا: أنَّما أعطيتموه تأييداً لكم، ثمَّ إِذا سمعتم الثانية؛ فكبِّروا، ولتستتم عدَّتكم، ثم إِذا كبرت؛ الثَّالثة فكبِّروا، ولينشِّط فرسانكم النَّاس؛ ليبرزوا، وليطاردوا، فإِذا كبرت الرَّابعة؛ فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوَّكم، وقولوا: لا حول، ولا قوة إِلا بالله!
ولمَّا صلَّى سعدٌ الظُّهر، أمر الغلام الَّذي كان ألزمه عمر إِيَّاه، وكان من القرَّاء أن يقرأ سورة الجهاد (يعني: الأنفال) فقرأ على الكتيبة الَّتي تليه سورة الجهاد، فقرئت في كلِّ كتيبة، فهشَّت قلوب النَّاس، وعيونهم، وعرفوا السَّكينة مع قراءتها، ولمَّا فرغ القرَّاء؛ كبر سعد، فكبَّر الذين يلونه بتكبيرةٍ، وكبر بعض النَّاس بتكبير بعض، فتحشحش النَّاس (يعني: تحركوا) ثمَّ ثنَّى، فاستتمَّ النَّاس، ثمَّ ثلَّث فبرز أهلُ النَّجدات، فأنشبوا القتال، وخرج من أهل فارس أمثالهم، فاعتوروا الطَّعن، والضَّرب.
وكان لأبطال المسلمين من أمثال غالب بن عبد الله الأسدي، وعاصم بن عمرو التَّميمي، وعمرو بن معدي كرب الزَّبيدي، وطليحة بن خويلد الأسدي أثرٌ ظاهرٌ في النِّكاية بالعدوِّ حيث قتلوا، وأسروا عدداً من أبطالهم، ولم يقتل من المسلمين أحدٌ فيما ذكر أثناء المبارزة، والمبارزة فنٌّ عسيرٌ من فنون الحرب، لا يتقنه إِلا الأبطال من الرِّجال، وهي ترفع من شأن المنتصرين، وتزيد من حماستهم، وتخفض من شأن المنهزمين، وتحطُّ من معنوياتهم، والمسلمون الأوائل متفوِّقون في هذا الفنِّ على غيرهم دائماً، ولذلك هم المستفيدون من المبارزة، وبينما الناس ينتظرون التَّكبيرة الرَّابعة؛ إِذ قام صاحب رجالة بني نهد قيس بن حذيم بن جرثومة، فقال: يا بني نهد ! انهدوا إِنَّما سمِّيتم نهداً؛ لتفعلوا: فبعث إِليه خالد بن عرفطة: والله لتكفنَّ، أو لأوَلِّينَّ عملَكَ غيرك ! فكفَّ.
ـأ.رستم يأمر جانباً من قوَّاته بالهجوم:
ولمَّا رأى رستم تفوُّق المسلمين في مجالي المبارزة، والمطاردة؛ لم يمهلهم حتَّى يكملوا خطَّة قائدهم في المزيد من حرب المطاردة، والمبارزة، بل أمر جانباً من قوَّاته بأن تهجم هجوماً عاماً على جانب جيش المسلمين الَّذي فيه قبيلة بجيلة، ومن لفَّ معهم، وكان الهجوم لافتاً للنَّظر؛ لأنَّ الفرس وجَّهوا ما يقرب من نصف الجيش إِلى قطاع لا يمثِّل إِلا نسبةً قليلة من الجيش الإِسلاميِّ، وهذا يدلُّ على محاولتهم المستميتة لقطع حرب المبارزة، والمطاردة الَّتي فشلوا فيها، وهكذا هجم الفرس على أحد جناحي جيش المسلمين بثلاثة عشر فيلاً، وكلُّ فيل يصحبه حسب تنظيم جيشهم أربعة الاف مقاتل من المشاة، والفرسان، ففرقت الفيلة بين كتائب المسلمين، وكان الهجوم مركزاً على بُجيلة وَمَنْ حولهم، وثبت المشاة من أهل المواقف لهجوم الفرس.
ب ـ سعد يأمر بني أسد بالذَّبِّ عن بجيلة:
أبصر سعد ـ رضي الله عنه ـ الموقف الَّذي وقعت فيه بُجيلة، فأرسل إِلى بني أسد يقول: ذببوا عن بُجيلة ومن لافها من النَّاس، فخرج طليحة بن خويلد، وحمَّال بن مالك، وغالب بن عبد الله، والرِّبِّيل بن عمرو في كتائبهم، يقول المعرور بن سويد، وشقيق: فشدوا والله عليهم فما زالوا يطعنونهم، ويضربونهم حتَّى حبسنا الفيلة عنهم، فأخَّرت، وخرج إِلى طليحة عظيمٌ منهم، فبارزه، فما لبث طليحة أن قتله، ولما رأت فارس ما تلقى الفيلة من كتيبة أسدٍ؛ رموهم بحدِّهم، وبدر المسلمين الشَّدة عليهم ذو الحاجب، والجالينوس، وهما قائدان من قادة الفرس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرَّابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسدٍ، ومعهم تلك الفيلة، وقد ثبتوا لهم، وقد كبَّر سعد الرابعة، فزحف إِليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على أسد، وحملت الفيلة من الميمنة والميسرة على خيول المسلمين، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد، وتلحُّ فرسانهم على المشاة؛ ليدفعوا بالخيل؛ لتقدم على الفيلة.
ت ـ سعد يطلب من بني تميم حيلة للفيلة:
أرسل سعد إِلى عاصم بن عمرو التَّميمي، فقال: يا معشر تميم ! ألستم أصحاب الإِبل والخيل ؟ أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة ؟ قالوا: بلى والله، ثمَّ نادى في رجالٍ من قومه رماةٍ، واخرين لهم ثقافةٌ ـ يعني: حذق، وحركة ـ فقال لهم: يا معشر الرماة ! ذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنَّبل، وقال: يا معشر أهل الثقافة ! استدبروا الفيلة فاقطعوا وضنها ـ يعني: أحزمتها ـ لتسقط توابيتها الَّتي تحمل المقاتلين، وخرج يحميهم، والرَّحى تدور على أسد، وقد جالت الميمنة، والميسرة غير بعيد، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة، فأخذوا بأذنابها وذباذب توابيتها ـ يعني ما يعلق بها ـ فقطعوا وضنها، وارتفع عواء الفيلة، فما بقي لهم يومئذٍ فيل إِلا أعري، وقتل أصحابها، وتقابل النَّاس، ونفِّس عن أسدٍ، وردُّوا فارس عنهم إِلى مواقفهم، فاقتتلوا حتى غربت الشَّمس، ثمَّ حتى ذهبت هدأةٌ من الليل، ثمَّ رجع هؤلاء وهؤلاء، وأصيب من أسد تلك العشية خمسمئةٍ، وكانوا ردءاً للنَّاس، وكان عاصم يُعنى، وبنو تميم عادية الناس، وحاميتهم، وهذا يومها الأوَّل وهو يوم أرماث.
جـ موقف بطولي لطليحة بن خويلد:
كان لأمر سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ تأثيرٌ على بني أسد، فقد قال طليحة بن خويلد يومئذٍ: يا عشيرتاه ! إِنَّ المنوَّه باسمه، الموثوق به، وإِنَّ هذا لو علم أنَّ أحداً أحقُّ بإِغاثة هؤلاء منكم؛ استغاثهم، ابتدئوهم الشدَّة، وأقدموا عليهم إِقدام اللُّيوث الحربة، فإِنَّما سميتم أسداً؛ لتفعلوا فعله، شدُّوا، ولا تصدُّوا، وكرُّوا، ولا تفرُّوا، لله درُّ ربيعة أيَّ فريٍ يفرون، وأي قرنٍ يغنون ! هل يوصل إِلى مواقفهم، فأغنوا عن مواقفكم أغناكم الله، شدُّوا عليهم باسم الله. وقد كان لهذا الكلام مفعولٌ عجيبٌ في نفوس قومه، حيث تحوَّلوا إِلى طاقاتٍ فعَّالة، وتحمَّلوا وحدهم رحى المعركة إِلى أن ساندهم بنو تميم، وقدَّموا في هذا اليوم خمسمئة شهيد، وقد تأثَّرت القبائل من بطولة بني أسد، فقال الأشعث بن قيس الكندي: يا معشر كندة ! لله درُّ بني أسد أيَّ فريٍ يفرون، وأيَّ هذٍّ يهذُّون عن موقفهم ؟! فتحوَّل موقف كنده من الدِّفاع إِلى الهجوم، فأزالوا مَنْ أمامهم من المجوس، وردُّوهم إِلى الوراء.
د ـ ما قيل من شعر في ذلك اليوم:
قال عمرو بن شأس الأسدي:
لَقَدْ عَلِمَتْ بَنُو أَسَدٍ بأنَّا أُولُوا الأحْلامِ إِذْ ذَكَرُوا الحُلومَا
وَإِنَّا النَّازِلُونَ بِكُلِّ ثَغْرٍ وَلَوْ لَمْ نُلْفِهِ إِلا هَشِيْمَا
تَرَى فِيْنَا الْجِيَادَ مَسَوَّمَاتٍ مَعَ الأَبْطَالِ يَعْلُكْنَ الشَّكِيْمَا
تَرَى فِيْنَا الْجِيَادَ مُجَلِّجَاتٍ تُنَهْنِهُ عَنْ فَوارِسِهَا الخُصُوْمَا
بِجَمْعٍ مِثْل سلمٍ مُكْفَهِرٍّ تُشَبِّهُهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا قُرُوْمَا
بِمِثْلِهِمُ تُلاقِي يَوْمَ هَيْجٍ إِذَا لاَقَيْتَ بَأْسَاً أَوْ خُصُومَا
نَفَيْنَا فَارِسَاً عَمَّا أَرَادَتْ وَكَانَتْ لاَ تُحَاوِلُ أَنْ تَرِيْمَا
هـ مستشفى الحرب:
كان موقع مستشفى الحرب في العذيب حيث تقيم نساء المجاهدين الصَّابرات، فيتلقَّين الجرحى، ويتولَّين علاجهم وتمريضهم إِلى أن يتمَّ قضاء الله فيهم، ومع ذلك فإِنَّ لهنَّ مهمةً أعجب من ذلك يشترك معهنَّ فيها الصِّبيان، ألا وهي حفر قبور الشُّهداء، ولئن كان تطبيب الجرحى، وتمريضهم من المهمَّات القريبة المنال للنِّساء، فإِن حفر الأرض من المهمَّات الخشنة، ولكن الرِّجال كانوا مشغولين بالجهاد، فلتقم النِّساء بمهمتهم عند الضَّرورة، وهنَّ أهلٌ لذلك لما يتَّصفن به من الإِيمان، والصَّبر، وقد تمَّ نقل الشهداء إِلى وادي مَشَرِّف بين العذيب وعين الشَّمس في جانبيه جميعاً، وكان التَّحاجز بين المسلمين وأعدائهم تلك الليلة فرصةً لزيارة بعض المجاهدين لأهلهم في العذيب.
و ـ الخنساء بنت عمرو تحرض بنيها على القتال ليلة الهدأة:
في مضارب نساء المسلمين بالعذيب جلست الخنساء بنت عمرو شاعرة بني سليم المخضرمة، ومعها بنوها، أربعة رجالٍ تعظهم، وتحرِّضهم على القتال، فقالت: إِنَّكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وقد تعلمون ما أعدَّ الله للمسلمين من الثَّواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا: أنَّ الدَّار الباقية خيرٌ من الدَّار الفانية، يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [آل عمران: 200]. فإِن أصبحتم غداً إِن شاء الله سالمين، فاغدوا إِلى قتال عدوِّكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإِذا رأيتم الحرب قد شمَّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على ساقيها، وحللت ـ تفجرت ـ نار على أرواقها ـ جوانبها ـ فتيمَّموا وطيسها ـ وسطها ـ وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها ـ جيشها ـ تظفروا بالغنم، والكرامة في دار الخلد والمقامة. فخرج بنوها قابلين لنُصحها، عازمين على قولها، فلمَّا أضاء الصُّبح؛ باكروا مراكزهم.
ز ـ امرأة من النَّخع تشجع بنيها على القتال:
كانت امرأة من النَّخع لها بنون أربعة شهدوا القتال ذلك اليوم، فلمَّا بدأ الصباح ينبلج؛ قالت لهم: إِنَّكم أسلمتم فلم تبدِّلوا، وهاجرتم فلم تثرِّبوا، ولم تَنْبُ بكم البلاد تقحمكم السَّنة، ثمَّ جئتم بأمِّكم عجوز كبيرة، فوضعتموها بين يدي أهل فارس، والله إِنَّكم لبنو رجلٍ واحدٍ! كما أنكم بنو امرأةٍ واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، انطلقوا، فاشهدوا أوَّل القتال، واخره. فانصرفوا عنها مسرعين يشتدُّون، فلمَّا غابوا عنها رفعت يديها إِلى السَّماء وهي تقول: اللَّهُمَّ ادفع عن بنيَّ ! فرجعوا إِليها بعد ذلك، وقد أحسنوا القتال ما جرح منهم رجلٌ جرحاً. فهذا حال بعض النِّساء العجائز في اليوم الأول من القادسيَّة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf