متابعة الفاروق رضي الله عنه لولاته: رقابة صارمة ومتابعة دقيقة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الواحدة و الستون
لم يكن عمر يرضى بأنَّه يهتمُّ بحسن اختيار عمَّاله، بل كان يبذل أقصى الجهد لمتابعتهم بعد أن يتولَّوا أعمالهم؛ ليطمئنَّ على حسن سيرتهم، ومخافة أن تنحرف بهم نفوسهم، وكان شعاره لهم: خيرٌ لي أن أعزل كلَّ يومٍ والياً من أن أبقي ظالماً ساعةً من نهار، وقال: أيُّما عاملٍ لي ظلم أحداً، فبلغني مظلمتُه، فلم أغيِّرها؛ فأنا ظلمتُه، وقال يوماً لمن حوله: أرأيتم إِذا استعملت عليكم خير مَنْ أعلم، ثمَّ أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليَّ ؟ فقالوا: نعم. قال: لا، حتَّى أنظر في عمله، أعَمِل بما أمرته، أم لا ؟
وقد سار رضي الله عنه بحزمٍ في رقابته الإِدارية لعمَّاله، وتابعهم بدقَّةٍ، وكانت طريقة عمر في الإِدارة إِطلاق الحرِّيَّة للعامل في الشُّؤون المحلِّيَّة، وتقييده في المسائل العامَّة، ومراقبته في سلوكه، وتصرُّفاته، وكان له جهازٌ سرِّي مربوطٌ به لمراقبة أحوال الولاة والرَّعية، وقد بينت لنا المصادر التَّاريخية أنَّ ما يشبه اليوم (المخابرات) كان موجوداً عند عمر فقد كان علمه بمن نأى عنه من عمَّاله بمن بات معه في مهادٍ واحدٍ، وعلى وسادٍ واحدٍ، فلم يكن في قطرٍ من الأقطار، ولا ناحيةٍ من النَّواحي عاملٌ، أو أميرُ جيشٍ إِلا وعليه عينٌ لا يفارقه، فكانت ألفاظ مَنْ بالمشرق، والمغرب عنده في كلِّ ممسٍ ومصبحٍ، وأنت ترى ذلك في كتبه إِلى عمَّاله حتَّى كان العامل منهم ليتَّهم أقرب النَّاس إِليه، وأخصَّهم، وكانت وسائل عمر في متابعته لعمَّاله متعددةً، منها:
1 ـ طلب من الولاة دخول المدينة نهاراً:
كان رضي الله عنه يطلب من ولاته ـ القادمين إِلى المدينة ـ أن يدخلوها نهاراً، ولا يدخلوها ليلاً حتَّى يظهر ما يكون قد جاؤوا به من أموال، ومغانم، فيسهل السُّؤال، والحساب.
2 ـ طلب الوفود من الولاة:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يطلب من الولاة أن يرسلوا وفداً من أهل البلاد ليسألهم عن بلادهم، وعن الخراج المفروض عليهم؛ ليتأكَّد بذلك من عدم ظلمهم، ويطلب شهادتهم، فكان يخرج إِليه مع خراج الكوفة عشرةٌ من أهلها، ومع خراج البصرة مثلُهم، فإِذا حضروا أمامه شهدوا بالله: أنَّه مالٌ طيِّبٌ، ما فيه ظلمُ مسلمٍ، ولا معاهدٍ.
وكان هذا الإِجراء كفيلاً بمنع الولاة من ظلم النَّاس؛ إِذ لو حدث هذا؛ لرفعه هؤلاء الموفدون إِلى أمير المؤمنين، وأخبروه به، كما أنَّ عمر في الغالب كان يقوم بمناقشة هؤلاء الموفدين، وسؤالهم عن بلادهم، وعن ولاتهم، وسلوكهم معهم.
3 ـ رسائل البريد:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يرسل البريد إِلى الولاة في الأمصار، فقد كان يأمر عامل البريد عندما يريد العودة إِلى المدينة أن ينادي في النَّاس مَنِ الذي يريد إِرسال رسالةٍ إِلى أمير المؤمنين ؟ حتَّى يحملها إِليه دون تدخُّلٍ من والي البلد، وكان صاحب البريد نفسه لا يعلم شيئاً من هذه الرَّسائل، وبالتَّالي يكون المجال مفتوحاً أمام النَّاس لرفع أيِّ شكوى، أو مظلمةٍ إِلى عمر نفسه دون أن يعلم الوالي أو رجاله بذلك، وحينما يصل حامل الرَّسائل إِلى عمر ينثر ما معه من صحفٍ ويقرؤها عمر، ويرى ما فيها.
4 ـ المفتِّش العامُّ (محمد بن مسلمة):
كان محمَّد بن مسلمة الأنصاريُّ يستعين به الفاروق في متابعة الولاة، ومحاسبتهم، والتأكُّد من الشَّكاوى الَّتي تأتي ضدَّهم، فكان موقع محمَّد بن مسلمة كالمفتِّش العام في دولة الخلافة، فكان يتحرَّى على حقائق أداء الولاة لأعمالهم، ومحاسبة المقصِّرين منهم، فقد أرسله عمر لمراقبة، ومحاسبة كبار الولاة، والتَّحقيق في الشكايات، ومقابلة النَّاس، والسَّماع منهم، ونقل آرائهم عن ولاتهم إِلى عمر مباشرةً، وكان مع محمَّد بن مسلمة أعوانٌ.
5 ـ موسم الحج:
كان موسم الحجِّ فرصةً لعمر ليستقي أخبار رعيته، وولاته، فجعله موسماً للمراجعة، والمحاسبة، واستطلاع الآراء في شتَّى الأنحاء؛ فيجتمع فيه أصحاب الشِّكايات، والمظالم، ويفد فيه الرُّقباء الَّذين كان عمر يبثُّهم في أرجاء دولته لمراقبة العمال، والولاة، ويأتي العمَّال أنفسهم لتقديم كشف الحساب عن أعمالهم، فكان موسم الحجِّ « جمعيةً عموميَّةً » كأرقى ما تكون الجمعيات العموميَّة في عصرٍ من العصور.
وكان عمر يلخِّص في موسم الحجِّ واجبات عمَّاله أمام الرَّعية، ثمَّ يقول: فمن فُعِل به غير ذلك فليقم. فما قام من أهل الموسم ـ آنذاك ـ أحدٌ إِلا رجلٌ واحدٌ ـ ممَّا يدلُّ على عدالة هؤلاء الولاة، ورضا الرَّعية عنهم ـ فقال ذلك الرَّجل: إِنَّ عاملك فلاناً ضربني مئة سوطٍ، فسأل عمر العامل فلم يجد عنده جواباً، فقال للرَّجل: قم فاقتصَّ منه. فقام عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين ! إِنَّك إِن فعلت هذا يكثر، ويكون سنَّةً يؤخذ بها بعدك، فقال عمر: أنا لا أقيد ـ أي: اقتص ـ وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد من نفسه ؟ فقال عمرو: فدعنا فلنرضه، فقال: دونكم، فارضوه، فافتدى العامل من الرَّجل بمئتي دينار، كلُّ سوط بدينارين.
6 ـ جولة تفتيشية على الأقاليم:
كان تفكير عمر قبل مقتله أن يجول على الولايات شخصيّاً لمراقبة العمَّال، وتفقُّد أحوال الرَّعية، والاطمئنان على أمور الدَّولة المترامية، وقال عمر: لئن عشت ـ إِن شاء الله ـ لأسيرنَّ في الرَّعية حولاً، فإِنِّي أعلم أنَّ للنَّاس حوائج تُقطع دوني، أمَّا عمالهم؛ فلا يدفعونها إِليَّ، وأمَّا هم؛ فلا يصلون إِليَّ، فأسير إِلى الشَّام، فأقيم بها شهرين، ثمَّ أسير إِلى الجزيرة، فأقيم بها شهرين، ثمَّ أسير إِلى الكوفة، فأقيم بها شهرين، ثمَّ أسير إِلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثمَّ والله لنعم الحول هذا!
وقد طبَّق عمر شيئاً من هذا خصوصاً في ولاية الشَّام حيث سار إِليها عدَّة مرَّاتٍ، وتفقَّد أحوالها، ودخل بيوت ولاتها، وأمرائها، ليعرف أحوالهم عن كثبٍ، فقد دخل دار أبي عبيدة، وشاهد حالته، وتقشُّفه، ودار بينه وبين امرأة أبي عبيدة حوارٌ شديدٌ ألقت فيه اللَّوم على عمر نتيجة ما يعيشون فيه من تقشُّفٍ. كما زار دار خالد بن الوليد، ولم يجد عنده شيئاً يلفت النَّظر سوى أسلحته الَّتي كان منشغلاً بإِصلاحها، وقد كان عمر أثناء دخوله على هؤلاء يدخل فجأةً؛ إِذ يصحبه رجلٌ فيطرق الباب على الوالي، فيتكلَّم الرَّجل، ويطلب الإذن بالدُّخول له، ولمن معه دون أن يعلموا: أنَّه عمر، وحينما يدخل عمر إِلى الدَّار يقوم بالتَّمحيص فيها، والاطِّلاع على ما فيها من أثاثٍ.
وقد سمع عمر ـ رضي الله عنه ـ أنَّ يزيد بن أبي سفيان ينوِّع في طعامه، فانتظر حتى إِذا حان وقت عشاء يزيد؛ استأذن عليه عمر، فلمَّا رأى طعامه؛ نهاه عن الإِسراف في الطَّعام. ولم يكتف عمر بالمراقبة عن طريق هذه الزِّيارات بل عمد إِلى طريقةٍ أخرى، وهي إِرسال كميات من الأموال إِلى الولاة، وإِرسال من يراقبهم حتى يعرف كيف تصرَّفوا فيها، فأرسل إِلى أبي عبيدة بخمسمئة دينارٍ، فعمد إِليها أبو عبيدة، فقسمها كلَّها، فكانت امرأته تقول: والله لقد كان ضرر دخول الدَّنانير علينا أكثر من نفعها ! ثمَّ إِنَّ أبا عبيدة عمد إِلى خَلَقِ ثوبٍ كنَّا نصلي فيه، فيشقِّقه، ثمَّ جعل يصبر فيه من تلك الدَّنانير الذَّهب ويبعث بها إِلى مساكين، فقسمها عليهم حتَّى فنيت. وعمل عمر الشَّيء نفسه مع ولاة اخرين في سفرته تلك إِلى الشَّام.
ولم يكتف عمر بمراقبته للعمَّال أثناء سفره، بل كان يستقدمهم إِلى المدينة، ثم يوكِّل من يراقبهم في أكلهم، وشربهم، ولباسهم، ويفعل ذلك بنفسه أيضاً.
7 ـ الأرشيف أو الملفَّات الخاصَّة بأعمال الخلافة:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ حريصاً كلَّ الحرص على حفظ الأوراق الخاصَّة بالولايات، وبالخلافة عموماً، وكان أكثر حرصه على حفظ المعاهدات؛ الَّتي يجريها الولاة مع أهل البلاد المفتوحة منعاً لظلم أحدٍ، فقد ورد: أنَّه كان هناك تابوت لعمر بن الخطاب فيه كلُّ عهدٍ كان بينه وبين أحدٍ ممن عاهده، ويمكننا أن نطلق على هذا التابوت (الأرشيف) أو الملفَّات الخاصَّة بأعمال الخلافة، ولعلَّ الولاة أيضاً كانوا يحتفظون بأوراقهم، ومكاتباتهم للعودة إِليها عند الحاجة، وحتَّى لا تلتبس عليهم الأمور.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf