حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل عمر رضي الله عنه
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثالثة والتسعون
كعب الأحبار هو كعب بن مانع الحميري، كنيته أبو إِسحاق، واشتهر بكعب الأحبار، أدرك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو رجلٌ كافرٌ، وأسلم في خلافة عمر، سنة اثنتي عشرة، وقد اشتهر قبل إِسلامه بأنَّه من كبار علماء اليهود في اليمن، وبعد إِسلامه أخذ عن الصَّحابة الكتاب، والسُّنَّة، وأخذوا وغيرهم عنه أخبار الأمم الغابرة، خرج إِلى الشَّام، وسكن حمص، وتوفِّي فيها.
وقد اتُّهم كعب الأحبار في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب، فقد جاءت روايةٌ في الطَّبري عن المسور بن مخرمة ـ رضي الله عنه ـ تشير إِلى اتِّهامه في مقتل عمر جاء في تلك الرِّواية:.. ثمَّ انصرف عمر إِلى منزله، فلمَّا كان من الغد جاءه كعب الأحبار، فقال له: يا أمير المؤمنين ! اعهد فإِنَّك ميِّتٌ في ثلاثة أيَّامٍ. قال: وما يدريك ؟ قال: أجده في كتاب الله عزَّ وجلَّ التَّوراة، قال عمر: الله إِنَّك لتجد عمر بن الخطَّاب في التَّوراة ؟ ! قال: اللَّهُمَّ لا، ولكنِّي أجد صفتك، وحليتك، وأنَّه قد فني أجلك، قال: وعمر لا يحسُّ وجعاً، ولا ألماً فلمَّا كان من الغد جاءه كعب، فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يومٌ، وبقي يومٌ، وليلةٌ؛ وهي لك إِلى صبيحتها، قال: فلمَّا كان الصُّبح، خرج إِلى الصَّلاة، وكان يوكل بالصُّفوف رجالاً، فإِذا استوت؛ جاء هو فكبَّر، قال: ودخل أبو لؤلؤة في النَّاس، في يده خنجرٌ له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ستَّ ضرباتٍ، إِحداهنَّ تحت سرَّته، وهي التَّي قتلته.
وقد بنى بعضُ المفكِّرين المحدثين على هذه الرِّواية نتيجةً، مفادها: اشتراك كعب الأحبار في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ مثل د.جميل عبد الله المصري في كتابه: أثر أهل الكتاب في الفتن، والحروب الأهليَّة في القرن الأوَّل الهجري، وعبد الوهَّاب النَّجار في كتابه: الخلفاء الرَّاشدون، والأستاذ غازي محمَّد فريج في كتابه: النَّشاط السِّرِّي اليهودي في الفكر، والممارسة، وقد ردَّ الدُّكتور أحمد بن عبد الله بن إِبراهيم الزُّغيبي على الاتِّهام الموجَّه لكعب الأحبار، فقال: والَّذي أراه في هذه القصَّة المعقَّدة: أنَّ تلك الرِّواية؛ الَّتي رواها الإِمام الطَّبري ـ رحمه الله تعالى ـ غير صحيحةٍ، لأمورٍ كثيرةٍ من أهمِّها:
أ ـ أنَّ هذه القصَّة لو صحَّت لكان من المنتظر من عمر ـ رضي الله عنه ـ أن لا يكتفي بقول (كعب)، ولكن لجمع طائفةً ممَّن أسلم من اليهود وله إِحاطةٌ بـ(التَّوراة) مثل عبد الله بن سلام، ويسألهم عن هذه القصَّة، وهو لو فعل لافتضح أمر (كعب)، وظهر للنَّاس كذبه، ولتبيَّن لعمر ـ رضي الله عنه ـ أنَّه شريكٌ في مؤامرةٍ دبِّرت لقتله، أو أنَّه على علمٍ بها، وحينئذٍ يعمل عمر ـ رضي الله عنه ـ على الكشف عنها بشتَّى الوسائل، وينكِّل بمدبريها، ومنهم كعب، هذا هو المنتظر من أيِّ حاكمٍ، فضلاً عن عمر ـ رضي الله عنه ـ المعروف بكمال الفطنة، وحدَّة الذِّهن، وتمحيص الأخبار، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، فكان ذلك دليلاً على اختلاقها.
ب ـ أنَّ هذه القصَّة لو كانت في التَّوراة، لما اختصَّ بعلمها كعبٌ ـ رحمه الله تعالى ـ وحده، ولشاركه العلم بها كلُّ من له علمٌ بـ (التَّوراة) من أمثال عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
جـ أنَّ هذه القصَّة لو صحَّت أيضاً؛ لكان معناها: أنَّ كعباً له يدٌ في المؤامرة، وأنَّه يكشف عن نفسه بنفسه، وذلك باطلٌ لمخالفته طباع النَّاس؛ إِذ المعروف أنَّه من اشترك في مؤامرةٍ، يبالغ في كتمانها بعد وقوعها، تفادياً من تحمُّل تبعاتها، فالكشف عنها قبل وقوعها لا يكون إِلا من مغفَّلٍ أبلهَ، وهذا خلاف ما كان عليه كعب، من حدَّة الذِّهن، ووفرة الذَّكاء.
د ـ ثمَّ ما لـ (التَّوراة) وتحديد أعمار النَّاس ؟ إِنَّ الله تعالى إِنَّما أنزل كتبه هدىً للنَّاس، لا لمثل هذه الأخبار التَّي لا تعدو أصحابها.
هـ ثمَّ أيضاً هذه التَّوراة بين أيدينا ليس فيها شيءٌ من ذلك مطلقاً. وبعد أن أورد الشَّيخ محمَّد محمَّد أبو زهو تلك الاعتراضات الأربعة الأولى، عقَّب عليها، بقوله: ومن ذلك كلِّه، يتبيَّن لك: أنَّ هذه القصَّة مفتراةٌ بدون أدنى اشتباه، وأنَّ رمي كعب بالكيد للإِسلام في شخص عمر، والكذب في النَّقل عن التَّوراة اتِّهامٌ باطلٌ، لا يستند على دليلٍ، أو برهانٍ.
ويقول الدُّكتور محمَّد السَّيِّد حسين الذَّهبي ـ رحمه الله ـ: ورواية ابن جريرٍ الطَّبري للقصَّة لا تدلُّ على صحَّتها؛ لأنَّ ابن جريرٍ كما هو معروفٌ عنه لم يلتزم الصحَّة في كلِّ ما يرويه، والَّذي ينظر في تفسيره يجد فيه ممَّا لا يصحُّ شيئاً كثيراً، كما أنَّ ما يرويه في تاريخه لا يعدو أن يكون من قبل الأخبار الَّتي تحتمل الصِّدق، والكذب، ولم يقل أحدٌ بأنَّ كلَّ ما يُروى في كتب التَّاريخ ثابتٌ، وصحيحٌ، ثمَّ يتابع قائلاً: ثمَّ إِنَّ ما يعرف عن كعب الأحبار من دينه، وخلقه، وأمانته، وتوثيق أكثر أصحاب الصِّحاح له؛ يجعلنا نحكم بأنَّ هذه القصَّة موضوعةٌ عليه، ونحن ننزِّه كعباً عن أن يكون شريكاً في قتل عمر، أو يعلم من يدبِّر أمر قتله، ثمَّ لا يكشف لعمر عنه، كما ننزِّهه أن يكون كذَّاباً وضَّاعاً، يحتال على تأكيد ما يخبر به من مقتل عمر نسبته إِلى التَّوراة، وصوغه في قالبٍ إِسرائيليٍّ. إِلى أن يقول: اللَّهُمَّ إِنَّ كعباً مظلومٌ من متَّهميه ! ولا أقول عنه: إِلا أنَّه مأمونٌ، وعالمٌ استغلَّ اسمه، فنُسب إِليه رواياتٌ معظمها خرافاتٌ وأباطيل، لتروج بذلك على العامَّة، ويتقبَّلها الأغمار من الجهلة.
وأمَّا الدُّكتور محمَّد السَّيِّد الوكيل، فيقول: إِنَّ أوَّل ما يواجه الباحث هذا هو موقف عبيد الله بن عمر الَّذي لم يكد يسمع بما حدث لأبيه حتَّى يحمل سيفه، ويهيج كالسَّبع الحرب، ويقتل الهرمزان، وجفينة، وابنةً صغيرةً لأبي لؤلؤة؛ أفترى عبيد الله هذا يترك كعب الأحبار والشُّبهة تحوم حوله، ويقتل ابنة أبي لؤلؤة الصَّغيرة ؟ إِنَّ أحداً يبحث الموضوع بحثاً علميَّاً لا يمكن أن يقبل ذلك، ويضاف إِلى ذلك: أنَّ جمهور المؤرِّخين لم يذكروا القصَّة، بل لم يشيروا إِليها، فابن سعدٍ في الطَّبقات وقد فصَّل الحادث تفصيلاً دقيقاً لم يُشر قطُّ إِلى الحادثة، بل كلُّ ما ذكر عن كعب الأحبار: أنَّه كان واقفاً بباب عمر يبكي، ويقول: والله لو أنَّ أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخِّره؛ لأخَّره! وأنَّه دخل على عمر بعد أن أخبره الطَّبيب بدنوِّ أجله، فقال: ألم أقل لك إِنَّك لا تموت إِلا شهيداً، وأنت تقول: من أين، وأنا في جزيرة العرب. ويأتي بعد ابن سعدٍ ابنُ عبد البرِّ في الاستيعاب، فلا يذكر شيئاً قطُّ عن قصَّة كعب الأحبار.
وأمَّا ابن كثيرٍ، فيقول: إِنَّ وعيد أبي لؤلؤة كان عشيَّة يوم الثُّلاثاء، وأنَّه طعنه صبيحة يوم الأربعاء لأربعٍ بقين من ذي الحجَّة، لم يكن إِذاً بين التَّهديد والتَّنفيذ سوى ساعاتٍ معدوداتٍ، فكيف ذهب كعب الأحبار إِلى عمر، وقال له ما قال: اعهد فإِنَّك ميِّتٌ في ثلاثة أيَّامٍ، ثمَّ يقول: مضى يومٌ، وبقي يومان، ثمَّ مضى يومان، وبقي يومٌ وليلة، من أين لكعب هذه الأيَّام الثَّلاثة إِذا كان التَّهديد في اللَّيل والتَّنفيذ صبيحة اليوم التَّالي ؟ ويتوالى المؤرِّخون، فيأتي السُّيوطي في تاريخ الخلفاء، والعصامي في سمط النُّجوم العوالي، والشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب، وابنه عبد الله في كتابيهما مختصر سيرة الرَّسول، وحسن إِبراهيم حسن في تاريخ الإِسلام السِّياسي، وغيرهم، فلا نجد واحداً منهم يذكر القصَّة من قريبٍ، أو بعيدٍ، أليس هذا دليلاً على أنَّ القصَّة لم تثبت بصورةٍ تجعل المحقِّق يطمئنُّ إِلى ذكرها؛ هذا إِذا لم تكن منتحلةً مصنوعةً، كاد بها بعض النَّاس لكعب لينفِّروا منه المسلمين، وهذا ما تطمئنُّ إِليه النَّفس، ويميل إِليه القلب، وبخاصَّةٍ بعدما عرفنا: أنَّ كعباً كان حسن الإِسلام، وكان محلَّ ثقة كثيرٍ من الصَّحابة؛ حتَّى روَوْا عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf