الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

بعض مما يُستفاد من سيرة الفاروق رضي الله عنه

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الثانية والتسعون

1 ـ التَّنبيه على الحقد الَّذي انطوت عليه قلوب الكافرين ضدَّ المؤمنين:
ويدلُّ على ذلك قتل المجوسي أبي لؤلؤة لعمر ـ رضي الله عنه ـ وتلك هي طبيعة الكفَّار في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، قلوبٌ لا تضمر للمسلمين إِلا الحقد، والحسد، والبغضاء، ونفوسٌ لا تكنُّ للمؤمنين إِلا الشَّرَّ، والهلاك، والتَّلف، ولا يتمنَّون شيئاً أكثر من ردَّة المسلمين عن دينهم، وكفرهم بعد إِسلامهم، وإِنَّ الَّذي ينظر جيِّداً في قصَّة مقتل عمر ـ رضي الله عنه ـ وما فعله المجوسيُّ الحاقد أبو لؤلؤة؛ يستنبط منها أمرين مهمَّين، يكشفان الحقد الَّذي أضمره هذا الكافر في قلبه تجاه عمر، وتجاه المسلمين، وهما:
أ ـ أنَّه قد ثبت في الطَّبقات الكبرى لابن سعدٍ بسندٍ صحيحٍ إِلى الزُّهري: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قال لهذا المجوسيِّ ذات يومٍ: ألم أحدَّث أنَّك تقول: لو أشاء لصنعت رحىً تطحن بالرِّيح، فالتفت إِليه المجوسيُّ عابساً وقال: لأصنعنَّ لك رحىً يتحدَّث النَّاس بها. فأقبل عمر على مَنْ معه، فقال: توعَّدني العبد.
ب ـ الأمر الثَّاني الَّذي يدلُّ على الحقد الَّذي امتلأ به صدر هذا المجوسي: أنَّه لمَّا طعن عمر ـ رضي الله عنه ـ طعن معه ثلاثة عشر صحابيَّاً استشهد منهم سبعةٌ.. جاء في رواية الإِمام البخاريِّ قوله: فطار العلج بسكِّينٍ ذات طرفين لا يمرُّ على أحدٍ يميناً ولا شمالاً إِلا طعنه، حتَّى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعةٌ، ولو كان عمر ـ رضي الله عنه ـ ظالماً له، فما ذنب بقيَّة الصَّحابة الَّذين اعتدى عليهم ؟ !، ومعاذ الله تعالى أن يكون عمر ظالماً له ! إِذ قد ثبت في رواية البخاري: أنَّه لمَّا طُعن ـ رضي الله عنه ـ قال: يا بن عبَّاس ! انظر من قتلني، فجال ساعةً، ثمَّ جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع ؟ ـ أي: الصَّانع ـ، قال: نعم، قال: قاتله الله ! لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الَّذي لم يجعل منيَّتي بيد رجلٍ يدَّعي الإِسلام.
وهذا المجوسيُّ أبو لؤلؤة قام أحبابه أعداء الإِسلام ببناء مشهدٍ تذكاريٍّ له على غرار الجندي المجهول في إِيران، يقول السَّيِّد حسين الموسوي من علماء النَّجف: واعلم أنَّ في مدينة كاشان الإِيرانيَّة، في منطقةٍ تسمّى (باغي فين) مشهداً على غرار الجندي المجهول، فيه قبرٌ وهميٌّ لأبي لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي، قاتل الخليفة الثَّاني عمر بن الخطَّاب، حيث أطلقوا عليه ما معناه بالعربيَّة (مرقد بابا شجاع الدِّين)، وبابا شجاع الدِّين هو لقب أطلقوه على أبي لؤلؤة لقتله عمر بن الخطَّاب، وقد كتب على جدران هذا المشهد بالفارسي: (مرك بر أبو بكر، مرك بر عمر، مرك بر عثمان) ومعناه بالعربيَّة: الموت لأبي بكر، الموت لعمر، الموت لعثمان، وهذا المشهد يزار من قبل الشِّيعة الإِيرانيِّين، وتلقى فيه الأموال، والتَّبرُّعات، وقد رأيت هذا المشهد بنفسي، وكانت وزارة الإِرشاد الإِيرانيَّة قد باشرت بتوسيعه، وتجديده، وفوق ذلك قاموا بطبع صورة على المشهد على كارتاتٍ، تستخدم لإِرسال الرَّسائل، والمكاتيب.
2 ـ بيان الانكسار، والخشية، والخوف الَّتي تميَّز بها عمر رضي الله عنه:
وممَّا يدلُّ على هذا الخوف الَّذي سيطر على قلب عمر ـ رضي الله عنه ـ قبيل استشهاده قوله لمَّا علم: أنَّ الَّذي طعنه هو المجوسي أبو لؤلؤة: الحمد لله الَّذي لم يجعل منيَّتي بيد رجلٍ يدَّعي الإِسلام، فإِنَّه رغم العدل الَّذي اتَّصف به عمر ـ رضي الله عنه ـ والَّذي اعترف به القاصي، والدَّاني، والعربي، والعجمي، إِلا أنَّه كان خائفاً أن يكون قد ظلم أحداً من المسلمين، فانتقم منه بقتله، فيحاجُّه عند الله تعالى، كما تدلُّ على ذلك رواية ابن شهابٍ: أنَّ عمر قال: الحمد لله الَّذي لم يجعل قاتلي يحاجُّني عند الله بسجدةٍ سجدها له قطُّ ! وكما تدلُّ عليه كذلك رواية مبارك بن فضالة: يحاجُّني بقول: لا إِله إِلا الله، وهذه عجيبةٌ من عجائب هذا الإِمام الرَّبَّاني، ينبغي أن يتربَّى عليها الدُّعاة، والمصلحون، وأن يكون الانكسار علامةً من أكبر علاماتهم، حتَّى ينفع الله تعالى بهم، كما نفع بأسلافهم كعمر ـ رضي الله عنه ـ وليكن مقال الجميع قول القائل:
وَاحَسْرَتِي، وَاشَقْوَتِي مِنْ يَوْمِ نَشْرِ كِتَابِيَ
هْوَاطُوْلَ حُزْنِي إِنْ أَكُنْ أُوتِيْتُهُ بِشِمَالِيَ
هْوَإِذَا سُئِلْتُ عَنِ الخَطَا مَاذَا يَكُوْنُ جَوَابِيَهْ ؟
وَاحَرَّ قَلْبِي أَنْ يَكُوْنَ مَعَ الْقُلُوْبِ القَاسِيَهْ
كَلا وَلاَ قَدَّمْتُ لِي عَمَلاً لِيَوْمِ حِسَابِيَهْ
بَلْ إِنَّني لِشَقَاوَتِي وَقَسَاوَتِي وَعَذَابِيَهْ
بَارَزْتُ بِالزَّلاتِ فِي أيَّامِ دَهْرٍ خَالِيَهْ
مَنْ لَيْسَ يَخْفَى عَنْهُ مِنْ قُبْحِ المَعَاصِي خَافِيَهْ

3 ـ التَّواضُع الكبير عند الفاروق، والإِيثار العظيم عند السَّيِّدة عائشة:
أ ـ التَّواضع الكبير عند الفاروق رضي الله عنه:
وقد دلَّ عليه من قصَّة استشهاده قوله لابنه عبد الله: انطلق إِلى عائشة أمِّ المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السَّلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإِنِّي لست اليوم للمؤمنين أميراً. ويدلُّ عليه كذلك قوله لابنه لمَّا أذنت عائشة بدفنه إِلى جنب صاحبيه: فإِذا أنا قضيت، فاحملوني، ثمَّ سلِّمْ، فقل: يستأذن عمر بن الخطَّاب، فإِن أذنت لي فأدخلوني، وإِن ردَّتني، فردُّوني إِلى مقابر المسلمين، فرحم الله عمر ! ـ رضي الله عنه ـ، ورزقنا خُلُقاً من خُلُقه، وتواضعاً من تواضعه، وجزاه خير ما يجزي به الأتقياء المتواضعين، إِنَّ ربِّي قريبٌ مجيبٌ.
ب ـ الإِيثار العظيم عند السَّيِّدة عائشة رضي الله عنها:
وممَّا يدلُّ على الإِيثار عند السَّيِّدة عائشة: أنَّها رضي الله عنها كانت تتمنَّى أن تدفن بجوار زوجها صلى الله عليه وسلم، وأبيها أبي بكر، فلمَّا استأذنها عمر لذلك؛ أذنت، واثرته على نفسها، وقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنَّه اليوم على نفسي.
4 ـ الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وهو على فراش الموت:
إِنَّ اهتمام الفاروق بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر لم يتخلَّ عنه حتَّى وهو يواجه الموت بكلِّ الامه وشدائده، ذلك: أنَّ شابَّاً دخل عليه لمَّا طعن، فواساه، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك ! من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم في الإِسلام ما قد علمت، ثمَّ وُلِّيت، فعدلت، ثمَّ شهادة ! قال ـ أي: عمر ـ: وددتُ أنَّ ذلك كفافٌ، لا عليَّ، ولا لي، فلمَّا أدبر؛ إِذا إِزاره يمسُّ الأرض، قال: ردُّوا عليَّ الغلام، قال: يا بن أخيَّ ارفع ثوبك فإِنَّه أنقى لثوبك، واتقى لربِّك.
وهكذا لم يمنعه ـ رضي الله عنه ـ ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف، ولذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه عمر بن شبَّة: يرحم الله عمر ! لم يمنعه ما كان فيه من قول الحقِّ. ومن عنايته الفائقة في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر في هذه الحالة أيضاً، لمَّا دخلت عليه حفصة ـ رضي الله عنها ـ فقالت: يا صاحب رسول الله ! ويا صهر رسول الله ! ويا أمير المؤمنين ! فقال عمر لابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: يا عبد الله ! أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسنده إِلى صدره، فقال لها: إِنِّي أُحرِّجُ عليك بما لي عليك من الحقِّ أن تندبيني بعد مجلسك هذا ! فأمَّا عينك؛ فلن أملكها.
وعن أنس بن مالكٍ، قال: لمَّا طُعن عمر؛ صرخت حفصة، فقال عمر: يا حفصة ! أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إِنَّ المُعْوَل عليه يُعذَّب » ؟ وجاء صهيبٌ، فقال: واعمراه ! فقال: ويلك يا صهيب ! أما بلغك: أنَّ المُعْوَل عليه يُعذَّب.
ومن شدَّته في الحقِّ ـ رضي الله عنه ـ حتَّى بعد طعنه وسيلان الدَّم منه، فعندما قال له رجل: استخلف عبد الله بن عمر، قال: واللهِ ما أردتَ الله بهذا!
5 ـ جواز الثَّناء على الرَّجل بما فيه إِذا لم تُخشَ عليه الفتنة:
كما هو الحال هنا مع عمر ـ رضي الله عنه ـ إِذ أثني عليه من قبل بعض الصَّحابة لأنَّهم كانوا يعلمون: أنَّ الثَّناء عليه لا يفتنه. قال ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ وهو العالم الرَّبَّانيُّ، والفقيه الكبير: أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزَّ بك الدِّين والمسلمين؛ إِذ يخافون بمكَّة، فلمَّا أسلمت كان إِسلامك عزَّاً، وظهر بك الإِسلام..، وأدخل الله بك على كلِّ أهل بيتٍ من توسعتهم في دينهم، وتوسعتهم في أرزاقهم، ثمَّ ختم لك بالشَّهادة، فهنيئاً لك ! وهكذا لم تؤثر هذه الكلمات في قلب عمر شيئاً، ولم يفرح بها، ولذا ردَّ على ابن عبَّاس قائلاً: والله إِنَّ المغرور من تغرُّونه!

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022